مقالات وآراء

الزلزال والجيولوجيا والانسان

ظِلَال القمــــــر
عبدالرحمن محمـــد فضــل
في كثير من الدول يدرس اكثر طلبة المدارس في مرحلة من مراحل تعليمهم شيئاً من علوم الأرض  “الجيولوجيا” بجانب الجغرافيا طبعا ومن الذي يتعلمه الطلاب في علم “الجيولوجيا” ان يتم تعريفهم عن ماهي الزالزل وكيف تحدث  والإجابات التي تقدّمها تلك الدروس المدرسية تعتمد علي ما تُتيحه علوم الفيزياء، وذلك من خلال التّفسيرات العلميّة التي تراعي السن والمرحلة العمريّة لهؤلاء الطلاب، وبطبيعة الحال تحتوي هذه المناهج علي قدر كبير من التبسيط للمعلومة او الاختصار او يمكن ان نسميه قدر كبير من “الاختزال” لأنّ التّفسيرات العلميّة المعقدة والمركّبة لا تتناسب او تصلح أن تكون مادّة للمنهج  المدرسي، لأن الغاية منها في النهاية ان يتم من خلالها فقط قياس العلامات او الدرجات التي يتحصل عليها الطالب في الاختبارات والامتحانات، وعلي هذا المنوال يقدم في المنهج الدراسي ومختلف المواد   يُقدّم للطّلبة شيء يسير من المعلومات الاولية منها، ويترك للجامعات، والدراسات العليا تكملة هذه العلوم المتخصّصة في مستوياتها العالية و تركيبها المعقد ويتم ذلك في مختلف الكليات بتنوعها وفق تخصصتها العلمية المختلفة، ورغم مرور هذه المعلومات والتفسيرات العلمية على كلّ من درس في مدرسة، ووصل إلى نهاية التّعليم المدرسي، إلّا أن استحضارها واستذكارها خصوصا في وقت الكوارث امر خيالي  وبالتالي أثرها، يكاد يكون معدوما او يمكن ان نقول “صفريّاً” في العموم لأنّ جُل التعليم المدرسي في غالبه مقصور على دقائق الامتحان، والقليل  من هذه العلوم ما يبقى ويصبح جزءاً من طريقة التّفكير والتّفسير في حياة الدارسين او الطلاب ومهما كان تدريس مثل هذه المواد العلمية سلسا وممتعا ومشوقا وجميلا حتي اذا صاحبته “تجارب عملية”  في المختبر المدرسي، يبقى في نهاية الامر هو  “نظريّاً” لانه في حقيقة الامر انه يدرسه الطالب داخل الحجرة المدرسية اومانسميه( الفصل او الصف) وفي حقيقتها هي بعيدة كلّ البعد عن الحدث الفيزيائيّ أو الطّبيعيّ نفسه، فدراسة “الزّلال” أمر مختلف تماماً عن تجربة “الزّلال” حين تقع ويعيشها الانسان بنفسه ويخوض تجربتها المريرة القاسية المرعبة المهولة، وحين يرى الإنسان، أو يعايش آثار الزّلال من دمار وموت وهلع، سوف تصبح كل محاولات استدعاء التّفسيرات العلميّة الباردة والرّصينة التي درسها في قاعة الدرس لاشيء ولاتساوي شيئا اما هول الفاجعة والحدث وهو يشعر بارتجاج الارض تحت قدميه وهو يعيش ذلك الظلام المرعب وسط الحطام ويشتم رائحة الغبار الذي يكتم الانفاس ويسمع الصرخات المكتومة والانين من الاحبة وفلذات الكبد  المجاورين له تحت الانقاض والحجارة والطوب والحديد والحطام انه موقف مربك يهز مشاعر الانسان ويشعر حينها بهول الفاجعة ونهاية الدنيا وهو محاصر في غياهب ذلك الظلام الحالك والصمت الرهيب، صمت القبور وظلمة المقابر مهما حاول القلم ان يصور هذه المشاهد يظل عاجزا عن نقل الشعور والاحساس الحقيقي للذين غطاهم الركام وذلك الهدم الذي يزلزل القلوب اكثر ماهو زلزل الارض وحطم القلوب والمشاعر واكثر  مما حطم المباني والشوامخ انه وصف قليل في محاولة لكي يصور او يعكس جزءاً من المأساة والكارثة.

