مقالات وآراء سياسية

السودان والتحول الديمقراطي بعد حروب الكيزان الدينية

طاهر عمر

ثورة ديسمبر تعد عمل جبار من شعب واعي ينشد الحرية كقيمة القيم وستفتح الطريق للتحول الديمقراطي وسينعكس على تنامي الوعي الذي ينتصر للفرد والعقل والحرية ولكن عليك أيها القارئ أن تنتبه للمعوقات والعراقيل التي تسد طريق الخروج من متاهة الشعوب التقليدية وبداية رحلة شاقة باتجاه بناء دولة حديثة وترسيخ مفهوم السلطة بمعناها الحديث.
أول علامات إمكانية تحقيق التحول الديمقراطي في السودان أن الشعب في إنجازه لثورته قد رسخ فكرة كانت غائبة عن النخب السودانية وهي أن من يقوم بالتغيير هو الشعب وليس النخب ولا المثقف ولا المفكر وهذا واحدة من الفتوحات الباهرة في عمل روح الشعب السوداني ومن علاماتها أن المثقف التقليدي السوداني والمؤرخ التقليدي السوداني والمفكر التقليدي وعالم الاجتماع التقليدي قد أصبح حائر لأنه يحاول أن يعمل بعقله القديم الذي مات ولم يدرك نور عقل الشعب الجديد الذي يولد.
وإذا أردنا أن نضرب مثل على ذلك يمكن أن تراجع كيف فشلت حكومة حمدوك عندما لم تكن في مستوى مطالب الشعب وهي ظهور ملامح الدولة الحديثة ولا يكون بغير تفكيك التمكين وأول بداياته يجب أن تبدأ بولاية وزارة المالية على المال العام وتفكيك التمكين في البنك المركزي بنك البنوك وإعادة سيطرة سياساته النقدية على مناشط البنوك بما يخدم التنمية التي تعتبر أن أكبر معوقاتها غياب الريادات الوطنية غير الواعية.
وهذا لم يحصل في حقبة حكومة حمدوك حيث كانت حكومته خالية من الريادات الوطنية الواعية التي تعمل على إزالة ما تركته الإنقاذ من ركام وللأسف بدلا من إزالة ركام الإنقاذ من مفاصل الدولة نجد أن حكومة حمدوك تركت ركام الانقاذ في مفاصل الدولة في وزارة الخارجية وفي البنك المركزي وغيرها من الأماكن التي تعتبر كمرآة يتضح فيها وجه الدولة الحديثة.
ولم ينتبه حمدوك ووزراءه الى أن أخطر ركام تركته الانقاذ في مفاصل الدولة ويصل الى أن يكون في مستوى النفايات السامة والضارة بل المشعة هم عنصرها البشري الكيزاني وقد رأينا كيف قد عطلوا عمل الجهاز القضائي الذي ينبغي حله كما حدث في تونس بعد عشرية الغنوشي الفاشلة وهذا ما يجب أن يكون في السودان لأن حقبة الكيزان وما خلفته لا يمكن أن ينطلي على أي شخص بأن الجهاز القضائي الكيزاني يعتبر سلطة قضائية كما رأينا في مسألة فصل السلطات في علم إجتماع منتسكيو.
لهذا قلنا لحمدوك وسنكرر اليوم يجب أن يكون التعامل مع عنصر الكيزان البشري بلا رحمة فيما يتعلق بتفكيك التمكين وإلا سوف يتأخر التحول الديمقراطي في السودان لسنيين ولكن في نهاية المطاف أن التغيير آت وأن التحول الديمقراطي لا أحد يستطيع إيقافه ولذلك من الأحسن أن تنتبه النخب لفكرة أن الأفضل أن يأتي التحول الديمقراطي بعمل هادف وواعي من قبل النخب ولا يكون ذلك باليسير في ظل نخب أسيرة كسلها الذهني الذي أورثها القراءة الناعسة وعكسها يجب أن يحل عقل القارئ المدرب الذي يستطيع إختصار الطريق لتحقيق التحول الديمقراطي.
عندما نقول القارئ المدرب نقصد القارئ المتسلح بمشروعه النقدي الذي يسوره التفكير النقدي حيث تصبح ظاهرة المجتمع البشري علامة لوحدة الانسانية النفسية وأقصد أن ما حصل من تحول هائل في المفاهيم في المجتمعات الحية وجعلها تقبل فكر عقل الانوار لا محالة قادم الى مجتمعاتنا التقليدية ومن الأفضل الإستعداد لقبوله بكل الرضى الذي يفسح المجال لظهور الشخصيات التاريخية وهى زبدة المجتمع التي يمثلها عباقرة الرجال.
وأقصد بعباقرة الرجال من يتجاوزون الفكر المتكلس المنتج من نخب لم تنتج غير فكر مساكن ومجاور لفكر رجال الدين في السودان وقد رأينا حقبة حروبهم الدينية التي قادتها الإنقاذ وقد جسدت عنف الكل ضد الكل. نعم حقبة الإنقاذ تعتبر ثلاثة عقود من الحروب الدينية في السودان كما الحروب الدينية التي أعقبت فكرة الاصلاح الديني في اوروبا.
