مع بعض كتاب شأننا العام (1)

محمد سليمان الشاذلي
أكتب هنا عن بعض الكتاب. فيهم المفكر العميق واسع الثقافة. فيهم الصحفي . فيهم نفر ممن عف قلمهم ، فهم عن رثيث القول معرضون . ثم هم في خصومتهم لا يفجرون . كذلك ، فيهم من يحتد ولا يتحرج ، يمضي ، فلا ينثني ، خصومةً وصداما عنيدا لا يلين أتناولهم ها هنا لأنه لابد من الحوار ولابد من القول فيمن يقول في الشأن العام . ولم تزل خارطة الشأن العام عندنا تتصف بالجور والتمترس خلف الأيدولوجيا والتيارات الفكرية بدلا عن خلق شبكة علاقات تسمو فتأثر ، تجمل وتفصل النسب والأبعاد ، ما يزيد من قدرتنا على الرؤية الصحيحة. حتى تاريخه ، لا ريب أنك ترى أن منتوجنا المكتوب لا يرقى مطلقا للقدرات والإمكانات . ولا ريب أنك تشهد أن آفاقنا ضيقة لا تسع منا حوارا أو تثاقفا أو حججا فتلاقي فقربى ، أو على الأقل ، حق تقدير وحق احترام.
نعم ، أتناول هنا قلة ممن أكاد أتابع جهدهم ورفدهم راصدا للاتجاهات السياسية الفكرية العامة ، للأشارات الحزبية التنظيمية المؤطرة . إنهم ، في مجموعهم ، فروع صغيرة تجهد أن تكون روافد للنهر الكبير . والآن ، هؤلاء ، الذين أتناولهم ، وللأسف بالكثير من الاقتضاب ، هم ليسوا من الصحفيين المتفرغيين للعمل التحريري اليومي ، ليسوا جبهة واحدة ؛ إنما هم شعبة رائدة رافدة تدافعت ألسنة حضورها لتلتوي تارةً ثم تستقيم طوراً في صفحة سمائنا المعفرة دوما ، منهم هداة في أدلاء في هذا العاثور ، في هذه المهلكة من الأرضين . لكل واحد منهم منطلقه ، لكل واحد منها مزاج. أجد نفسي أتحدث عنهم حديث المعجب بجهدهم وانتظامهم في رفد الشأن العام في أيام حالكات جافات تدفع النفس للاكتئاب من بعد أن تمتص من القلم حبره. لا أكتب عنهم كتاب الناقد ، أكتب كتاب المحتفي . لكم يسعدني أنهم أصحاء وأنهم يكتبون : بابكر فيصل ، كمال الجزولي ،
عبد الوهاب الأفندي ، حيدر إبراهيم ، بابكر عيسى ، الشفيع خضر ، الوليد مادبو ، أحمد أبو شوك، مرتضى الغالي ، التجاني عبد القادر ، أيوب صديق ،
عبد الله الفكي البشير ، صدقي كبلو ، ياسر عرمان ، سيف الدولة حمدنا الله. يجمعني بهم هم واحد فهم معي تحت سقف هموم الوطن وإني لأرجو فيما أرجو أن أكون قد وفيت لهم بعض حق ؛ فهم السراج الذي يتعين علينا أن نحوطه بأكفنا حماية فوقاية له من ريح اليأس وهبوب السموم. إنَّ ساحتنا السياسية لمأزومة لكن نرجو ألا تنتهي بنا إلى مثقفين مأزومين . وألا تنتهي بنا النهاية إلى أن نفوز بسهم أخيب.
