دهليزُ البلدة

محمد سليمان الشاذلي
في بلدتنا، قريباً من طاحونة علي وإنداية كاكا لبيع المريسة والعرق، هنا، حيث طعن أبوروف أحمد بالسكين فأرداه قتيلا ليخلو له قلب لويزا أخت بنت إكريم زوجة إسحق الأب لا إسحق الجد ؛ وحيث لعب طاهر عاشق روزا بنت إسحق الإب البلي مع الولد أبو الدرداق هنا حيث تفور البرمة بعد البرمة فتهيج حتى تبيض فتزبد ، حوش صغير مهجور سميناه الدهليز لأنه كان كلّه مسقوفا. وكان له ، رغم أنه لا يزيد عن أسطوانة ضيقة قطرها ثلاثة أمتار وعمقها أحد عشر مترا ، باب غليظ من خشب السنط يطل على الدرب المفضي لبيت إبراهيم عطا وبيت إسحق الأب وإسحق الجد وبيت حاج محمد والمقدَّم ، وليس ببعيد عنه بيت رجبية الممرضة وبتول بنت شرف الدين ذات الشلوخ الجميلة والحناء الدائمة مع عطر وعبق الطلح والشاف الذي يسبقها ويعقبها ، ليس ببعيد من ذلك بيت بتول الأخرى بائعة البندورة والخضار: بتول بنت العوض ثم بيوت علي النجار وأبوصلاح الحلاق وعلي تنيَّة اللوطي.
حينما نقترب من الدهليز بعد فراغنا من حفظ القرآن في خلوة الشيخ الفنجري وانطلاقنا وتحللنا من فرط نظام الخلوة ودرسها ، كانت تتناهى إلى آذاننا من جوفه أصداء طنين ورنين وصفير لأحاديث دهرية خافتة غامضة مبهمة كتلك التي يبثها مذياع الإنداية المعطوب ممزوجةً بالأغنيات الحزينة- فقط من أجل السكارى. كذلك ، كان عمق الدهليز يأنُّ بوهوهات جنسية بعيدة مضربة.كنا نشعر بخوف ممزوج بالفرح لمجرد سماعنا لتلك الأصوات المضطربة. أحيانا كنا نميز نغمة غريبة كأنها العويل فتفيض عيوننا بالدموع التي تسيل حتى تبتل منها قمصاننا دون أن ندري ودون أن نحب.
مرةً قال أبوصلاح الحلاق: “هذا الدهليز يشبه مركبة فضائية رأيتها في فيلم ظلت تعيده سينما الوطنية في المدينة القريبة لأعوام وأعوام”.
وتنهد على النجار ثم زفر كالمتحسر وكان : “لو أن لي خشب بابه ، يا الله! إنه من السنط الحر ، السنط الأصلي”.
ودنا منهم حينئذ علي تنية اللوطي وكانا قرب دكان بخيت الخياط فرفع طرف جلبابه السكوبيس الرهيف وطقطق علكة في فمه ثم غرود عينيه على نحو لا تجاريه أكثر نساء البلدة أنوثة وقال: “بالأمس حلمت بقطة داخل سروالي تحك وتحك في فتحة شرجي ثم إن …” .
“اسكت يا خول انتهره علي النجار لكنه أمال عنقه بلفتة أثوية صارخة وأتم : “ثم إن الدهليز انفتح ودخل كله في …” فانتهره أبوصلاح الحلاق هذه المرة فصمت ثم مضى.
أما نحن فمنذ أن تفتحت عيوننا على البلدة لم نرَ الدهليز إلا وهو مغلق ، على بابه وأنحائه وأقواسه وتعرجاته وانحنائه الحميم من الخارج غبار وتراب وأعشاش زارزير وقماري وخيوط من نسج العناكب مغبرة كثيرة . بالنسبة لنا ، كان الدهليز يشبه دودةً هائلة ميتة أو قمرة مركب دفعها يم البلدة لتحط فتركد للأبد هاهنا ؛ فقط لتملأنا بالحزن والدموع من أجل نغمة غريبة ووهوهة سحيقة شبقة.
لكن كل ذلك تغير ذات خميس غائم ندي ، انتفضت الدودة الميتة وعمرت القمرة بالمئات من شتى صنوف الناس! أما كيف اتسع الدهليز واحتواهم في جوفه الضيق فما من أحد دري! حتى فؤاد الفوال وأبو شنب الكوارعجي وصبييهما دقوش وعووضة ، والبرقاوي بائع الترمس والكبكبي وبَيْينْ بائع الباسطة والبسبوسة والكنافة ولقمة القاضي- وهم وحدهم من دخله من أن أهل البلدة – لم يزيدوا بعد أن خرجوا من الدهليز على أن قالوا :
“كاد مواء القطط المغتلمة أن يصم آذاننا ! كان النفس عسيراً جدا وكانت رئاتنا تؤلمنا إذْ مُلئت حرّاً رطبا فصارت بثقل الحوت ، أُدخلنا دون أن ندري كيف سينتهي بنا الدهليز ومَن فيه!”.
