مقالات وآراء

عندما حلف عيدي أمين (ستين يمين) على الأكروبات السوداني

ابراهيم مصطفى 

# كان ذلك في منتصف السبعينات من القرن الماضي وكنت وقتها طري العظم خصب الخيال ، والسودان وقتذاك يرفل في ثوب العز والدعة والمهلة ، لا تجد اثنين من الصبية يتحدثان إلا وكان (شيطان ذلك الإعلان ثالثهما) ذلك الإعلان الذي ظهر و(سرى عبر الأثير معطراً … مثل الحرير نعومةً … ونداوةً … وتكسراً) فكل صبي يتوق ليسابق الريح لتسجيل اسمه مطلقا العنان لخياله وهو يرى نفسه في بلاد التنين  الصيني ، لكنه سرعان ما يصطدم بالواقع المرير ، فأنى له الحصول على موافقة الوالدين والأهل للسفر وحده إلى بلاد الواق واق هذه  (الما وراها ناس) والمكوث ثلاث سنين حسوما وهو لم يبلغ الحلم بعد!  ، كان أيسر له الحصول على (لبن الطير) من الحصول على الموافقة.

# كان مضمون ذلك الإعلان بأن الحكومة تود إرسال أطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة إلى 14 سنة إلى الصين للتدريب لمدة ثلاث سنوات ليكونوا نواة لأول فرقة أكروبات سودانية وأول فرقة أكروبات في إفريقيا والعالم العربي ، وبرغم علمي باستحالة حصولي على الموافقة راودتني فكرة الذهاب للتسجيل وتحقيق حلم (ركوب الطيارة) التي كنا نتأوه شوقا لها عندما نراها مساء وهي تشق عنان السماء بأزيزها وومضات أنوارها وزيارة بلاد التنين الصيني العجيبة والعيش مع هؤلاء الناس (القصار الصفر) الذين كنا نراهم في برنامج (لقطات) التلفزيوني الذي يقدمه فريد عبدالوهاب وهم ينططون مثل كرة التنس المطاطية بعيونهم (الكدايسية) الضيقة ونراهم في أفلام الكارتيه  (بروسلي) في سينما الوطنية أمدرمان وهم يطيرون ويتقلبون في الهواء كأن قانون الجاذبية الأرضية لا يشملهم . كان حلم التسجيل  يؤرقني خاصة وإنني كنت على يقين بأنني سأجتاز مسابقة التصفيات الواردة في الإعلان ، ولما لا !! وقد كنت ماهرا في (شقلبة الهوبا) و (مشية العقرب) وهي أن تمشي على أربع بظهرك باستخدام الأيدي والأرجل ، ولكنني لم أجرؤ على مفاتحة  (الحاج) أو حتى (الحاجة) والإفصاح لهما برغبتي ليقيني المسبق بأنني لن أحصل على موافقتهما  و(كتمت الرغبة في حناني)…(ما شافوها ناس الحي) !  لتصبح حلما وانطوى و(صرحا مِنْ خيال فَهوى وحديثاً من أحاديث الجوى).

# ذهب سعداء الحظ إلى الصين وعادوا بعد ثلاث سنوات ليصبحوا أول فرقة أكروبات في إفريقيا والعالم العربي والسودان ، كانوا يقدمون عروضهم الساحرة المبهرة من المشي على الحبل والشقلبة في الهواء إلى قيادة الدراجة الهوائية العالية  أحادية العجل في المسارح في العاصمة وطافوا أقاليم السودان المختلفة وتعدت الفرقة حدود السودان وذاع صيتها إفريقيا وعربيا بل عالميا عندما كان يكفيك فخرا أن تقف وسط العالم وتدق صدرك وتقول (أنا سوداني أنا) و(أنا السودان جمال إشراق وعيدية … أنا السودان بضي شمسه النهارية).

# أذكر أن الرئيس الأسبق نميري اصطحب معه فرقة الأكروبات السودانية إلى مؤتمر القمة الإفريقية المقام في العاصمة الأوغندية كمبالا لتقدم عروضها للأفارقة على هامش المؤتمر ، وصرح أحد أعضاء الوفد السوداني  بأن الفرقة أسرت بعروضها الرئيس الأوغندي آنذاك عيدي أمين وسحرته أيما سحر  مما جعله (يحلف ستين يمين) طالبا من نميري بأن تبقى الفرقة في بلاده أسبوعين آخرين على الأقل بعد انتهاء المؤتمر حتى يثبت للعالم بأسره بأن (الأفارقة السود) أصحاب مهارة وقادرين على تقديم هذه العروض الساحرة المدهشة التي كانت تقتصر في ذلك على الوقت على الإنسان الأبيض والإنسان الأصفر فقط! ..

. وختاما فهذه ومضات من  السودان الوطن الواحد (ما قد كان ) !  .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..