ولي أن أبدأ بكمال الجزولي فمن شأن ذلك أن يضفي شيئا من حرارة على مطلع هذا المقال ؛ فكمال كاتب مضطرم. وتر مشدود . والوتر المشدود شديد الحساسية . حياته السياسية والفكرية سلسلة من الوثبات ، معع كثير من الثبات. ضرب من الديالكتيك . أختلف معه منطلقا ومنتهى … لم ألتق به . لم نتهاتف مطلقا ، غير أني أتابع ، على نحو يكاد أن يكون منتظما كتابته ، وهي بعد متدفقة كثيرة. لكمال نظرات ثافبة وآراء دائبة حول الأوضاع الراهنة بالبلاد ، حول الخيارات المتاحة لتحقيق الوحدة الوطنية . إن قلمه ليطمح أن يكون أداة فاعلة تنأى كل النأى عن تحقيق أغراض شخصية . يعجبني نشاطه ، صدق فإيمانه فيما ذهب ويذهب إليه . إن المتتبع لكتباته يلحظ تنوعا ، لكن في ذات الوقت ، ثمة خيط أو سلسلسلة فقرية تربط ما يكتب. وهو بعدُ نموذج للمثقف الذي يدفع الأزمات عنه دفعا ، وتلك لعمري أزمات أحالت الكثير من المثقفين السودانيين إلى خانة اللافعل ، إلى الانزواء ثم الانطواء . كمال كاتب صاحب إرادة . يقول في إحدى مقالاته “النشاط الذهني إذن عامة والثقافة خاصة ، هو حقل النشاط الأكثر تمييزا لعمل “المثقفين” عموما ، و”المثقفين العضويين” خاصة ، رغم أن هذا “التميُّز” لا يجعل منهم “طبقة” اجتماعية ، بل “فئة” تتوزع انتماءاتها كـ”شرائح”، بين مختلف الطبقات ، حسب التأثيرات الحاسمة للفكر الاجتماعي على تحديد خياراتها وتحيزاته”. وكمال شاعر جيد أصدر عددا من الدوواين واشتهرت قصيدته طبلان … واحدى وعشرون طلقة ل 19 يوليو. كمال من مواليد المدينة القريبة للقلب : أمدرمان ؛ حصل على درجة الماجستير في القانون منذ السبعينيات من القرن الذي مضى ، ولا يخفى أنه سياسي يساري ، قانوني ومحامي مرموق.
كاتب آخر، من ضفة ، أخرى أجد نفسي من الواقفين عنده إنه عبد الوهاب الأفندي . فهو كذلك كاتب مكثر جاد لا يتأخر عن الادلاء برأيه الذي ، قد لا يلائمني في الغالب الأعم ، غير أنه في كل الأحوال يكتب بجهد ورصانة فاحترام لقارئه. كتب الكثير من المقالات . لكم وقفت معه في مقاله الذي سبق اتفاق الخامس من ديسمبر 2022م عندما نبه وردد مع المخلصين أن السودان مهدد اليوم بحروب أهلية وتفكك وضياع . قد قال يومها قولا كالصيحة “فليستيقظ القوم من هذه الغيبوبة”. معروف أنه قد كتب العديد من الكتب لعل من أهمها Who Needs An Islamic State الذي صدرت منه طبعتان بالإنجليزية … كاد أو بالفعل أن يكفره محجوبو البصيرة منزوعو التمدن بسبب نشره لهذا الكتاب . رغم نقد الأفندي لفكرة الدولة الإسلامية إلا أنه ينادي بما ينعته بدولة المسلمين . وإنها لمناداة ، فيما أرى، تطلق من الظلال والإبهام أكثر من أن تنير أو تصير طرحا جديدا . غير أني اتفق معه تماما في أنه ليس ثمة ما يمكن أن يسمى بنظرية أسلمة المعرفة ، فلا مراء أنه لا توجد معرفة إسلامية خفية لا يصل إليها إلا المؤمنون . التقيته أول مرة مع الطيب صالح في دار عمدتنا في لندن ، الراحل العظيم محمد الحسن أحمد. وقتها كان قدم استقالته من منصبه كملحق إعلامي في السفارة السودانية