وسألهم الشيخ شيَّة وخالد فقعت تتعس منهم العين إثر كل حرف : “هل كان هناك نكاح؟” .
قال إسحق الأب عن إسحق الجد: “هذا الدهليز عُدَّ زقاق البلدة في الزمن الأول حيث كانت العاهرات يفتحن أفخاذهن بعرض الليل وطول النهار. هه ، ذاك زمان قد مضى”، “لكن من فتح الباب الذي سدته السنون وكيف بدأ هذا الألم المريع؟” سأل إبراهيم عطا. أما ود عباس والسر الجزار- ود عباس كذلك جزار- فقد جلسا في إنداية كاكا يرشفان العبار بعد العبار ويمسحان الرغو عن شفاهما وشواربهما وهما يتساءلان : “من بعد شأن لويزا وروزا ياترى ما الذي سيجد؟” وعلا لحظتئذٍ مواء رهيب فكفا عن الكلام وانصرفا ينصتان. واغتسلت نسوة الحي على نغم المواء الوحشيي وغمغمن يسألن وهن بعد عراة محلولات الشعور مبلولات الخصور والأثداء : متى بدأ كل هذا؟” وما كان يسترهن غير الخص والقنا والثمام.
نحن أولاد البلدة ، نعلم كيف بدأ كل شيء؟ .
كنا في وقت العطلة من خلوة الشيخ الفنجري ننفق أيامنا عزَّ الصيف عند ناصية الخليفة عبد المجيد ، الناصية ذات الراية ؛ راية الحولية وذكر الله على ضرب النوبات والشَتَم تحت اسم السيدة زينب غفيرة مصر التي فصلتها الصحارى والأنهار والأرياف بألاف الأميال عن بلدتنا ، هنا ودوما في وقت العطلة ينعقد مجلسنا قريبا من إطار الشاحنة الضخم المهترئ المثبت على الزاوية حيث ضبطنا ذات جمعة الولدين دقوش وعووضة عراة مقترنين اقتران الكلب بالكلبة ؛ نهضا وحاولا الانفصام فما أسعفتهما الحيل! كان منظرا أخاذاً بالغ التعقيد ، بالغ الخيال! هل كان دقوش هو الذي من تحت وعووضة هو الذي من فوق؟ لا نذكر اللحظة على وجه التحديد ، لكنا نذكر أن حاج محمد صرخ بصوت عال فقال: ” هذا من عمل آل لوط . اسألوا شيخنا الفنجري يفتينا في أمرنا فهو للقرآن حفيظ”؛ الحادثة أثارت الكثير من الجدل لكن ولأن الجميع أنكر إنكارا حاسما أنه قد رأى المرود في المكحلة رأي العين- رغم أن المرواد كان أسودَ جدا والمكحلة محمرة جدا وكلاهما في غاية البيان- فقد انهمكت البلدة في جدال فقهي عميق صميم أسهب في تقصي الأمر في مذهب الإمام مالك ثم تعداه لبقية الأئمة الثلاثة. غير أن ما يهم الآن هو أننا وإذ نحن جلوس عند الناصية سمعنا ذات صباح صفير قاطرة البخار التي تخصص في هذا الوقت من العام لنقل البضائع لا المسافرين ، كنا نميز نغم صفيرها من قبل أن تدخل نفق البلدة وحين تدخله ومن بعد أن تخرج منه لتصك عجلاتها الحديد على سكك حديد البلدة فتنشج في صفير عتيد ثم تهمد. ذلك الصباح نزل من قطار البضاعة شخصان : رجل وامرأة غريبا الهيئة يحملان تمثالين، أحدهما لقطة من حجر وكان على كتف الرجل والآخر لقط من خشب وكان على كتف المرأة. سبقهما صدى خطواتهما المنتظمة السريعة الواثقة ، ثم اقتربا من الناصية: أعينهما تشبه لون باب الدهليز وفي جباههما تجاعيد خفيفة متقاطعة مضطربة ذكرتنا بالأصوات الحميمة التي يصدرها جوف الدهليز.
كانا صامتين لا يُسمع منهما غير وقع الخطى الثابتة القاصدة.
