مقالات وآراء

من المحلي البسيط الي العالمي المعقد .. هكذا نحدث التغيير

احمد داوود

في خضم التحولات المعقدة التي يشهدها الواقع العالمى وانعكاس ذلك علي المحلي وتوفر السياقات والشروط التي تجعل من الفعل الثوري حتمياً يبقي السؤال حول الأسلوب والتكتيك مهماً للجماهير الشعبية المنفعلة بهذا الواقع .
كيف نحدث التغيير ؟ . وما هي طبيعة هذا التغيير ؟ هل سيكون متسلسلا ام علي مرحلة واحدة . ايمكن البدء من أسفل إلى أعلى ؛ اي من المحلي للعالمي ام من اعلي الي أسفل ، اي من العالمي للمحلي* ؟ .
يتعين قبل الإجابة على سؤال التغيير فك اللبس حول دلالات ما نعنيه بالواقع . في الحقيقة نعني به واقع الإستغلال والظلم والهيمنة الذي تعيشه البلاد الآن والمتجسد في الحروب والنزاعات العرقية والدينية والسياسية . الواقع الذي تسبب في إنتاج نخبة مركزية تسيطر علي الدولة ووسائل الإنتاج وأدوات العنف وطبقة مسحوقة معرضة لكل صنوف القهر والاستغلال .
هذا الواقع نتاج قوتيين :_
١_ قوي محلية نرمز اليها ب المركزية “اسلاموعروبية ” مسنودة بجهاز دولة وعلاقات انتاج وسلطة تكرس للإبقاء علي نفس الواقع .
٢_قوي عالمية تعبر عن مصالح الراسمال العالمي والامبريالية العالمية وتطمح لتأسيس نموذج سوداني يتوافق ومشروعها الايدلوجي .
القوي السابقة اسهمتا في إنتاج وإعادة إنتاج الواقع الراهن . وتحاولان الان إعادة إنتاج الشروط التي تؤدي إلى إنتاج أو تدوير نفس الواقع وبالتالي تعطيل وإجهاض اي ثورة تعتزم الجماهير الشعبية قيادتها في طريقها لإزالة هذا الواقع وتأسييس واقع أكثر رحابة .
لكن كيف ٱنتج هذا الواقع ، وباي طريقة يمكن إعادة إنتاجه ؟
البرهنة علي دور القوي السابقة في إنتاج هذا الواقع ليس بحاجة لاي جهد ، لأنها مسألة بديهية ومعروفة عند الجميع .
محلياً ، منذ لحظة التأسيس تم اختطاف الدولة من قبل مجموعة صغيرة تنتمي لكيانات معينة _ رمز اليها بالمركزية_ منذ تلك اللحظة تسعي هذه المجموعة الي الإبقاء على هيمنتها علي جهاز الدولة والحفاظ علي شروط الهيمنة الراهنة وعلاقات السلطة والثروة القديمة عبر الحروب وصناعة الثورات الزائفة كآلية لاستبعاد الجماهير الشعبية .
أما عالمياً ، كان السودان بشكله الحالي نتاج أطماع استعمارية  لقد كان الهدف من التأسيس نهب الثروات المحلية وتصريف منتجات المستعمرين .
الآن يمكن فهم كل التحولات التي يشهدها الواقع المحلي في أحد جوانبه كانعكاس لصراع القوي الاستعمارية وحلفاؤهما الإقليمين في محاولة أما لنهبه أو السيطرة عليه وتحويله كسوق للمنتجات الاستعمارية .
في هذا السياق يمكن الإطلاع علي حجم الوارد والصادر من والي السودان بجانب المصالح الاقتصادية الهائلة للقوي الإقليمية والدولية لفهم ما نقوله .
تتم السيطرة هنا أما بصورة مباشرة وعبر القوة العسكرية ، أو بشكل غير مباشر عبر التحكم في تحديد هوية الطبقات الحاكمة .
علي سبيل المثال من مصلحة روسيا وحلفائها الطامحين في نهب الثروات المحلية وتصريف منتجاتهما تشكيل سلطة سياسية محلية يتحكم فيها وكلاؤهما المحللين وهو ما يتناقض مع مصلحة التكتل الذي تقوده أوروبا والولايات المتحدة الذين يسعون بدورهم الي تكوين نظام سياسي بقيادة وكلاؤهما .
لا ننسى أيضاً الصراع فيما بين الاعضاء داخل الكتلة الواحدة بجانب الصراع بين الغرب ككتلة والمركزية الاسلاموعروبية ككتلة أو حتي الصراعات داخل المركزية الاسلام وعروبية كصراع بين المحور السعودي ضد المحور القطري .
