من أين تأتي كل هذه الأصوات؟

محمد سليمان الشاذلي
ما كان الجسر الخشبي العتيق، فوق تلك البحيرة غير المنتظمة الشكل، ليتسع لإثنين. لواحد كان. وقد تعين عليَّ أن أعبره. شأن البحيرة هو كذلك غير منتظم. الجسر. الشمس دانية باهرة. ثمة حرٌّ غليظ ورطوبةٌ علقت في الجو بخاراً، ريثما تسيل . ثم بينا أنا أقفز من خشبة إلى خشبة في أرضية الجسر الضيق ، رحت أفكر في جسر التنهدات ، أقرأ بعض أبياتٍ من الذاكرة لكولريدج. بغتةً تلعثمت إذ تبينتُ تنهداتٍ طي الأبيات ، طي حرفها ، طي صداها وصوتها! سكتُ وانتبهت حتى تحريت.
تأرجح الصوت بين التنهد ، بين التأوه والصفير ! .
وقفت أصغي.
زاد التأوه وطغى الصفير.
سألت نفسي بصوت مسموع: من أين تأتي كل هذه التنهدات؟ من أين يأتي كل هذا التأوه؟ من أين يأتي كل هذا الصفير؟
مضى وقت.
ثم ، كالينابيع فاض التنهد ، فاض التأوه، فاض الصفير.
لكن أين هي المنابع؟
ظل الوقت يمضي.
ثم بغتةً رأيتها!
نعم كانت هناك! ربما ثلاثة! ربما أربعة …
لا. لا. لم تكن ثلاثة أو أربعة! لم تكن مائة! رأيت الآلاف منها تحتشد بطول شط البحيرة غير المنتظمة الشكل. نعم كانت هي منبع التنهد، منبع التأوه والصفير. عكفت تنحني فينثني عنقها برأسها فتاجها اللحمي فتلبث كذلك دهراً تتأوَّه فتعتدلُ فترتجفُ منها العين الدائرة كقرص النار يسيل منها اللهب. ثم تسكن. ثم تنفض رؤوسها بتيجانها ثم ترفع أعناقها تنظر للشمس تصرخ أو تصفر صفيراً طويلاً كالعويل. ترجف منها العيون. يرتجف تاجها اللحيم. ثم إنها لونت عويلها بلون الدعاء، رقصت وشعاع الشمس وعرق الصهد عليها يسيل وهي تبكي فيسيل من نار عيونها ذلك اللهيب.
وإنها درات في رقصها ثم اشرأبت ثم أطرقت ثم جثت ثم اطمأنت كالساجدة. وكانت. ابتسمت وقلت يا للمشهد! بقيت مبتسما حتى نبهتني ضربة قوية على كتفي الأيمن فانتبهتُ والتفتُ فرأيتُ رجلاً وامرأةً وسمعتهما يقولان: لبثنا، وراءك فوق الجسر نرقبك زهاء الساعة! وإنا لعبور الجسر لمنتظريَن. وما كان الجسرُ الخشبيُ العتيقُ فوق تلك البحيرة غيرَ المنتظمة الشكل يتسع لإثنين. بل لواحد.
بوجودهما زاد في نفسي السرور الذي قد نشأ فيها فزدت في الابتسام أقول أشيرُ ناحية البحيرة حيث المشهد : أوَ ما تريان كم هي في الفتنة تلبث؟ نظرا اليَّ هيئة المذعور. قالت المرأة : ما خطبك؟ قلت: أنظر الأمر وما فيه. تراجعت المرأة وقالت : نحن لا نرى شيئاً! نحن لا نرى شيئاً! وتقهقرت خطوات ثلاث فأنَّت من الجسر خشبتان. قال الرجل، تتقلص عضلات وجهه، والعين منه تخفق خفقان عين الديك في رأس الديك : أفي نبيذٍ كثيرٍ أنت؟ أم بك جنة؟ تربِ الكعبة إنا للجسر لمن العابرين. فاستجبتُ لهما ، فسرتُ وهما من ورائي يسيران. ورغمي وقفتُ وسألتُ: بربكما أوَ لا تريان شيئا؟ أوَ لا تريانها؟ وأشرتُ: إنها لتزيدُ! إنها لتقبلُ، أنظرا … إنها الهداهد. فغرا فاهيهما وهزّا رأسيهما…
علت الأصوات ، أصوات التأوه، أصوات الصفير.
معاً صرخا : الهداهد!
وقفتُ ومن ورائي وقفا وقفت الهداهد.