مرَّا بنا عند الناصية حيث اعتدنا الجلوس ؛ لاح الرجل بدينا قصيرا أصلع له كرش برميلي عظيم ، بدا قوي الفك كبير الأنف أسفع الخدين وتحت ركبتيه تشنجت ساقاه نحيلتان مكسوتان بالشعر ، شعر يشبه شعر القطط! ورأينا منه قدمين صغيرتين جدا على الرغم من أنه خبأهما في حذاء قماشي خفيف اخضر اللون. أما صاحبته فقد بدت في تهاديها نحيلة طويلة رشيقة زهراء الخدين رهيفة الأنف ممتلئة الشفتين ممتلئة الساقين لردفيها إيقاع جنسي لعلاع وقاد هزنا هزا فعكفنا على أثره نلمس من أجسامنا مكانا سريا. لم ينظرا ناحيتنا بل مضيا بخطوات واسعة لَهِفةٍ مشتاقة حتى وصلا باب السنط الضخم فوقفا عنده وأنزلا التمثالاين: القط الخشبي والقطة الحجرية ، ثم أخرجا مفتاحا صدئا من النحاس الثقيل ؛ أدخلاه في الفتحة البيضوية وأعملاه فصرَّ الباب وانفتحت ضلفته الهائلة الواحدة في صرير وحشرجة أشبهت حشرجة البعير المنحور. كففنا عما قد بدأناه ؛ أفزعنا الصوت لكنه لم يدفعنا للبكاء إذْ كفَّت تلك الأصوات المفرحة المخيفة المنتهية بالعويل عن الانبعاث. فضولنا في أن نرى ما وراء الباب دفعنا صوبهما ، عدونا حتى وقفنا عندهما لكنهما رفعا قط الخشب وقطة الحجر ، قفزا فنطَّا عتبة داخلية عريضة قد شيدت بمكعبات دقيقة من السنط والحجر والحديد ، دخلا ثم التفتا لم يزل القط والقطة بيديهما ثم شدَّا الباب وحدجانا بنظرة مخيفة مشمئزة والباب قد توارب.
تعلقت عيوننا بأعينهم.
ثمَّ ساد صمت طويل.
“هل أنتما أصحاب الدهليز؟” سألناهما بصوت واحد نفرق الصمت الذي صار طوداً.
لم يجيبا. فلما أعدنا السؤال أمرانا بحزم بالانصراف.
واندفع الباب فكأنه تدحرج القاطرة.
ترد صدى انقفال الباب دهراً ثم صفَّر قطار البخار قبل النفق وداخل النفق وبعد النفق وغادر البلدة بعد أن ذاع في البلدة خبر وصول الغريبين وخلو القطار من أي صنف من أصناف البضاعة. رجال البلدة قالوا إن المطر سيهطل عما قريب وإن القطار لم يأتِ بالتموين ، كما أبدو خشية كذوب من أن تعود العاهرات فيفتحن أفخاذهن بعرض الليل وطول النهار. أما نسوة البلدة فقد قلن بعد استحممن واستغفرن الله لا بد من زيارة الجارة الجديدة الطويلة الجميلة وحمل الفطور إليها كشأنهن مع الساكنات الجديدات لأن مطابخهن لا تكون قد جهزت بعد لصنع الطعام ؛ عليه طهون هن من أجل الغريبين فطور إكرام واستقبال مشبع من العصيدة والقراصة وملاح الشرموط والكمونية وشواء الضأن والكبد النيئ مع الشطة بالليمون والدمعة والسلطة الخضراء والشواء وسلطة البازنجان والسكسكانية والشعيرية. ثم مع ارتفاع شمس الضحى حملن الصواني على الرؤوس وعلى الكتوف يتقاطرن بها صوب باب السنط الغليظ. طرقن على الباب وطرقن وبعد دقائق سبع فتح الغريبان الباب حريصين على مواربته من ورائهما.
“شرفتما البلدة. خطوة عزيزة”. قالت عشَّة امرأة المقدَّم.
لم يرد الرجل ولم ترد المرأة.
“عرفنا بقدومكم الميمون فجئنا بفطور العادة.” قالت عظمة امرأة حاج محمد.
ساد صمت.
“شكراً ، سنقبل الفطور لكنَّا نعتذر عن إدخال أحد.” قال الغريبان.
من نسوة البلدة فُغرت أفواه واضطربت عيون لكنهن أسلمن مسلوبات القوى وهن حائرات الصواني الملئ.
“من أين اتيتما” سألت بقيع امرأة الشيخ الفنجري.
“…، …”
“هل ستمكثان في البلدة؟ هل أعجبتكما بلدتنا؟” سألت أم الخير ، أيضا زوجة الشيخ الفنجري.
“…، …”
“لماذا لا تتكلمان؟ هل أنتما أبكمان؟” صاحت فيهما كاكا صاحبة الإنداية.