كل هذا الصراعات سواء كانت الايدلوجية في بعديها الثقافي أو الاقتصادي أو السياسية كانت ولم تزل تلعب دوراً كبيراً في تشكيل وإعادة تشكيل الواقع المحلي الراهن .
في هذا السياق ينطرح السؤال السابق مرة أخرى . هل الأولوية بالنسبة للجماهير الشعبية إسقاط الدولة القديمة بمركزيتها وايدلوجيتها ومؤسساتها ومن ثم الاصطفاف مع الجماهير الشعبية في البلاد المضطهدة الأخري لإسقاط القوي الإمبريالية العالمية وشروطها الثقافية والاقتصادية  والسياسية غير العادلة ؟
ام أن الأولوية تكمن في إسقاط النظام الإمبريالي العالمي كمحطة أولي لتغيير الواقع المحلي ولو ادي ذلك الي تأجيل تحطيم المركزية المحلية المنتجة للواقع المحلي المتناقض مع مصالح الجماهير الشعبية ؟
واقعياً لا يمكن إنجاز هذه المهام بنفس الوقت ، بمعنى لا يمكن خوض نضال مشترك لإزالة الواقعين . لانه ربما يقود إزالة أحدهما الي تكريس الآخر.
لكن لوهلة قد يبدو وأن ثمة إشكال أما في التساؤلات السابقة أو في طريقة طرحها . لأنه واقعياً ومن وجهة النظر الموضوعية ، الطريق الي إزالة الواقع العالمى وتأسيس نظام عالمي عادل يمر عبر إزالة الواقع المحلي و إنجاز الدولة السودانية المستقلة القادرة بالتالي علي المساهمة في إزالة الواقع العالمى .
أي أنه طالما أن إزالة الواقع المحلي شرط إزالة الواقع العالمى فما الجدوي من تقسيم العملية لمرحلتيين واقحام  المستوي الآخر من عملية التغيير والمتعلق بالانتقال من العالمي للمحلي في بنية تساؤلاتنا وأحداث هذا الكم من اللبس.
برأي أن الاختلاف في طبيعة الدولة التي يفترض أن تقوم بالمساهمة في إزالة الواقع العالمى وليس في السؤال بحد ذاته والذي يحتوي علي المستويين _من المحلي للعالمي ومن العالمي للمحلي_ هو ما أحدث القليل من اللبس.
بشكل عام ، هنالك مستويين للتغيير ، وليس واحد مثلما قد يفضي إليه الوعي الخاطئ بما نقول. لكن هنالك اختلاف في المستوى الاول بيننا وممثلي المركزية .
الاختلاف يكمن في طبيعة التغيير الذي يؤدي الي إزالة الواقع المحلي ، و مخرجات هذا التغيير المتجسد في الدولة السودانية المستقلة .
هل هي دولة مرتكزة علي اساس العرق، الدين ، القبيلة ، وفعل ثوري يؤدي إلى إحداث تغيير طفيف في الواقع مع الإبقاء علي جوهر وبنية هذا الواقع ام هو تغيير يحطم المركزية ومؤسساتها ودولتها وايدلوجيتها وجهاز عنفها كخطوة أولى في طريق تأسيس دولة تعبر عن مصالح جميع المهمشين والمستبعدين؟
في هذا الإطار يجدر التنبيه الي أن شعارات الممانعة التي يلوح بها ممثلي المركزية من القوي الاسلاموية والشيوعيين البرجوازيون ليست سوي آلية لصرف أنظار الجماهير الشعبية والإبقاء علي الواقع المحلي الذي يعبر عن مصالحهم .
إذا الصحيح إزالة الواقع المحلي كشرط لإزالة الواقع العالمى . الثورة علي الواقع وتغييره يقود الي بناء نموذج الدولة السودانية المستقلة ، التي تقوم وعبر المساهمة مع الدول المضطهدة الأخري بإزالة الواقع العالمى المتمظهر في علاقات التبادل غير العادلة والشروط الإمبريالية القاسية .
لكن اي تغييره نقصده ، بالتاكيد التغيير الجذري من منظور الطبقات المهمشة والمسحوقة وليس من منظور ممثلي وواجهات المركزية الاسلام وعروبية التي تطمح الي إضفاء بعض المساحيق علي الواقع مع الإبقاء علي بنيته .
لكن في هذا السياق يتعين علينا التأكيد أنه :-
١_ لا يمكن نجاح ثورة شعبية دون وجود سند سياسي ودعم من حلفاء دوليين واقليميين .