في خلافه مع الخرطوم . أصدر يومئذ كتابه الثورة والاصلاح السياسي في السودان الذي أورد فيه ما أسماه بالسوبر تنظيم داخل التنظيم في الحركة الإسلامية السودانية. كان نقدا صارخا ركز فيه على كيفية أن التنظيم كان يقول إن فلانا معنا وقد أبلى بلاء حسنا فلا بد له من المكافأة بهذا المنصب أو ذاك . من قبل أن التقيه ، كنت قد سمعت عنه كثيرا من الحسن أحمد. حكى أنه جاء ليعمل معه في جريدة الأضواء أثناء دراسته لكي يساعد نفسه وأسرته فأرسله محمد الحسن أحمد في مهمة لمدينة عطبرة لتغطية ندوة مهمة . لكن الأفندي لم يحسن التعامل مع جهاز التسجيل ، ذلك أنه عند رجوعه فوجىء الجميع بأن الشريط كان فارغا! غضب الأستاذ محمد الحسن أحمد لكن الأفندي أكد له أن ملم تمام الالمام بكل ما قد قيل ولن يزيد أو ينقص منه شيئا. وفعل. فقد جلس إلى المكتب، يخط ، متذكرا التغطية كاملة! أظنه عمل أيضا في مجال كبتنة طائرات الرش في بعض عمله لتحسين عيشه. شأني مع كمال الجزولي أختلف كثيرا الاختلاف مع الأفندي لكني أتابع كل ما يكتب. إنه ليدأب على إيجاد صيغة من شأنها التوفيق بين الإسلام والحداثة. وإنا لموقنون أن الإسلام سينداح ليبقى في مدلوله الحضاري وبعده المدني.
ثم الآن حيدر إبراهيم ، ذلكم المهموم بالحرية ، بالتنوير . لعله ، هو ومنصور خالد أكبر عدويين للشفاهة والمشافهة التي اتسم بها المثقفون والمتعلمون السودانيون . تأسيسه لمركز الدراسات السودانية يؤكد مقولة إمرسون “رجل واحد يساوي أغلبية”. حيدر ذو عقلية ذات وجهة ناقدة تصرف جهدها أشد ما تصرفه لرصد ومتابعة كل ما يتعلق بالتطور الاجتماعي السياسي في السودان مع إضاءة متخصصة على الحركة الإسلامية السودانية وشأنها مع الديمقراطية والدكتاتورية. نعم تراه قد صرف الكثير من جهده لنقد الإسلام السياسي مركزا على تجربة الإسلاميين السودانيين . غير أنه في أمانته ، رغم مرجعيته الماركسية ، لا يتردد في نقده لليسار السوداني . حسبك قوله “يواجه اليسار في السودان أزمة شاملة تهدد دوره في الحياة السياسية السودانية رغم أننا عولنا كثيرا على دوره في ميلاد ديمقراطية مستدامة ديمقراطية سياسية واجتماعية. وهي أزمة متعددة الأوجه: فكرية وتنظيمية ، ويرجع ذلك إلى ظروف النشأة والتطور” . التقيته في مطلع الشباب أيام جامعة الخرطوم؛ زرته مع الأخ الفاضل عادل الطيب الوسيلة في دارهم العامرة في الحلفاية، ثم لم نلتق بعدها مطلقا . أول ما يحذبك ، فيه وإليه ، اللسان العذب والابتسامة التي لا تغيب . شخصية صادقة كل الصدق في قولها وفي مسلكها؛ وهو من بعد راهب في محراب العلم . يدرك تماما ضرورة الإيمان بأن الفعل إنْ هو إلا ابن للمعرفة، للثقافة … حيدر ضليع في علم الاجتماع ؛ لا ريب أنه رائد من رواده في السودان . مهموم بقضايا الديمقراطية والوعي السياسي . من أهم مؤلفاته لاهوت التحرير : الدين والثورة في العالم الثالث وكتاب التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية . حصل على درجاته العلمية من جامعة القاهرة وجامعة فرانكفورت.