“…، …”
“لا بد أنكما بحاجة لبرمة مريسة فائرة هاجة وقاجة. لا. أنتما بحاجة لعرقي ضكر، عرق بلح.” لحظتئذٍ ضحكت امرأة على سيد الطاحونة وهي تغطي فمها بطرف ثوبها.
وانغلق باب السنط الثقيل من بعدما صرَّ وأزَّ وتأوه آهة ما بين آهة الحيوان وآهة الإنسان.
“يأكلوا السم الهاري” قالت رجبية الممرضة بعد أن بصقت على الأرض وتأسفت على صينيتها.
وقالت بتول بنت شرف الدين:
“والله مسخرة!”
أما بتول بنت العوض فزفرت:
“طرد في عز الصباح! على عينك ياتاجر ! وكمان عايزين يأكلوا! تفي، تفو. عالم ما تخجل ولا تستحي.”
“أنشاء الله يأكلوا السم الهاري.”، أعادت رجبية الممرضة.
وفي تلك اللحظة انطلق من باطن الدهليز مواء جنسي مكتوم، مواء كالعواء أو كالصرخة المزلزلة ما لبث أن هدأت فصارت إلى ضرب من التأوه غريب.
ثم ساد صمت طويل فتلفتت النسوة وانطلقن لا يلوين على أحد تملأهن أحاسيس ملغزة موحية.
وإذْ عادت النسوة ودخلن بيوتهن رأينا نحن أولاد البلدة من مكاننا عند الناصية حيث راية الحولية : حولية السيدة زينب غفيرة مصر ترفرف فوق إطار الشاحانة المثبت عند الزاواية ، الإطار الذي شهد مضاجعة الصبيين دقوش وعووضة ؛ رأينا تسعة رجال غرباء يحملون كتباً كثيرة ، كتبا كبيرة وأخرى صغيرة، منها ذات الألوان ومنها ذات الحبر الأسود والأحمر ، فيها والتي تغلف بالجلد والأخرى التي تغلف بالورق وتلك التي بين بين.
قصدنا الرجال التسعة وسألونا:
“أين الدهليز؟” .
تشجعت أنا وسألتهم أرقب سمتهم الجاد وقمصانهم البيضاء وبناطلينهم السوداء:
“من أنتم؟” .
“نحن أصدقاء لصاحبي الدهليز” .
وساد صمت من قبل أن يردفوا: “نحن أصدقاء لقطة الحجر، لقط الخشب” .
نهضنا عندئذٍ من الناصية وقدناهم إلى باب السنط الغليظ. نقروا الباب نقرة واحدة فصرَّ الباب وخرَّ بحشرجة البعير المنحور ثم إن هي إلا هنيهة وأطل وجه الرجل الغريب ثم ظهر وجه المرأة الغريبة ودون كلمة أدخلا الرجال التسعة وأغلقا الباب. عند الضحى وقفت عند ناصيتنا عربة بولمان مكتوب على جانبها باللون الأخضر: جريدة جميع الشؤون من السياسة إلى الفنون. وإذْ نحن في عجب نزل من البولمان ستة رجال وست نساء غرباء وسألونا:
“أهذا هو الطريق إلى الدهليز؟”
قلنا نعم وسرنا بهم إلى باب السنط الغليظ فطرقوه طرقة واحدة فصرَّ وحشرج وشخر ثم انفتح وأطل وجه الرجل الغريب ثم ظهر وجه المرأة الغريبة ودون كلمة أدخلا ألرجال الستة والنساء الست. أخذتنا الحيرة وقلنا لا داعي لأن نرجع إلى الناصية، فلنبق بقرب الباب علنا نسمع ما يشرح. انقضت ساعة، صارت الشمس في سُرَّة السماء حين وقفت عربة بوكس كومر مكشوفة وقفز من ظهرها بنشاط سبعة رجال وسبع نساء يرددون قصائد وأغنيات مما نفهم ومما لا نفهم ، دون أن يكفوا ، التموا وجعلوا يتأملون خارطة في يد أحدهم ثم صمتوا ثم رفعوا رؤوسهم ثم سألونا:
“أهذا هو الدهليز؟”
قلنا : “من أنتم؟”
قالوا : “نحن أصدقاء لصاحبيه. لقطة الحجر لقط الخشب.أهو الدهليز؟” .
قلنا: “نعم ولكن من أنتم؟”
ما حفلوا لنا برد بل طرقوا باب السنط العتيق الغليظ ذا الضلفة الواحدة طرقة واحدة فانفتح بعد أن صرَّ وشخر وحشرج فدخلوا وانغلق من ورائهم. وبعد زهاء نصف الساعة أقبل لوري أوستن محمل بجماعة غريبة الأطوار! أحصيناهم فكانوا قرابة الثلاثين من رجل إلى امرأة ومعهم شحنة ضخمة من لوحات على القماش وأخرى على الخشب وتماثيل ومنحوتات من الجبص والأسمنت والحجر.
