بي بي سي عربي: كيف كان أثر “هنا لندن” في العالم العربي؟

بي بي سي عربي: كيف كان أثر “هنا لندن” في العالم العربي؟
- إيناس عبد الوهاب
- بي بي سي نيوز عربي
أحمد كمال سرور، أول مذيع يقرأ نشرة في بي بي سي العربية في عام 1938
على مدى خمسة وثمانين عاما، رافقت إذاعة بي بي سي العربية أجيالا عديدة. و مع دقات بيغ بن وعبارة “هنا لندن” وأصوات مذيعيها ارتبطت في أذهان مستمعيها بذكريات خاصة، وكانت لهم المصدر الرئيسي للمعلومة والخبر والتحليل المعمق.
لكن مع تطور وسائل الاتصال وتغير الطريقة التي يستهلك بها الجمهور الأخبار والمحتوى الإعلامي، إضافة إلى الضغوط المالية، قررت خدمة بي بي سي العالمية وقف البث الإذاعي باللغة العربية، ضمن خطة لإعادة الهيكلة وتسريع وتيرة التحول نحو الإعلام الرقمي.
واقع جديد في عالم متغير، لكن يظل راديو بي بي سي علامة إعلامية بارزة في العالم العربي، ويبقى لدى مستمعيه “أكثر من مجرد إذاعة”.
حضور لافت
يقول عمرو موسى الأمين العام السابق لجماعة الدول العربية إن راديو بي بي سي هو الإذاعة الأجنبية الأولى التي كان يحرص على الاستماع إليها، بسبب توافر عنصر المصداقية فيما تبثه من أخبار، وإن اختلف كثيرا مع تحليلاتها السياسية، كما يقول.
عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية
ويروى موسى واقعة تجسد حضور إذاعة بي بي سي في العالم العربي، قائلاً “أتذكر خلال مرحلة كتابة الدستور العراقي الجديد بعد الغزو الأمريكي أن دارت مناقشات بيني بصفتي أمينا عاما للجامعة العربية آنذاك وبين عدد من المسئولين العراقيين بشأن مادة في مسودة الدستور تنص على أن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية. وكنت قد أبديت تحفظي على هذه المادة باعتبارها تنطوي على تقسيم وتفرقة للعراقيين، وأكدت على أن العراق جزء من العالم العربي وأن هذا ما يجب أن يكون واضحا في الدستور”.
ويضيف ” وإذا بي في يوم ما وأنا استمع كعادتي لإذاعة بي بي سي في الصباح أجد خبراً يقول إن الدستور الجديد في صورته النهائية ينص على أن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية، فتواصلت مع الإذاعة على الفور وطلبت أن أدلي بتعليق على الخبر، وهو ما حدث في غضون 30 دقيقة تقريبا. وخلال المداخلة، أوضحت موقفي من صياغة تلك المادة والآثار السلبية التي قد تترتب على اعتمادها”.
ويشير موسى إلى أن مداخلته مع إذاعة بي بي سي كان لها صداها على الفور، إذ تواصل معه عدد من المسئولين العراقيين الذي طلبوا منه اقتراح صياغة بديلة وهو ما تم بالفعل.
ويختتم عمرو موسى حديثه عن هذا الموقف قائلا ” كانت هذه نهاية سعيدة لجزء من التعاون الذي جرى بين الجامعة العربية والعراق، وقد كان لإذاعة بي بي سي دور فيها”.
“افتح إذاعة لندن كي نعرف ماذا يحدث لدينا”
أما سيد هارون وزير الدولة للثقافة السابق في السودان فيقول إن أكثر ما كان يربطه بإذاعة بي بي سي هو حرصها على “تقديم الرأي والرأي الآخر بدون تشنج أو تجريح” على حد تعبيره.
ويضيف هارون أن راديو بي بي سي كان دائما مصدرا لـ”الخبر الصادق والمعلومة المفيدة”، مستشهدا بحوار في مسرحية “ضيعة تشرين” السورية المعروفة يقول فيه البطل غوار الطوشة (دريد لحام) لصاحب المقهى “افتح إذاعة لندن كي نعرف ماذا يحدث لدينا”. ويضيف هارون “لأن المصداقية التي تحرص عليها إذاعة بي بي سي قد لا تتوفر في أغلب وسائل الإعلام المحلية”.
صدر الصورة، SAYED HAROUN
راديو بي بي سي عربي بالنسبة لسيد هارون كان “وسيلة اتصال بالعالم”
ويرى هارون أن إذاعة بي بي سي نيوز عربي كانت بمثابة “مدرسة” للمواطنين وللإعلاميين، قائلاً ” أتذكر أنه عام 1988 وقعت سيول وفيضانات جارفة قطعت الطريق تقريباً إلى منطقة شرق النيل. وفي ذلك الوقت أذاعت بي بي سي تقريرا عن الوضع في المنطقة، أجرت خلاله مقابلة معي بصفتي نائبا برلمانيا آنذاك. وقد تحدثت بدوري عن صعوبة الموقف في المنطقة وطلبت تدخل منظمات الإغاثة. وبالفعل لم تمر ساعات إلا وقد انهالت علينا المساعدات بسبب ذلك التقرير”.
