عبر بوابة العسكر .. هل ستنجح “تل أبيب” في إبرام اتفاق سلام مع “الخرطوم”؟

تقرير – القسم السياسي
أقلعت طائرة وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، الخميس الماضي، دون أن تحدد وزارته واجهتها، لتهبط في مطار الخرطوم لأول مرة. ولم تكن اضطراراً، بل كانت الرحلة الأولى سراً من إسرائيل، وعلناً في السودان، حتى وصفتها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي بـ “الزيارة التاريخية”.
وبحسب ما جاء في البيان الإسرائيلي، فإن الزيارة تمت بموافقة الولايات المتحدة، وقدمت من خلالها برنامج مساعدات تركز على: مشاريع، بناء قدرات في مجالات المساعدات الإنسانية، تنقية المياه، والطب العام. وكان الطرفان قد وضعا اللمسات الأخيرة على نص الاتفاق الذي من المتوقع أن يتم توقيعه خلال حفل بعد نهاية العملية السياسية التي يعقبها نقل السلطة إلى حكومة مدنية.
وما زالت إسرائيل تأمل في نجاح المقترح الذي كان قد وضعه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لإنهاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، والمعروف بـ “صفقة القرن” التي واجهت رفضاً قاطعاً من الفلسطينيين لبنود وحيثيات الصفقة.
يرى المحلل السياسي، الدكتور راشد محمد علي، أن مفاهيم النظر إلى إسرائيل كدولة وكيان قد تغيرت منطقياً، عقب تلك الصفقة التي جعلت التعامل مع تل أبيب بحكم الواقع الجغرافي، مما جعل العلاقات بين الدول تقوم على صناعة الفرص والمصالح وتجنب المهددات.
يشير راشد في حديثه لـ “الديمقراطي” إلى أن تل أبيب تسعى لاغتنام الفرصة بأسرع ما يكون لتطبع العلاقة مع الخرطوم، وإلى أن إبرام اتفاق للسلام ليس نتيجة للقيود الموجودة والمفروضة على النظم السياسية في المنطقة، بل لأن إسرائيل تتعامل بوضعية الدولة، وهو ما سيكون سهلاً بالنسبة لها في النظم المغلقة.
أما الخرطوم، فهي تحاول رد زيارة الخارجية الإسرائيلية، وبحسب صحيفة “يدعوت أحرونوت”، قالت إنه من المتوقع وصول وفد سوداني إلى إسرائيل خلال الأيام المقبلة، لإكمال ما بدأ في الخرطوم الأسبوع الماضي من نقاش بين البلدين، بشأن مسودة اتفاق سلام مرتقب توقع هذا العام، بعد نقل السلطة إلى حكومة مدنية في الخرطوم.
وصول العلاقات بين البلدين إلى مراحل الزيارات الرسمية، وما تبقى لإسرائيل فقط مسألة الإعلان عن تطبيع العلاقات مع السودان، بعيداً عن تبادل السفراء فيما بينهم في القريب العاجل، وأن قادة الانقلاب قد يسابقون الخطوات في تطبيع العلاقات، حتى إذا تم الإعلان عن حكومة مدنية، فإن ملف العلاقات الخارجية ما زال تحت سيطرتهم. هكذا يعتقد الأستاذ الجامعي، د. بكري الجاك، في حديثه لـ “الديمقراطي”.
ويضيف أن الهدف من تطبيع العلاقات هو فك حالة الاحتقان من المقاطعة الإسرائيلية، مبيناً أنه ليس بالضرورة أن تقوم علاقات دبلوماسية متينة بين البلدين، ويرى أن إسرائيل نجحت في أن تكون لديها علاقات طبيعية في المنطقة. يقول: “محاولة جني السودان منافع من طبيعة هذه العلاقة مسألة طويلة ومعقدة، لأنه غير مؤهل للاستفادة في الوقت الراهن، نتيجة للمشاكل الداخلية التي ما زالت تعيق محاولات إصلاح كبير قادمة”.
عملية التطبيع مع الخرطوم قد تمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي الفرصة لإظهار حسن نيته الدبلوماسية، في وقت تشهد فيه إسرائيل اضطرابات داخلية، بيد أن عملية التطبيع تلك قد تأخذ بعض الوقت، وذلك بحسب ما أشار إليه موقع “المونيتور” الأمريكي، في تحليله الذي نشره تحت عنوان “هل تمضي إسرائيل والسودان نحو تطبيع العلاقات؟”.
انضم السودان إلى اتفاقيات أبراهام بالفعل، وما يحدث الآن محاولة لإعادة الزخم للاتفاق وزيادة التعاون وتعزيز الجهود الرامية إلى التوصل لتطبيع حقيقي، فهناك فرق بين التوقيع على الاتفاق والآلية نفسها. هكذا كان رأي أول سفير لإسرائيل في دولة جنوب السودان، حاييم كورين، للموقع الأمريكي نفسه.
تحاول تل أبيب المواصلة في إكمال ما بدأته في اتفاقها الثلاثي الذي كان قد رعته الإدارة الأمريكية، إبان حقبة الرئيس السابق، دونالد ترامب، في أواخر العام 2020، والذي قضى برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ولكن تأتي محاولتها هذه المرة من بوابة انقلاب 25 أكتوبر الذي أوقف عقارب ساعة الانتقال الديمقراطي في السودان، وما زال يعرقل مسار ثورة السودانيين حتى اللحظة.