سألونا وهم يتدارسون خارطة كبيرة:
“أهذا هو الدهليز؟ مؤكد. أليس كذلك؟” .
قلنا نعم فطرقوا السنط الغليظ طرقة واحدة فصرَّ وحشرج وشخر وانفتح فأطل وجه الرجل الغريب وأطل وجه المرأة الغريبة ثم دخل أصحاب اللوري بسائقهم وانغلق الباب. على جنب اللوري الذي كفت ماكينته عن الهدير قرأنا كتابة باللون الأخضر تقول :أعمال فنية فريدة: أعمال خالدة! .
تساءلنا كيف للدهليز أن يسع كلَّ هؤلاء الغرباء! وإذ نحن في حيرتنا رأينا بعد أحد عشر دقيقة فقط بص بدفودر أخضر نزل منه قوم يلبسون شأن الستة والستة الأوائل بناطلين سوداء وقمصان بيضاء عليها بابيونات سوداء وبيضاء ومعهم أصناف من الأعواد والربابات والطنابير والشيلوهات والكمانات والفيولات والجيتارات والساكسفونات والطبول مع ناي واحد قديم ، ثم نزل في حذر ثمانية يحملون بيانو تلمع أصابعه العاجية تحت وهج الشمس مثلما يلمع سواد صندوقه. تحت الشمس المائرة انتبهما إلى أن أصابع البيانو منحوتة في شكل رأس قطة تشبه قطة الحجر. تلفتوا بعض حين وهم يدرسون خرطهم ثم إنهم سألونا في هدوء وصوت خافت مبحوح لا يكاد يسمع:
“أهذا هو الدهليز؟” .
“نعم! ولكن من أنتم؟” .
“نحن أوركسترا الكوكب يا جهلاء”، رموها وقد اذدادت بحة صوتهم بحات.
وكانت المرة الأولى التي يشتمنا فيها ضيوف الرجل الغريب والمرأة الغريبة: صاحبي قطة الحجر، قط الخشب.
قلنا :
“لا نظن أن في الداخل موطأً لقدم”.
فضحكوا ثم طرقوا الباب طرقة واحدة فصرَّ وحشرج وشخر شخير البعير المنحور ثم انفتح وبرز وجه الرجل الغريب والمرأة الغريبة. دخلوا. ولم تمض خمس دقائق إلا وقد وقفت ثلاث عربات جيب كاكية اللون قفز منها جنود وضباط أشداء وسألونا ذات السؤال وهم يدرسون ذات الخارطة:
“أهذا هو الدهليز؟ هو ، أليس كذلك؟ أجب أنت هناك”.
وأشار إليَّ بذقنه فقلتُ : “نعم”.
هذه المرَّة لم نسأل ضيوف الرجل الغريب والمرأة الغريبة من هم فقد كانوا من جنود وضباط الجيش والبوليس ومعهم حفنة من مرتدي الملابس الملكية ؛ عرفنا بحدسنا أنهم من المخبرين السريين ؛ لم يطرقوا الباب إنما دفعوه دفعاً فصرَّ وشخر وحشرج وانفتح فلاح وجه الرجل الغريب ولاح وجه المرأة الغريبة يبتسمان وهما يدخلان الحكومة.
رجبية الممرضة التي كانت في طريقها من بيتها لبئر بركة لنشل جردل من الماء رأت المركبات الرابضة فسألتنا:
“ما هذه يا أولاد”
“لواري وعربات ضيوف السكان الجدد ، أهل الدهليز”
فزمَّت فمها مطلقة صجَّةً فاضحة خاصة بها وتنهدت ثم زفرت: “بقدر هذا ! الحمد لله صواني الأكل بالداخل كثيرة ، إنشاء الله تشبع الضيوف” .
ثم إنها استدركت قد عادها الغضب : “شبع! لا.فليأكلو الخراء البائت ، إسهال وإمساك يا رب. إنشاء الله أبداً ما يعرفو طعم الشبع” .
وبصقت ثم أردفت : “سألتك يا رب مشارق البلدة ومغاربها يأكلوا السم الهاري ، عمرها البلدة ما شافت جنس … ”
ولم تكمل رجبية الممرضة جملتها إذ أقبلت صوبنا مشيا على الأقدام وفود تترى لرجال دين مهيبي السمت عليهم قفاطين وعباءات وفرجيات سوداء ، على رؤوس بعضهم قلانس وعلى رؤوس بعضهم لُفت عمائم من الكرب والتوتال الأبيض وأخرى من القماش الأحمر ، ثم أنهم أعقبتهم وفود من بعدها وفود فقال فؤاد الفوَّال الذي زاد من كيمة فوله لليلة إنهم رجال ساسة من الحكومة ومن المعارضة جاءونا من المدينة ، فصدقنا لأن فؤاد الفوَّال كان يشتري ويقرأ جريدتي البلدة : جريدة القطار وجريدة المحطة.