واناعندما اشرت لدروس “الجيولوجيا والزالزل” في المراحل المدرسية المختلفة  ليس القصد تقليلا من شأنها واهميتها او ان هذه “العلوم” غير مفيدة، أو غير صحيحة بل لأن أسئلة “كيف” و”لماذا” التي سوف تهجم علينا من هول الكوارث والمحن  تتولد من فطرتنا ومشاعرنا الانسانه وتتولد من “الضّعف الإنسانيّ” من “الهلع والخوف والرهبة”، ومن الصّراع الشّديد بين ما يعرف، وما يجهل، بين ما يتذكّره، وما ينساه، بين “يقينه”، و”شكّه”، و”كفره”!!!
حين تحدث مثل هذه الكوارث، سينشغل المصاب  بأسئلة “التّدبير” “كيف” تدبير نجاته، ونجاة أحبابه، وتحمّل آلامه وأحزانه وهلعه، بينما تُتيح مسافة البعد للمراقب عبر الشّاشات فرصة ترف “التّأويل والتنظير،” لو كنا ولو فعلنا ولو ولو  وهلم جرا” وايضا في جانب معتم من الضمير الانساني او مايمكن ان نسميه “مصائب قوم عند قوم فوائد” حيث يتم  استغلال الحدث من بعض وسائل الاعلام لمذيد من الكسب المادي والرواج الاعلامي ويظهر في وسائل الاعلام كثير من المنظرين والمتأولين وكل يريد ان يظهر علمه وفلسفته وفهمه أو تفسيراته أو تأويلاته التي لا تقصد الحدث نفسه، بقدر ما تقصد هذا المتحدث أو ذلك الكاتب نفسه من إبراز أنفسهم كخبراء في الزلازل والكوارث واصحاب نظريات  “علمية”  أو  “واعظين” أو “متفلسفين”، أو “ساخرين”!! وكل صورة من هذه الصور في ظني هي تصورات، ومعتقدات، وأمزجة وطبائع وظروف عيش وحياة توفّره مسافة البعد والأمان عن “الحدث والكارثة” واقتنام الفرصة لظهورها، أو إظهارها لان الذي يتمنطق ويتشدق بالعبارات الرنانة وهو جالس داخل استديو يوفر كل وسائل الراحة من” تبريد او تدفئة” و ذلك الخبير الذي يتحدث وهو بعيد عن الحدث والركام والقلوب المكلومة والعظام المكسورة والارواح التي غادرت اجسادها وتركتها هامدة وسط الحطام انه مهما حاول فهو بعيد ومحاط بسلام وامن بين، جدران منزله او مكتبه الوثير الذي فيه كل سبل الراحة لذى مهما حاول ان يصف هول الفاجعة واثرها علي النفس البشرية،  لن يفلح ولن يستطيع ان يفيد بنظرياته من اصابهم الهول وهم تحت الركام والانقاض بين قتيل وجريح ومحتجز يبحث عن منفذ للهواء وشعاع من الضوء لكي يتعلق به لعله يخرجه من بين براثن الحطام والظلام
هنا تتقازم النفوس وتضمحل المشاعر حين يتذكر احدنا وهو يصف حاله او احد ايامه
 بأنّه أسوأ يوم في حياته اذا تعطلت به سيارته في الطريق او تعطّل لديه “الرّاوتر او اللاقط الفضائي الدش” في بيته، أو انقطع عنه التيار الكهربائي، في مثل هذه المواقف يتذكر الانسان نعم الله الكثيرة عليه، ومنها ماهو منسي وهو ثبات هذه الارض تحت قدمية دون ان تميد به او تزلزل، في مثل هذه المواقف الشديدة القاسية ينسي الانسان الذي هو في قلب الحدث كلّ “الفيزياء” و”الكيمياء”، و”الجيولوجيا” وبالنقيض تجد الاخر الذي هو بعيد عن ارض الحدث يتذكر كل معارف عمره عن الجيولجيا!! بل يجد فرصة ذهبيّة لاستدعاء ما يعرف وما لا يعرف، ما يفهم وما لا يفهم ليعلّق على كارثة بحجم “زلزال” راح ضحيّتها آلاف من البشر محاولاً قصارى جهده إبراز صوره ناصعه عن نفسه كما يظنّها هو من وسط هذا الحطام، واخرون يعيشون حالة من الخوف والوجل والذهول والرهبة.
وانا وسط هذه الحالة المربكة المزهلة لا أنفي عن نفسي المفارقة فـ”الحيرة” و”الاضطراب” ” والرهبة ”  “والخوف” “والحزن”.. الانسان أمام هذه الأحداث الكبيرة يمكن أن تكون هي مظهراً من مظاهر “الضّعف الانساني والتّواضع والدهشة والخوف والارتباك والحيرة” وحينها سوف تعبر الحيرة عن جهلنا، ويمكن أن تكون مظهراً من مظاهر “التّكبّر الإنسانيّ” حين نحاول تفسير “حيرتنا” بأننا “حائرون” لأننا نعرف أكثر من الآخرين، أو نحسن طرح الأسئلة الّتي لا يسألها الآخرون! وامام كل هذا تتجلي عظمة الخالق وقدرته التي لايتصورها عقل البشر، وفي مثل هذه الكوارث  تتجلي رحمة الله ولطفه بعباده ان جعل هذا الزلزال في منطقة محدودة من الارض فكيف اذا عم كل الارض لاصبحت الارض دمار وخراب مهول وهنا نستحضر قول الله عز وجل حين قدم لنا وصف تقشعر منه الابدان في قوله تعالى في محكم تنزيله
(إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا (1) وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا (2) وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا (3) يَوۡمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا (5) يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ (6) فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (8)
انه إثبات وتعريف ليوم القيامة ووصف جوانب من أحواله وأهواله وما يقع بين يدي الساعة هو الزلزال الشديد، وما يعقب ذلك من أُمور عجيبة، يندهش لها الإِنسان بما يرى من انهيار كل راسخ، وزوال كل شامخ، وإِخراج الأَرض لما فيها من موتى، وإِلقاءِ ما في بطنها من كنوز ودقائق، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..