مقالات سياسية

الخارطة السياسية لاستكمال إنهاء الانقلاب 1-5

عبد الله آدم خاطر

ضمن استعدادات قوى الثورة والانتقال لاستقبال المرحلة المقبلة من الإنتقال الديمقراطي، بمرجعية مبادئ دستورية تبني نظاماً مدنياً ديمقراطياً فيدرالياً، ضمن تلك الاستعدادات بدأت المؤتمرات التي تمهد للإتفاق النهائي، في مجالات تجديد عملية التفكيك لنظام الـ 30 من يونيو 89، والنظر في إتفاق سلام جوبا لسلام السودان، قضية الشرق، العدالة والعدالة الانتقالية، وإصلاح هياكل القوات النظامية.
في السياق دعت القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري، وبتسيير من الآلية الثلاثية نحواً من مائة وثلاثين مشاركاً ويزيدون، لمؤتمر بقاعة الصداقة على ضفاف النيل الأزرق، في المدة مابين التاسع والثاني عشر من يناير الجاري، للمساهمة في إعداد خارطة طريق تجدد عملية تفكيك نظام الـ 30 من يونيو 89.
لعل أميز ما أكده المؤتمر أن تجربة تفكيك نظام 30 يونيو، وهي تجربة سودانية إلا أنها لا تخرج عن كونها من التجارب الدولية في الحالات المماثلة، تلك التي تعقب حالات النزاعات المسلحة أو أنهيار النظم الشمولية كما هو الحال مع النظام البائد. ظل المألوف دولياً أن يبدأ تفكيكك النظم الشمولية بعد تكوين النظم الديمقراطية والحكومات المنتخبة، أما التجربة السودانية الراهنة فقد بدأت بعد الثورة مباشرة وفي ظل فترة الإنتقال، مما قد يمثل شفافية أعلى في مسائل التفكيك، وإذا ما تعرضت التجربة السودانية لإنتكاسات أو نقد فإن ذلك يعد أمراً طبيعياً، ولكنه لن يعني بحال أن السودانيين وثورتهم تنتقل إلى دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية برلمانية، أنهم سيتراجعون عن تحقيق غايات تفكيك شمولية النظام البائد بمعايير دولية، كما أكد المؤتمر باتساق وفي كل لجانه الفرعية الست. لقد تناسقت توصيات المؤتمر من خلال لجنة الصياغة لتصبح مؤشر النجاح الأول لبناء الإتفاق النهائي بمرتكزات هي من صميم شعارات الثورة ومبادئها.
لعل أهم ما ركز عليه المؤتمرون، هو تقييم التجربة السودانية في تفكيك نظام 30 يونيو ، وماسبق من تجارب الانتقال التاريخية بما في ذلك السودنة بعد الاستقلال شاملاً جلاء القوات المحتلة وتعويض الموظفين الأجانب، وما تم بعد ذلك في ثورة أكتوبر تحت شعار (التطهير واجب وطني)، وبعد الإنتفاضة بشعار (كنس آثار مايو) بالمحاكمات والإبدال والاحلال والعزل من الوظائف. لقد قدم الرئيس المناوب للجنة التفكيك الاستاذ محمد الفكي سليمان عضو مجلس السيادة أطروحة التقييم لتجربة لجنة التفكيك، وقد أكد أنها جهد أكثر من مائة من الذين شاركوا في اللجنة، ومع العاطفة الجياشة التي طرح من خلالها أعمال اللجنة ونزاهة عضويتها، واستعدادهم لمواجهة أي مساءلات قانونية، إلا أنه قدم من ناحية أخرى أوجه القصور التي واجهت اللجنة خاصة ضمور التمويل الحكومي، وعدم تعاون الأجهزة ذات الصلة بما في ذلك أجهزة المنظومة العدلية، وضعف الإعلام في تعميق مفاهيم التفكيك بالاساس وعلى صعيد آخر قلة الخبرة وسط العاملين في التفكيك وحداثة التجربة نفسها وتنوع واجهات تحدياتها، وليس أقلها شأناً المقاومة والإساءة بسوء قصد من فلول النظام البائد الذين ظلوا يرون في التفكيك أنهيار تجربتهم السياسية كاملة أمامهم وسحب إمكانيات القوة المادية من بين أيديهم ومن تحت ارجلهم، وهكذا أضحت مقاومتهم مقاومة سياسية إقتصادية إجتماعية نفسية، ولكن بغير ما وجه حق.