كاتب آخر شديد الأصالة فيما يحبره من مقالات سيارة ، إنه بابكر فيصل . واثق ، سياسي مثقف ينظر إلى المستقبل ويتطلع إليه . يتحلى بروح المواجهة مع التفاؤل اللازم للدفاع عن المستقبل . منذ أيام الطلب، تحدى خط الخوف من السلطة فظل في موقف المعارضة التي كادت أن تكون دائمة ، لا ينقضي دأبه كمدافع عن الحرية ، عن القضايا العامة. تكاد تجزم جزما إنه لمندمج ومنخرط في المشاكل التي تتربص بنا. فيه من سمت الاتحاديين الأوائل ثقافتهم ، زهدهم وترفعهم وأصالتهم ، وطنيتهم وإيمانهم العتيد بالديمقراطية ، بالثقافة بالفكر. لك أن تنازعه فيما شئت ، كيف شئت ، لكن هيهات لك أن تنازعه في اتحاديته. أقول إن بابكر فيصل يثير الإعجاب بحيويته وطاقته ، فهو رغم أنه كاتب غير مقل بل مكثر ، مع ذلك تراه يضطلع بمهام حزبية قيادية . غير أنه سياسي مختلف ، على الأقل بالنسبة لي ، فهو الوحيد الذي لا يسعى سعي السياسيين وراء المناصب . رفض مرتين عرضين يلهث وراءهما الكثيرون . اعتذر عن منصب عضو مجلس السيادة وعن منصب وزير الخارجية الذي ذهب بعد رفضه للسيدة مريم الصادق . ما يجعلني أتابع كتاباته هو احترامه لقلمه ، لقارئه. ثم إنه يجهد في أن يجمع بين الفكر والتحليل والصحافة . صديقنا الراحل العظيم منصور خالد كان يشير لبعض مقالاته. لا ريب أن بابكر فيصل واحدا من أولائك الذين يعبرون بجدية فائقة عن تطلعات وفكر الطبقة السياسية والنخبة الثقافية في السودان. إنه لمن من يردمون الهوة التي احتفرها غياب الطرح العميق الجاد القادح للتفاعل والحوار. وإني لأراه يمضي قدما متحديا كل الصعاب والعوائق التي تعترض طريقه ، أو تقف في وجهه . جرب السجون وظل منافحا لنظام يونيو 89 يجادلهم بمنطق هادئ ، يرد حجتهم فيما يسعى إليه من تأييد دولي للاتفاق الإطاري مذكرا ب “التدخل الخارجي في الشأن السوداني في ظل حكم الإخوان بصورة واضحة من خلال صدور 63 قرارا من مجلس الأمن الدولي حول السودان معظمها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البلاد وقد خلق من الأمم المتحدة شريكا شرعيا في الشأن السوداني. ونتيجة لذلك فقد قبل نظام الإخوان بدخول بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور تحت البند السابع الذي يسمح لها باستخدام القوة العسكرية في أداء مهمتها ، كان قوامها 26.000 فرد حيث استمر وجودها في البلاد منذ عام 2007م وحتى عام 2021م، كما سمح النظام بدخول قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في منطقة أبيى الحدودية مع جنوب السودان ، وهي بعثة قوامها 5000 فرد وتم إرسالها في عام 2011م”. فيصل خريج الجامعات السودانية والأمريكية.