أبو شنب الكوارعجي جاء إلى ناحينتنا وقال إنه سيزيد عدد القطع من كوارع الماعز والضأن والبقر والثيران ، ثم أردف لما رأى جمعا نظيفا ينزل من سيارت فارهة: “هؤلاء تجار وسماسرة المدن البعيدة ! لمَ يرتادون بلدتنا؟ دهليز بلدتنا؟” أبو شنب لم يكن يقرأ لا جريدة القطار ولا جريدة المحطة ذلك أنه يؤمن بأن ما يهمك تحدسه على الدوام دونما حاجة لتلك الزبالة التي تسمى الجرائد.
ومرَّ الجمع في جلابيب بيضاء وعلى الأكتاف شالات بيضاء مطرزة وبأيديهم عصا من المحلب وأخرى من العاج المطعم بالأبنوس.
نهضنا من عند الباب وقصدنا ناصية طاحونة علي قريباً من إنداية كاكا. وإذْ نحن هنالك، هلَّ البرقاوي بائع الترمس والكبكبي من أول الدرب ناحية بيت إسحق الأب وإسحق الجد فوقف عنده وهلةً؛ وكنا نعلم أنه واحد من عشاق لويزا أخت بنت إكريم زوجة إسحق الأب لا إسحق الجد. تلفت البرقاوي ثم صاح وقد غذَ الخطا وهو ينادي: “ترمس ترمس كبكبي”.
فصحنا فيه من ناصيتنا :
“أشيلك حلبي وألعب بي”.
“أسكتوا يا أولاد يا مطاميس يا قليلي الأدب والحيا”. ، صاح فينا البرقاوي بنبرة ليست جد بغاضبة لكنها معاتبة.
“لويزا ، لويزا. أحبك يا لوليزا ، أموت فيك يا لويزا.” صحنا فيه فغضب منا حينئذ حتى ارتجف الجردلان جردل الترمس في يمينه وجردل الكبكبي في شماله ، لكنه لحظة حاذى باب الدهليز انفتح الباب وخرج الرجل الغريب وخرجت المرأة الغريبة وجذباه مع جردل الترمس وجرد الكبكبي وأدخاله الدهليز وأغلقا الباب من خلفه بأزيز وصفير وشخير يشبه شخير البعير المذبوح! .
بقينا عند ناصية طاحونة علي حتى نضبت المريسة في إنداية كاكا وانطلق السكارى في أول الليل يقصدون فؤاد الفوَّال أو أبي شنب الكوارعجي ، غير أنا أُخذنا حينما انفتح باب الدهليز ذو الخشب السنط وخرج الرجل الغريب ومعه المرأة الغريبة فقصدا دكان فؤاد الفوَّال وعادا ومعهم فؤاد نفسه وصبيه دقوش وهم يحملون ثلاث قدور من الفول وطاولتين من الرغيف الطوستة وثلاث طاولات من الرغيف البلدي مع جردل من زيت السمسم وحلة ملئ بالمخلل وبصلاً وصحون طلس كثيرة وانطلقوا وسط احتجاجات سكارى الإنداية الذين لم تمتلء بطونهم بعد.
ولم تمض لحظات إلا وعاد الرجل الغريب والمرأة الغريبة فقصدا دكانة أبي شنب الكوارعجي وعادا ومعهم أبو شنب نفسه -بشاربه الكث المتدلي حتى ياقة قميصه- ومعه صبيه عوُّوضة وهم يحملون حلتين قيزان من النحاس فيهن ما قد شدَّ من أصناف الكوارع البقري والماعز والضأن مع طاولة رغيف بلدي مهول وجردل ليمون أخضر ووبستلة شطة خضراء وبستلة شطة حمراء وغابوا جميعهم داخل الدهليز ، ما زاد من سخط سكارى مريسة كاكا وزاد حيرتنا! كيف يتسع الدهليز لكل هؤلاء؟ سادت الظلمة ثم ذوت البلدة في ناظرينا فرأيناها تتحول إلى ما يشبه الذكرى ، ذكرى خضراء هائلة تلاصفت عليها ومضات أنجم بعيدة حمراء.
لم يغشَ نعاسٌ عين واحد منَّا.