٢_ الاعتماد علي دعم الحلفاء ربما سيقود في المحصلة النهائية الي رهن الإرادة الشعبية ومصالح الجماهير وإخضاعها للإرادة الأجنبية ، وهو ما يقود بالتالي الي إعادة إنتاج نفس الواقع المحلي الذي تم إسقاطه بدعم من نفس الحلفاء الدوليين والاقليميين . هنا يجدر التذكير بنموذج ثورة شعب جنوب السودان وما آلت إليه من رضوخ تام للقوي الإقليمية .
لماذا ضرورة وجود الدعم ؟
الواقع المحلي ليس نتاج المركزية المحلية فقط ، بل هو نتاج قوي إقليمية ودولية أيضاً بالتالي من مصلحة هذه القوي إستمرار هذا الواقع ، لهذا ربما هي علي استعداد للتدخل حتي عسكرياً للإبقاء عليه .
ربما تتحرك الجماهير بقوة إرادتها ، وهي علي الاستعداد للموت في سبيل الانعتاق من سياط القهر والهيمنة ، لكن ذلك وحده ربما لن يكن كافياً أمام الآلة الحربية للدكتاتوريات المحلية وأنظمة القمع العالمية مثلما حدث في ديسمبر .
هي بحاجة لتأمين ثورتها وامتلاك الآليات المادية التي تضمن نجاحها . وفي عالم يمجد العنف يصبح من الصعب علي شعب أعزل يفتقر لحليف دولي أن يطيح بدكتاتورية مدعومة من أقوي الدول .
ما العمل
أشرنا في الجزئية السابقة الي الإتفاق حول حتمية الإنطلاق من المحلي للعالمي ، كما أشرنا أن عملية الإنطلاق بحاجة لسند ودعم من حلفاء دوليين واقليميين ، وهو ما يتعارض مع خلاصتنا عن أن وجود الدعم الدولي يعيد مرة أخرى إنتاج نفس الواقع لأن هذه العملية سوف ترهن الإرادة الشعبية لمصالح القوي الخارجية . وهو ما يقود في المحصلة النهائية الي نفي واستبعاد فكرة الإنتقال من المحلي الي العالمي .
قد يبدو ذلك صحيح نوعاً ما ، ربما سيقود الاعتماد علي الدعم الخارجي الي رضوخ الثورة وبالتالي الإرادة الشعبية لمصالح القوي الخارجية . لكن ذلك مرهون بشروط معينة كإنعدام الانسجام بين الفئات المكونة للشعب والقوي والتشكيلات السياسية التي تنوب عنه وتعبر عن مصالحه بجانب انخفاض نسبة الوعي الثوري الذي قد يقود الي تغييب الجماهير وبقرطة الثورة عبر اختطافها من مجموعة معينة من ممثلي الجماهير وانصياعها الكامل لمصالح القوي الخارجية مقابل استئثارها بمكاسب الجماهير مثلما حدث في احدى لحظات ديسمبر .
لكن عندما تنتفي هذا الشروط يصبح من الصعوبة بمكان رضوخ الإرادة الشعبية لمصالح القوي الخارجية ، وبالتالي استحالة إنتاج نفس الواقع الذي أطيح به ، وهو ما يعضد حتمية الإنطلاق من المحلي للعالمي ولكن من وجهة نظر الطبقات والفئات المهمشة والمسحوقة .

هامش
*أحياناً هذا تتحدد الإجابة علي سؤال التغيير بجدل الأسبقية . هل الخارج المنتج لهذا الواقع استعار نموذجه الخاص بالدولة والذي كان نتاج سياقات وشروط تاريخية محددة ومن ثم عمل علي فرض نموذجه دون أن يراع التطور الباطني للمجتمعات القاطنة في هذه الجغرافيات ، وبالتالي وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لجأ الي خلق نخبة محلية تقوم بمهام الوكالة والإبقاء علي هذا الواقع وهو ما يعني بطبيعة الحال أن إسقاط قوي الخارج وشرطها الثقافي والاقتصادي سوف يؤدي الي إزالة الواقع المحلي .
ام أن الفئات الواعية والمتمكنة في المجتمعات المحلية هي التي أنتجت هذا الواقع ، لكن في سبيل الإبقاء عليه كانت ولا تزال تمتلك براعة هائلة في كيفية تغيير جلدها والتاقلم مع كل الظروف والشروط التاريخية مرة عبر تقمص دور المقاوم لمشروع القوي العالمية و مرة أخرى عبر القيام بدور الوكيل مكتسبة بذلك استقلالاً يجعل من إزالة العالمي المعقد مدخلاً لإزالة الواقع المحلي الراعية له .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..