ويضيف “شعرت حينها أن إذاعة بي بي سي قادرة على أن تصلنا بالعالم”.
مساحة أكبر للمرأة والشباب
وكحال كثيرين في العالم العربي ممن ارتبطت طفولتهم بدقات بيغ بن وعبارة هنا لندن، تقول الدكتورة ليلى نيقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية ” رافقت إذاعة بي بي سي وعيي السياسي منذ الطفولة، حين كان والدي يتابع الأخبار في الصباح ولا سيما تلك الخاصة بالحرب الأهلية. وكان الاستماع إلى بي بي سي وسيلة للمواطن اللبناني العادي – خاصة هؤلاء الذين كانوا يعيشون بالقرى- لمعرفة ما يجري بشكل محايد تقريبا، دون الدخول في تفاصيل الحروب الكلامية التي كانت تتقاذفها الإذاعات اللبنانية”.
صدر الصورة، LAILA NICOLAS
ترى الدكتورة ليلى نيقولا أن إذاعة بي بي سي العربية هي من أدخلت المرأة في العالم العربي مجال التحليل السياسي
وتضيف نيقولا أن وسائل الإعلام اللبنانية كانت بدورها ساحة للمعارك، و”هنا جاء دور إذاعة بي بي سي ليرى المشهد من فوق، دون الانحياز لهذا الطرف أو ذاك”.
من ناحية أخرى، تشير الدكتورة ليلى نيقولا أستاذة العلاقات الدولية إلى أمرين تقول إنهما لفتا نظرها في تعامل إذاعة بي بي سي مع الجمهور العربي، الأول هو أنها أبرزت مساحة واسعة للمرأة من خلال “إدخالها عالم التحليل السياسي الذي كان قاصراً على الرجال الكهول المسيسين”، على حد تعبيرها. أما الأمر الثاني فهو إفراد مساحة للشباب والتواصل مع الجمهور. وترى نيقولا أن إذاعة بي بي سي كان لها الريادة في الأمرين في العالم العربي.
“جامعة معلوماتية”
“بحثنا عن الحقيقة ووجدناها في بي بي سي”، هكذا وصف سامي النصف وزير الإعلام الكويتي السابق خبرته مع الإذاعة التي يرى أنها “رفعت سقف الحريات” في العالم العربي من خلال المصداقية في نقل الخبر بعيداً عن الأيديولوجيات أو الأجندات الخاصة، على حد قوله.
ويقول النصف ” حتى الستينيات من القرن الماضي كنت أتابع إذاعات عربية، وللأسف جاءت نكسة عام 1967 واكتشفت أن كثيراً مما كان يقال لنا لم يكن دقيقاً وأن إذاعة بي بي سي العربية هي من كان ينقل الخبر بعيداً عن الأدلجة”.
صدر الصورة، SAMI ALNISF
سامي النصف وزير الإعلام الكويتي السابق
ويضيف ” اعتمدنا كثيراً على إذاعة بي بي سي العربية في أحداث كبرى عديدة، لاسيما أثناء الغزو العراقي للكويت عام 1990 وحرب تحرير الكويت و كذلك أثناء الغزو الأمريكي للعراق، لأنها هي من كان يعطينا الحقيقة، وهذا الأمر يزعج البعض أحيانا، لكن ما كان يعطي المصداقية لإذاعة بي بي سي هو أنها لم تكن تسعى لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، كانت تقدم الحقيقة ومن يبحث عن الحقيقة كان يستمع للبي بي سي”.
مسألة أخرى أشاد الوزير الكويتي السابق بأهميتها بالنسبة للعالم العربي، وهي أرشيف إذاعة بي بي سي من اللقاءات مع المسئولين والشخصيات البارزة الذي أصبح “أقرب إلى جامعة معلوماتية” في وقت تفتقر فيه الكثير من وسائل الإعلام العربية الاهتمام بمسألة “الأرشفة” على حد تعبيره.
محتوى متنوع
على مدى خمسة وثمانين عاما، قدمت إذاعة بي بي سي العربية محتوى متنوعا لم يقتصر على الأخبار والبرامج السياسية، بل امتد ليشمل البرامج الثقافية والفنية والترفيهية إلى جانب البرامج التفاعلية مع الجمهور، ما جعل لها أثراً كبيراً في وجدان المستمع العربي، كما يؤكد الشاعر المصري فاروق جويدة الذي يرى أن من أبرز ما ميز راديو بي بي سي في نظره هو الاهتمام بالثقافة العربية، من خلال ما قدمه من برامج متخصصة وحوارات مع مثقفين وكتاب وشعراء، فضلاً عن الالتزام في المحتوى باستخدام اللغة العربية الفصحى.
صدر الصورة، FAROUK GOWEDA
الشاعر المصري فاروق جويدة
ويضيف جويدة أن توقف بث إذاعة بي بي سي يمثل خسارة كبيرة للمستمع العربي لأنه “مهما انتشرت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فلا شيء يغني عن تجربة الاستماع والعلاقة الحميمة التي تربط المستمع بالراديو”.