بعد زهاء الساعة خرج الرجل الغريب والمرأة الغريبة فقصدا هذه المرة بَيْينْ بائع الباسطة والبسبوسة ولقمة القاضي والكنافة وعاد ثلاثتهم وهم يدفعون عربة بَيْينْ الخشبية ذات الإطارات المأخوذة من قديم الدَّراجات ، العربة ذات الجنبات الزجاجية التي تعكس ضوء الفانوس الكبير القابع بين صواني النحاس الملئ بالبسبوسة ولقمة القاضي والكنافة كلها تسبح أو تغرق في بحر من السمن الأصلي يلمع تارةً بلون الفضة وطوراً بلون الذهب. سارت العربة الحلوة يتدفق من ورائها على التراب خيط رقيق من السكر الأسمر المسحون يحاذيه خيط من العسل الذهبي وآخر من العسل الفضي. هذه المرة لم يبدِ سكارى مريسة كاكا سخطا إذْ قالوا إنهم زاهدون في كل ما هو حلو الآن وإنما هم يريدون الكورارع والشطَّة والليمون والمخلل وفول فؤاد الحار مع دوائر الرغيف الساخن.
وغنى أحدهم بصوت حسن سكران اللسان:
“فول فؤاد ترعاه العناية بين ضلوعي البصل اللذيذْ” .
صفقنا له. وتقدم الليل فنام السكارى وهم جوعى ؛ نحن كذلك كنا جوعى، لكن بعد أن تبخَّر الغناء شغلنا الفكر والكلام:
“كيف لهذا الدهليز الضيق أن يسع كل هذا الجمع”. قال أولنا.
“لابد أن كلاً منهم يقف الآن فوق الآخر!”. قال الثاني.
“لكن سقف الدهليز واطئ بالكاد لا يلامس رأس شخص متوسط!” قال آخر.
“والنسوة! يا إلهي! أيمكن أن…،” سأل رابع ولم يكمل سؤاله.
“وفؤاد الفوَّال! وصبيه دقوش!”. قال الأول.
“وأبوشنب وصبيه عووُّضة!” قال الآخر.
“والبرقاوي بائع الترمس والكبكبي! وبَيْين بائع الباسطة والبسبوسة والكنافة ولقمة القاضي!” أردف الآخر.
وإذ نحن في ذالك تناهى إلى أسماعنا عزف موسيقى وضرب طبل وانفجرت من بعد ذلك ضحكات تحوَّلت إلى قهقهات فصمتنا ومكثنا نصغي لذاك المزيج البهيج من الأصوات البشرية والآلآت الموسيقية. ثم بغتة علا ذلك المواء الشبيه بالعواء واستمر دهرا فانخلعت قلوبنا التي في الصدور ، ثم بعد حين تحول المواء والعواء إلى مناغاة جنسية هائجة مؤثرة تحولت في التو إلى آهة تتلوها آهة ما أعاد أيدينا إلى لمس الأماكن الحساسة من أجسامنا مجددا. للحظة خيل إلينا أن البلدة تهتز هزا عنيفا ملؤه النشوة ، ولا ندري أكان حقا أم زوالا ما سمعناه من صفير القطار يحك بقضبانه الحديد على سكك البلدة الحديد. وانتبهنا فرأينا رأي العين الدهليز وهو يرتج ويتمايل، يرتفع وينقض شأن الراهز يبغي الوصول.
ماءت قطة الحجر وماء قط الخشب واستمر ذلك فلم ينقطع مطلقا فوصلنا نحن المرة بعد المرة ، وصلت البلدة بأهلها ، بحيوانها بحجرها بأرضها المحرة الناشفة ، بسمائها المحيرة التي دنت إلى القريب حتى صارت إلى بعد بعد شبر من فوق الرؤوس.
ثم عكفنا على أجسامنا مستيقظين. لكن على حين غرة تناهت من بطن الدهليز ضحكات وقهقهات متوحشة ملأتنا حيرةً فرعبا. لم ندرِ كم قد مضى من الوقت لكنا بُعيد أو عند منتصف الليل سمعنا دويَّاً لطلقات نارية متتالية تحولت معها الضحكات والقهقهات إلى أنَّات وصرخات. ولم تمضِ دقائق إلا ورأينا خيطا من الدم القاني الحي ينسرب من تحت باب خشب السنط متتبعا ذات الخيط الرقيق من السكر الأسمر المسحون يحاذيه خيط العسل الذهبي والآخر من العسل الفضي مما قد خلفته عربة بَيْينْ بائع الباسطة والبسبوسة والكنافة ولقمة القاضي والذي خيل إلينا أننا نسمع استغاثات له مع فؤاد الفوال وصبيه دقوش وأبي شنب الكوارعجي وصبيه عووضة والبرقاوي بائع الترمس والكبكبي! .