لعل المؤتمرون، وهم يتداولون قضايا البناء الدستوري للدولة، وهياكل المؤسسات المختلفة التي تسهم في التأسيس لحقوق الإنسان، والعدالة، والسلام، والحريات العامة، كانوا ينظرون بتمعن في الأساليب التي تجعل من تفكيك عناصر دولة الحزب الواحد، إضافة لبناء دولة الوطن العادلة، إذ لا مناص من التفكيك كما حدث لدولة المانيا النازية، في سبيل دولة ديمقراطية فيدرالية معاصرة، وأن تصبح التجربة السودانية جزءً من المنظومة العدلية وإضافة للأسرة الدولية. لقد تحرر المؤتمرون من خلال الإضاءات القيمة بمساهمات الخبراء والأكاديميين القانونيين: السودانيين والدوليين، تحرروا من النزعة العاطفية الصاخبة التي صاحبت زخم الثورة بشعارات (تسقط بس)، و (كل كوز ندوسو دوس ..) و (الحل في البل) … الخ وأعتمدوا النزوع إلى الموضوعية القانونية والخبرة الدولية في مراجعة تجربة التفكيك بما يحقق الأغراض الاساسية للتفكيك والتي تتمثل في التوازن بين تأهيل الدولة لتصبح قادرة على البناء الذاتي والتأهيل بالتدريب المستمر ومعالجة الأخطاء، وبين أستعادة مال الشعب المنهوب والمسروق في الداخل والخارج بالوسائل القانونية والإحترافية واستعادة الكرامة للمواطن العادي بالاعلام النزيه وبالعدالة والعدالة الانتقالية، ثم التعويض ومعاقبة منتهكي حقوق الإنسان في محاكم عادلة، وتصفية الأجهزة العامة من الفاسدين دون تعريض الدولة للتراجع عن أداء مهامها أو أنهيارها. لقد تأكد أمام المؤتمرين أن تفكيك نظام 30 يونيو، يحتاج إلى وقت وجهد وصبر وموارد مالية حقيقية، كما يحتاج على نحو أدق إلى الكفاءة والبصيرة والحكمة للاشخاص المكلفين بالتفكيك في كل مراحله، ومستوياته الاتحادية والاقليمية والولائية. أنه لتعزيز تجربة سودانية ناضجة في التفكيك، فقد لفت الخبراء الدوليون النظر إلى أن أي أندفاع في تحقيق انتصار عاجل على النظام البائد في مجال التفكيك، ستنتهي بتجربة الانتقال إلى ديكتاتورية أخرى وإن كانت من نوع آخر، لذا فقد وضح أمام الجميع أن ثمة معايير ثلاثة لامناص من اعتبارها في عمليات التفكيك وهي:
معيار الواقعية في غير ما طموح للمثالية، وذلك بتحقيق أقصى ما يمكن من نتائج إيجابية في إطار المرحلة الإنتقالية المحدودة على أن بناء أجهزة الدولة خلال هذه الفترة ستكمل مشاوير التفكيك الأخرى بالوسائل العادية في فترات مابعد الانتقال، ثم اعتبار معيار العدالة، والتي لا مناص من تحقيقها في كل الأحوال، بما في ذلك مواجهة الأفراد المشتبه بهم بالأخطاء والخطايا التي توجب تفكيكهم، ثم السماع اليهم قبل إصدار الأحكام عليهم، وهي نفسها احكام تتراوح مابين عدم الترقية، أو تحويل الوظيفة، أو العزل.. الخ على أن ذلك لا يمنع المحكوم عليه من التقديم مجدداً في الوظائف الشاغرة إذا كان الفرد مؤهلا لشغلها. والمعيار الثالث لوضعه في الاعتبار، هو حسن إدارة المفاجات والكوارث، بما يؤكد أن عمليات التفكيك ليست نمطاً واحداً، أو أنها تتم بأسلوب واحد، إنما تكتمل بتحقيق المعايير الثلاثة مجتمعة: الواقعية ، العدالة ، وحسن إدارة المآلات والمفاجات والكوارث.
لقد ظل السودان ممتدحاً، كأرض للحضارات والثقافات والتنوع، وقد حافظ على وحدته المتنوعة بسيادة روح التصالح والحوار والجوديّة، مما قد يكون مؤشراً قوياً أنه بعد تجاربه مع دولة المستعمر، والدولة الشمولية، بنسخه الثلاثة، وأنقلاب أكتوبر 2021، أضحى اليوم مؤهلاً أكثر من أي وقت مضى لتحقيق وحدته الفيدرالية ، وبناء دولته المدنية الديمقراطية وقد يضحى أيضاً نموذجاً أفريقياً مميزاً وملهماً لشعوب الجوار الاقليمي في مجال تفكيك الانظمة الشمولية كتجربة يشارك في أعمالها الناس العاديون في المستوى المحلي، وبشراكة جهود المجتمع المدني وشركاء الثورة والإنتقال.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..