عبد الله الفكي البشير ، من ألد أعداء الكسل الفكري. رصين لطيف ودود في سلام مع نفسه ومع من يجالس. لا رنة تعصب، لا تزمر ولا غضب. لا عجب؛ فكل هذه الصفات من غرس معلمه وأستاذه محمود محمد طه. يجهد بغية أن يخلق مناخا للتسامح، للحد من التطرف في السودان وقاطبة العالم الإسلامي. في حديث مع الصديق محمد أحمد محمود قال إن أكثر ما يحق للجمهوريين أن يفخروا به هو هذا المنتوج الغزير الذي وفره لهم عبد الله، محمد أحمد محمود كان جمهوريا في فترة من فترات حياته ثم ترك الفكرة فغيرها لما هو غيرها ،لكنه كتب كتابه المهم بالإنجليزية عن محمود وفكرته Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Muhammad Taha وقد نشرته جامعة سيراكوز الأمريكية. محمود قتل بتهمة الكفر وأحرقت كتبه في مشهد يذكر بمحاكم التفتيش، بالقرون الوسطى. شهدنا بأعيننا ما لا يصدقه العقل! عبد الله يدأب على أن يذكرنا بخطورة ثقافة التكفير والاتهام المنتهي بإزهاق النفس التي حرم الله إلا بالحق. لعبد الله جرأة في تحريك، ثم هز ما يسميه بالفضاء الإسلامي، له جرأة على منافحة بل منازلة ما يسميهم بالأوصياء على العقول. ثم إنه يطرح من القضايا مما “ظل الفقهاء يتناولونها بمداخل فقهية من دون ورع علمي، وهي قضايا فكرية تتجاوز سقوفهم المعرفية ودربتهم العلمية”؛ -فهي- تنشر الجهل وتسييل الخرافة وتبث العبث في الفضاء الإسلامي”. لعلي لا أبالغ إن قلت إنه قد أفلح في حملته المخلصة في التأثير حتة على بعض الدوائر المغلقة، تكاد ترى أثر حرفه في كلمات شيخ الأزهر أحمد الطيب التي أطلقها في يناير من العام 2020م ، يومها قال فضيلته “التكفيرُ فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديما وحديثا، ولا يقول به إلا متجرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه، ولقد بينت نصوص الشرع أن رمي الغير بالكفر قد يرتد على قائله فيبوء بإثمه، والتكفير حكم على الضمائر يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره، فإذا قال الشخص عبارة تحتمل الكفر من تسع وتسعين وجها وتحتمل عدم التكفير من وجه واحد فلا يرمى بالكفر لشبهة الاحتمال ؛ اعتدادا بقاعدة ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين” أثر عبد الله تراه لأن الحديث للأزهر الذي كان قد كفر محمود محمد طه في العام 1972م”. عبد الله خريج جامعة الخرطوم.
والآن ننثني إلى صديق عزيز، أيوب صديق ، من صميم أرض الشمال، أسمر الجبهة، طيب الوجه. إبن للنيل، للصحراء؛ فأبو حمد هي مسقط رأسه، منها أخذه مشور طويل لأمدرمان ثم من بعد إلى لندن التي سرعان ما تألق فيها، وبها، كوكبا تأتلق به العشيات. قابلت أيوب أول مرة في لندن، ثم امتدت بيننا الوشائج واشتدت الصلات. وهو من قبلُ ومن بعدُ، صاحب خبرة تؤهله لأن يكون من نخبة الإعلاميين الذين استضافتهم هيئة الإذاعىة البريطانية أيام بوش هاوس، أيام المعايير المنضبطة النزيهة الدقيقة العالية. من القلائل الذين يجيدون العربية وآدابها في الوسط الإعلامي الراهن. قدم الكثير من البرامج اللافتة في هيئة الإذاعة البريطانية. قال غيمون مكليلان، آخر مدير للقسم العربي عاصره فيه، في تقرير كتبه عنه ” كان أيوب ذا أسلوب مميز في قراءة الأخبار جعله محبوبا لدى الكثيرين من مستمعينا في أنحاء العالم”. وأيوب شاعر جيد، من القلائل الذين يحسنون الوزن وينتقون المفردة عندما يجلسون للفن والأدب غير أن في كتابة المقال السياسي غير ذلك. بدأ حياته بدراسة الهندسة المدنية في المعهد الفني. والمهندسون يشتهرون برجاحة العقل. ثم إن مهنة الإعلام شدته فعمل مراسلا لصوت أمريكا وغيرها، ثم استفاد أيما إفادة من عمله في تلفزيون وراديو أمدرمان. لأيوب خصوم ، وهو خصم، وبعض تلك الخصومات كاد أن تنتهي بالجميع إلى ما منع فيها من مغالاة أو فجور.