بغتة تكاثفت سماؤنا القريبة بكتل من المزن لم يلبث أن انهمر علينا بنسيان ورعد وبرق خطف منا البصر وأغلق العين والوعي فغبنا إلا الدهليز وحده بقي فاستقر في تمرة الفؤاد.
انقطع الزمن فانتهى الليل.
<span;>لبثنا في البلدة لكن بلا زمان. ثم نضب المزن وارتفعت السماء إلى حيث ينبغي لها فاستيقظت البلدة بمجملها وفتحت أبوابها ، حتى باب إسحق الأب وإسحق الجد الذي كان دوماً موصداً انفتح ، الإنداية لم تكن لها جدران وبالتالي لم يكن لها باب ما جعل كاكا في موقع حسن لرصد الدهليز وبابه الخشبي، ثمَّ إذْ تساقطت أربعون دقيقة واهتز الأفق الشرقي وانفتح هو اخر لبرتقالة هائلة معراقة متوهجة ، سمعنا سيرانات سيارات الإسعاف تمؤ وتمؤ مثل قطة الحجر، مثل قط الخشب ، ذلكم من بعد ما رأينا على أسقفها شعلا حمراء تدور وتدور. كن تسع ، سيارات الإسعاف، قد كتب عليهن بخط واضح وبلون أسود تحت علامة الهلال الأحمر : إسعاف الإرسالية للأمراض النفسية والعصبية. اجتزننا. تسعتهن، نهبن حتى وقفن أمام باب الدهليز فانفتح الباب الخشبي، باب السنط من بعد أن صرَّ وشخر وحشرج حشرجة البعير المنحور ؛ وأطل وجه الرجل الغريب مع وجه المرأة الغريبة وأدخلا الممرضين والأطباء والسائقين التسع وكانت بشفة كل منهم سفَّة من تنباك سورج. أحد السائقين صاح من بعد أن بصق سفته السوداء من قبل أن يدخل الدهليز:
“يحيا العماري الجيد يحيا عماري سورج” .
انغلق الباب فران صمت لما حسبناه دهراً فنهضنا ودنونا من الدهليز نتفحصه في ذعر وقد تلفع بسجفة صباح عكر. دام الصمت. ثمَّ علا هتاف منظَّم منغَّم يدَّوي : “يحيا الدهليز … دهليز البلدة. يحيا الدهليز … يحيا الدهليز دهليز القطة. يحيا الدهليز دهليز القط.”؛ وران الصمت مجدَّداً ثم توالت ضحكات وقهقات أعقبتها آهات مواء طرب وجزل ولذة وألم طوت في طبقاتها البلدة بأسرها فلم يبقَ إلا الدهليز ومواء قطة الحجر ، مواء قط الخشب ؛ تقدَّم النهار جداً فامتدَّت الوهجة قفراً شاسعاً لا لون فيه إلا ما تبعثه عيوننا من ومضات خافقة خافتة.
عند العصر ، رغماً عنا تغشانا نعاس ثقيل ثقل أسطوانة وحيدة ملئ وصامتة فغطسنا فيه. ولما طفونا لم يكن في الكون إلا المواء ، مواء مر ، مواء حار. لم نقوَ فبكينا العصر كله. ولما غربت الشمس وطلع القمر كفَّ الدهليز عن البكاء واندلقت م جوفه دماء بشرية ذات رائحة منتنة كلها زفر ، تراجعنا إاى الوراء حين بصرنا قطة الحجر تنسل من خلفها قط الخشب ، رأينا الدم يقطر من بين الأنياب ، رأينا الحياة تسري منهما إلى الأرض المضطربة ، تناهى إلى ذاننا ما ميزنا فيه نغمة غريبة كأنها العويل ففاضت عيوننا بالدموع التي سالت حتى ابتلت منها قمصاننا دون أن ندري ودون أن نحب. وانتبهنا فإذا قطة الحجر قد مدت رجليها الأمامايتين ، خفضت رأسها ، رفعت ذيلها ومؤخرتها فتقدم قط الخشب فعلاها ، لحظتئذٍ ارتجف القمر ثمَّ استوت بسقف البلدة أنجم طازجة تلفح بحرارتها المزرقة القط والقطة ، تلفحنا نحن ، وما بدا وكأنه قد خلق للتو.
السرد جميل وملئ بالجرأة في الحديث عن الامور التي تتعلق بالجنس
القصة مشوقة جدا وتاخذ القارئ الي نهايتها غصبا عنه لما فيها من حديث عن الشخوص وتنقلات
الجزء المهم في القصة هو التحدث صرآحة عن الحكومة وفسادها