لغة الضاد
ارتبطت إذاعة بي بي سي في أذهان المستمعين باللغة الفصحى المفهومة لدى الجميع بعيدا عن اللهجات المحلية، وهنا يرى الدكتور محي الدين عميمور الأديب والسياسي الجزائري أنها لعبت دورا بارزا في تعزيز مكانة العربية في بلاده.
صدر الصورة، Social media
الأديب والسياسي الجزائري محي الدين عميمور يرى أن إذاعة بي بي سي لعبت دوراً في تعزيز مكانة اللغة العربية في بلاده
ويقول ” أعتقد أن إذاعة بي بي سي لعبت دورا بالغ الأهمية بالنسبة للجزائر، حيث كانت جهودنا لدعم حضور اللغة العربية في البلاد ولاسيما الفصحى، بحاجة إلى مصدر نأخذ منه الريادة والعبرة، وهنا كان دور الإذاعة”.
ويضيف ” كنا نأخذ على إذاعة بي بي سي أنها لم تكن تهتم بالمغرب العربي بقدر اهتمامها بالمشرق العربي، لكن يبقى أن ما قدمته من محتوى كان يتمتع بالرصانة والذكاء ولا يمكن نسيانه، بالتالي لا بد من الاعتراف بأن راديو بي بي سي كان مدرسة إعلامية بالغة الأهمية، كثيرون تعلموا منها وكثيرون لم يتعلموا منها ففشلوا”، على حد قوله.
مناخ جديد
يكاد لا يخلو حديث عن إذاعة بي بي سي من كلمة “مدرسة” في وصف تأثيرها على وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، كما تؤكد الدكتورة سحر خميس أستاذة الإعلام بجامعة ميريلاند الأمريكية، التي ترى أنها أسست “مدرسة خاصة في العمل الإذاعي وفي الإعلام بشكل عام، وكان لها خط متميز على مستويي الشكل والمضمون”، وبالتالي فإن توقف بثها يمثل خسارة كبيرة لمتابعيها.
صدر الصورة، SAHAR KHAMIS
ترى الدكتورة سحر خميس أن بي بي سي عربي أسست “مدرسة خاصة” في الإعلام
ومع ذلك، ترجح أستاذة الإعلام أن التكنولوجيا الحالية توفر فرصاً يمكنها الاستفادة منها، قائلة ” في رأيي ليست هذه نهاية بي بي سي كإذاعة ولكنها بداية جديدة تتماشى مع العصر الحديث، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن أكثر من 65% من السكان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من فئة الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما وأغلب هؤلاء يتابعون الأخبار والمحتوى عن طريق الوسائط الإلكترونية”.
وتضيف “بقدر حزننا على فقدان عبارة هنا لندن وهذه الإذاعة المميزة بشكلها التقليدي، أرى أن هناك فرصة لاغتنام المناخ الجديد الحالي من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية المختلفة والبودكاست لتقديم محتوى جديد يتناسب مع العصر”.
مسيرة مستمرة: متغيرات وثوابت
بالفعل، رغم توقف البث الإذاعي ستستمر بي بي سي في خدمة الملايين من جمهورها، كما يؤكد في الختام محمد يحيى رئيس تحرير المنصات الرقمية في بي بي سي نيوز عربي الذي يقول إنه رغم وجود أمور متغيرة مع الزمن ” تبقى لدينا الثوابت المتعلقة بالقيم التحريرية التي طالما التزمنا بها سواء في الإذاعة أو التلفزيون أو على المنصات الرقمية.”
ويشير يحيى إلى متغيرات تتعلق بالتطور التكنولوجي الهائل الذي شهدته وسائل الاتصال قائلا ” الآن مع تطور إمكانيات الأجهزة المحمولة وانتشار الاتصال بالإنترنت على نطاق واسع في المنزل وفي الشارع والسيارة وفي أي مكان، بات الهاتف الذكي – الذي تشير الأرقام إلى أنه بحلول عام 2025 سيكون متاحا لدى 85% من السكان في العالم العربي – يجمع الصحافة المطبوعة والإذاعة المسموعة والتلفزيون المرئي في جهاز واحد صغير”.
ويضيف أن هذا التطور أدى إلى تغير عادات ومتطلبات الجمهور، وبالتالي ظهور باقة جديدة من الوسائط التي تمكن المتلقي من أن يحصل على الخبر بأسرع وقت، وكذلك أن يستمع أو يقرأ أو يشاهد التحليل والشرح ويتفاعل معه في الوقت الذي يناسبه.
وأشار يحيى إلى أنه رغم توقف بث الإذاعة عبر الأثير، سيظل محتوى بي بي سي بما في ذلك المحتوى الصوتي متاحاً للجمهور الواسع عبر موقع بي بي سي نيوز عربي ومنصات بي بي سي للتواصل الاجتماعي ومنصات البودكاست.
ويختتم قائلاً “الخلاصة هي أن صوت بي بي سي عربي مستمر وسيكون ذلك بشكل أكثر مرونة ومناسبة لوقت وظروف الجمهور، بحيث يختار المحتوى الذي يريده، في الوقت الذي يناسبه”.