ولعل هذا ما يقودني من هنا إلى الأستاذ مرتضى الغالي فبينه وبين أيوب أكثر مما قد صنع الحداد. مرتضى، حوله سياج يمنعه ويمنع عنه المهادنة. صحفي عتيد مؤمن بدور الصحافة إيمانا قاطعا يرى فيها الوسيلة الأكثر أهمية، ليس فقط في نشر الأخبار والمعلومات، يرى فيها قدرتها على أن تكون رافعة للقيم وأن تكون معولا لهدم معاقل الجهل والشعوذة. لا تعجب لابن الصحافة التي وصل فيها إلى أعلى المواقع التحريرية في كبرى إصدارتها أن يكون جل همه الزود عنها بحسبانها السلطة الرابعة. وهو، بعدُ، مؤمن أشد ما يكون الإيمان بضرورة إصلاح نظامنا العدلي والقضائي وقد كتب في ذلك الكثير .. ومرتضى يذهب فيما يؤمن به وفيما يقوله مذهبا قصيا يعجب البعض ويسخط آخرين. فمثلا في حدة يصف أيوب صديق بالرجل “الغائب عن الوعي وعن الضمير وعن العقل والذي لا يدري فداحة ما يقول وهو ينشر الحقارات”. وكان أيوب قد وصف مرتضى بالكذب والسفاهة والهتر” فهو محضُ سوءٍ يسعى بين الناس، إهاب مهترئ يحوي نفسا خبيثة ، جماع ما فيها هو كذب صراح ، ولؤم محض وغدر متناه. فهو كذاب أشر”. مرتضى صحفى متمرس وله مؤلف بعنوان الثورة والدولة المدنية. ثمن هما ، مرتضى وأيوب كلاهما كاتب مكثر ولا يمكن إلا تقف عندهما اتفقت أم اختلفت.
رجل آخر ، كاتب آخر : صدقي كبلو ، وقفت معه طويلا في نظرته للتراث … لعله قد وفق في الكثير مما قد ذهب إليه من تعددية التراث السوداني وضرورة النظر إيه من هذه الزاوية. نعم “لدينا ثراء تراثي متعدد لحضارات فيها التواصل والانقطاع ، وفيها التراكم المعرفي والثقافي والانفتاح على الهجرات الداخلية والخارجية ، وما خضنا من حروب مع بعضنا البعض ومع جيراننا”. صدقي مهموم كذلك بقضية التعليم العام وضرورة ديمقراطيته “لا بد من أن يكون موجودا في المكان المناسب ، وأن يكون مجانا ، وأن تتوفر له أدوات ووسائل التعليم ، أن يتوفر العدد المناسب من المعلمين والمعلمات المدربين تدريبا علميا مناسبا للقيام بمهنة التعليم في المواد والفنون والعلوم والتطبيقات التي يراد تعليمها …” يسهم أكثر ما يسهم في دائرة تخصصه : الاقتصاد. في نظرنه للاقتصاد السوداني ينطلق من إيمان ماركسي كامل ، في مقالاته المختلفة يعارض أشد المعارضة التوجهات الاقتصادية المتاحة اليوم، ولربما اختلفنا ها هنا معه، لإسعاف البلاد عبر المؤسسات الغربية المعروفة. لعمري إنا لا نرى منه كيفية توفير الموارد اللازمة لتمويل عمليات الإنتاج أصلا وهي عملية تحتاج إلى رساميل كبيرة وسنوات طويلة. تمترسه خلف نظرية واحدة لم تصمد كثيرا لم يزل يثير الجدل. غير أنه ملم بمختلف مذاهب ومدراس الاقتصاد ، رفقة النمسا ثم مارشال وكینز والكینزیین الجدد متمرس في مناهج التحليل والاقتصاد القياسي، في مناهج الاقتصاد الكلاسيكي في مناهج المدرسة النقدية النیوكلاسیكیة. صدقي خريج جامعة الخرطوم وليدز البريطانية. من مؤلفاته: من يقود الراسمالية السودانية، نظرية الثورة السودانية، اقتصاديات الثورة والدولة المهدية.
مقال جميل جدا.
الكاتب سعى لابراز العنصر الجمالي والابداعي والمهني لدى الكتاب الذين تحدث عنهم، كما سعى لتليين ما لا يتفق فيه مع البعض خاصة مجانبة الوسطية.