ذكريات مع عمر خيري أو جورج إدوارد

خلف الله عبود الشريف
في نهاية الستينات ، بدأت دراستي في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم والتي كانت إحدى كليات معهد الكليات التكنولوجية..
كنت أسكن في ميز الفنون في المقرن وهو فيللا كبيرة بناءها يتوسط حديقة تغطيها النجيلة وبعض الأشجار.
رأيت عمر خيري لأول مرة في ميز الفنون ، وهو يجلس مع بعض زملائي الذين سبقوني..
وكان يسهر معهم أحيانا وينام على أسرة الزملاء الذين يذهبون لأهلهم أو لأقربائهم في الإجازة الإسبوعية .. وكان بعض الزملاء يحتجون على إيوائه بالميز ، ووصلوا لدرجة طرده فصار ينام في حوش الميز حتى في الشتاء ودون غطاء .. ويتعرض للناموس.
كنت اشعر بالعطف عليه ..
علمت من الزملاء انه قد تخرج من ثانوي الفنون وهي مدرسة ثانوية فنية على طريقة المدارس الثانوية الصناعية والزراعية التي كانت تتبع للتعليم الفني بوزارة التربية.. وكان عمر يسكن في داخليتها.. وكان مقرها داخل حوش المعهد .. وأذكر أنني كنت أتهيأ للتقديم لهذه المدرسة ، إلا أنني ولسوء حظي قم تم تحويلها إلى مدرسة اكاديمة عادية ، في العام الذي كنت سأدخلها فيه .. وعلمت انه وبسبب تفوقه في الرسم تمت له منحة من إيطاليا لدراسة الفنون الجميلة ، ولكنها سرقت منه وأعطيت لطالب آخر ، حسب رواية بعض الزملاء .. وهذا ما حدث للكثير منا في مراحل مختلفة .. وهنا لم يحتمل عمر خيري ذو الحساسية المفرطة هذا الحدث الصادم وحدث له أختلال نفسي وأعتبر نفسه رسام إيطالي وسمى نفسه جورج أدوارد وكان يوقع بهذا الأسم على رسومه بعد ذلك.. ولم يفارق كلية الفنون ، وصار يداوم بها يوميا ويتواجد مع طلبة قسم التلوين .. ولم يمنعه أساتذة القسم أو الإدارة، بل كان يتخذ ركنا من أركان الإستوديو ويرسم بكل حرية ، إلا انه لم يكن يستلم أي مواد للرسم .. وكان بعضنا يعطيه بعض أصابع ألوان الزيت والكانفاس والحبر الشيني ، من ضمنهم شخصي..
كنت ومعي بعض الزملاء ندعوه للسهر معنا في ملهى الأتني بالسوق الأفرنجي حيث نتناول المشروبات والسندوتشات..
كنت أشجع عمر خيري كثيرا ، إلى أن تفرقت بنا الأيام وعلمت أن استاذنا إبراهيم الصلحي ، حينما تولى منصب وكيل وزارة الثقافة ، في السبعينات ، قام بتفريغه كفنان تشكيلي يتقاضى مرتبا ويرسم كما يحلوا له .. وكان هذا هو أول وآخر تفرغ لرسام سوداني .. وكان التفرغ يتم في مصر وفي دول أخرى.
ثم تم تعيينه موظفا في المجلس القومي لرعاية الفنون .. وحينما زرت مقر المجلس وجدت رسومات جيدة بالأبيض والأسود تزين جانبي المسرح ، قام برسمها عمر خيري .. وللأسف زرت المجلس مرة أخرى فوجدت الرسوم قد تمت إزالتها بسبب تجديد طلاء المسرح!! .
كنت اجد اخباره مع إبن أخى الفنان التشكيلي المرحوم أحمد الشريف عبود ، والذي كان يزوره بين الحين والآخر.. وأراني رسما لنعامة منكسة رأسها أهداها له عمر خيري..
اتذكر أنني إشتريت منه لوحة زيتية ولكنها سرقت مني في ميز الفنون.
مرت السنين .. وبينما كنت في سلطنة عمان التي قضيت فيها فترة طويلة ، سمعت نعيه من وزارة الثقافة في تلفزيون السودان .. إنهمرت دموعي لرحيله ، مع أنني لم أره لفترة طويلة تفوق العشرين عاما..
رحم الله الفنان عمر خيري أو جورج أدوارد كما كان يسمي نفسه ، وتقبله مع الأخيار الصالحين.
خلف الله عبود الشريف/ فنان تشكيلي وأستاذ التربية الفنية البيئية .