يقول الصحفي والمحلل السياسي، ماهر أبو الجوخ، لـ “الديمقراطي” إنه لا يعتقد أن إكمال عملية التطبيع سيتم من خلال بوابة أي من أطراف المكون العسكري، مبيناً أن زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إلى الخرطوم حملت رسالة واضحة، مفادها أن استكمال اتفاق السلام النهائي مع السودان سيتم مع الحكومة المدنية المشكلة بموجب العملية السياسية الراهنة.
وبحسب تقديرات أبو الجوخ، فإن هذا الموقف يخاطب متطلبات دولية خاصة للولايات المتحدة الأمريكية، التي ترفض منح أي امتيازات سياسية ودبلوماسية للعسكريين في إطار حصار الانقلاب.
وينظر ماهر إلى أن اشتراط التوقيع بواسطة الحكومة المدنية يحقق أمرين: أولهما، الاستدامة من خلال التوقيع عليه بواسطة حكومة مدنية، مما يجعل النكوص عنه أمراً عسيراً سياسياً، لأن إبرامه في حقبة الانقلاب يمكن التحلل والتراجع عنه. وثانيهما: مرتبط بإعادة تحسين صورة إسرائيل لدى الرأي العام السوداني، بربط عملية التطبيع بتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحكم المدني، وإنهاء الانقلاب.
وعلى الرغم من أن الخرطوم كانت قد كسرت أطواق قمة اللاءات التي تعود إلى العام 1967، والمعروفة بثوابت: “لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض، مع إسرائيل، قبل أن يعود الحق لأصحابه”، إلا أن تل أبيب مازالت تواجه عقبات الانتفاضة الشعبية المنددة بالانقلاب إلى جانب القوى السياسية الرافضة لمشروع التطبيع، وترى أن زيارة وزير الخارجية كشفت عن الأبعاد الخفية للاتفاق الإطاري الموقع في ديسمبر الماضي، وتنظر إلى أن ما يجرى بين الخرطوم وتل أبيب مجرد محاولة لفرض الوصاية الدولية على ثورة السودانيين.
يقول عروة الصادق، القيادي بحزب الأمة القومي، لـ “الديمقراطي”: “لا تستطيع حكومة الانقلاب، ولا سلطة الأمر الواقع، في الخرطوم، تقديم التزام سياسي أمني أو اقتصادي للمصالح الإسرائيلية في المنطقة. هذه المحاولة ستظل شائهة وخاسرة، ولا يرجى أن ترى تقدماً ملموساً، فقد حددت غالبية القوى السياسية السودانية والمدنية والاجتماعية، بل حتى لجان المقاومة، أن هذا الأمر لا يمكن أن يفصل فيه شخص، أو حزب، أو حركة، أو كيان، دون تفويض شعبي”.
ينظر عروة إلى أن حركة عقارب هذه الاتفاقات ستظل نحو المقاربات الأمنية، وتدور في فلك أجهزة المخابرات والموساد، ولن تقدم لأمن المنطقة والسودان، إلى جانب القضية الفلسطينية، أي شيء. ويقول إن الواجب هو اتساق السودانيين وثباتهم، الأمر الذي يجعلهم ينادون بضرورة الاحتكام للقرارات الدولية واتفاقية أوسلو وحل الدولتين، ومن بعدها يمكن الحديث عن سلام أو تطبيع، وما سوى ذلك فهي محاولات خداع وتركيع وتقطيع للأمة والأراضي السودانية.
لكن أبو الجوخ يرى أن خروج حزب البعث الأصل من الحرية والتغيير سيخفف من حدة الأصوات الرافضة لهذه الخطوة، ويقول: “على أي حال، فإن القراءة والتقدير الصحيح لتطورات المستقبل تقود إلى أن هذه الخطوة في طريقها للاكتمال، فور تكوين الحكومة المدنية”، مشيرا إلى أن إسرائيل جنت ثمار التطبيع مع السودان قبل التوقيع على اتفاق السلام سياسياً، باعتباره الاختراق الأهم، لأن الخرطوم ظلت إحدى أبرز الدول المناهضة لإسرائيل، باعتبار أن السودان، خاصة خلال سنوات حكم البشير، مثل خط إمداد عسكري واقتصادي وسياسي مباشر وغير مباشر للجهات المناوئة لإسرائيل، مثل: حماس، حركة الجهاد الفلسطيني، حزب الله اللبناني، والحرس الثوري الإيراني.
يرى ماهر أن مستقبل العلاقات بين البلدين قد يشمل التمثيل الدبلوماسي بينهما، وسيتطور حسب تصوراتهما في مجالات العمل المشتركة. ولا يستبعد مستقبلاً أن تدخل هذه العلاقات في معارك الانتخابات، خاصة في حال فوز جهات مناوئة للتطبيع للحكم، ووقتها بإمكانها أن تلغي اتفاق السلام، أو تحدث أزمة دبلوماسية بقطع العلاقات، أو طرد وإغلاق السفارات.
يضيف أبو الجوخ أن هذه الخطوة ستقابلها أخرى تصعيدية، سيما من الولايات المتحدة الأمريكية. لكن بشكل عملي، فإن وجود علاقة رسمية بين البلدين لن تنتهي إلى قطيعة كاملة وعداء بعد توقيع اتفاق السلام، بل ستكون فترة توتر وانقطاع في أسوأ حالاتها، وستنتظر ريثما تصفو السماء، وتعود من جديد.
على الرغم من أن مسألة تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل أصبحت واقعاً في هذا التوقيت، إلا أن هناك مخاوف كثيرة من الشارع السوداني من هذه الخطوات، حتى وإن تمت في ظل حكم مدني. ولا يزال السؤال مفتوحاً: هل ستنجح تل أبيب في إبرام اتفاق سلام مع الخرطوم عبر بوابة قادة الانقلاب؟
الديمقراطي