وعليه نقول للنخب السودانية بعد حروب الكيزان التي تقابل حروب اوروبا الدينية التي أعقبت فكرة الاصلاح الديني يجب أن تفتح الطريق للنخب السودانية نحو فكر ذو نزعة إنسانية ومفارق وغير مصادق على فكر رجال الدين وهذا يتطلب منا الكف عن قراءة التراث الذي لا ينتج غير ذاكرة محروثة بالوصاية وممنوعة من التفكير كما يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني وقد رأينا إنتاج ذاكرة الوصاية الممنوعة من التفكير في فكرة المساومة التاريخية و مهادنة الطائفية ومؤالفة ما بين العلمانية والدين وكله فكر نخب أسيرة القراءة الناعسة التي لا تليق بمستوى القارئ المدرب.
بمناسبة الذاكرة المحروسة بالوصاية وممنوعة من التفكير أريد أن أنبه النخب السودانية الى أن مستوى الحراك الفكري الضئيل في حقبة إنقلاب البرهان الفاشل يدل على أن النخب السودانية ما زالت تنتظر مخلصها كل على هواه وإلا لماذا إختفى كثير من المفكريين السودانيين في وقت تظهر فيه حوجتنا لجهدهم إذا لم يكونوا من مروجي الوعي الزائف.
على أي حال ما دعاني لكتابة هذا المقال هو أن التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بنقل مستوى الفهم المتدني بين النخب الى مستواه في المجتمعات الحية يخص جهد الأقلية الخلاقة وهي التي يقع على عاتقها نقل مستوى الوعي بأن ما حدث من تحول هائل في المفاهيم في المجتمعات الاوروبية ستقع ظلاله على مجتمعاتنا التقليدية شاء من شاء وأبى من أبى لسبب بسيط وهو أن الانسانية تربطها وحدة نفسية وأن تاريخها قد أختصرته مسيرة مواكب المجتمعات الاوروبية وأعني أن نضج العقل البشري وما أنتجه من علامات كمجد العقلانية لا محالة قادم الى مجتمعاتنا التقليدية.
ومن هنا ندعو النخب السودانية وهي تستعد للتحول الديمقراطي في السودان بأن تدرك أن التحول في المفاهيم يحتم عليها طرح فكر جديد ينتصر للفرد والعقل والحرية لأننا في زمن قد أصبح الفرد بديلا للطبقة لأن الفرد هو الذي ينشد الحرية كقيمة القيم وهذا يدعونا أن نغيير فكرتنا عن المثقف العضوي وهو الذي يريد تحقيق رغبات الأجيال الصاعدة وحتما لا ينبغي أن يكون من أتباع أحزاب وحل الفكر الديني أو من أتباع الأيديولوجيات المتحجرة بعد أن أصبحت دين ضد الدين وكانت أفشل من الأديان نفسها في جلب سلام العالم الذي لا يكون بغير الانتصار للفرد والعقل والحرية.
ولهذا ينبغي أن يكون المثقف العضوي من ييقن بأن معادلة الحرية والعدالة تحتاج لمشاريع نقدية لم نجدها في تاريخ المثقف التقليدي السوداني والمؤرخ التقليدي السوداني والمفكر التقليدي السوداني.
البشارة الوحيدة التي ينبغي أن يسمعها الشعب السوداني هي أن السودان في حقبة الحركة الاسلامية ولثلاثة عقود قد عبر حقبة مظلمة وتركها خلفه وتعتبر حقبة حروب دينية وقد دفع عبرها الدم والعرق والدموع كما حروب أوروبا الدينية التي أعقبت الإصلاح الديني الذي وضع حد لفكر رجال الدين.
ولهذا نقول للمفكرين السودانيين والمثقفين السودانيين والمؤرخيين السودانيين التقليديين عليكم بأن تدركوا أن حقبة الانقاذ كانت حقبة حروب دينية وقد تجاوزها الشعب السوداني وهو يسير نحو التحول الديمقراطي كما تجاوزت اوروبا حروبها الدينية التي أعقبت الإصلاح الديني.
ولكن الفرق بين حروب أوروبا الدينية وحروب السودان الدينية هو أن هناك فكر ذو نزعة إنسانية وقد إنتصر وقد أورث اوروبا إفتخارها بالعقلانية مقارنة بفكر الحضارات التقليدية ومن بينها الحضارة العربية الاسلامية التقليدية التي يتخفى خلف فكرها التقليدي المثقف وسالمفكر والمؤرخ التقليدي في السودان ومن هنا تأتي دعوتنا لقارئ التراث في السودان بأننا نحتاج لفكر جديد ذو نزعة إنسانية متجاوز وغير مساكن ولا مجاور لفكر رجال الدين في السودان.

تعليق واحد

  1. يا أخينا هون عليك.. الشعب السوداني يبحث عن الخبز والموية وانت طاير بيهو فوق السحاب. وبعدين النزعة الإنسانية دي شفناها عند جماعتك بافتخارهم بصمود الشعب الاوكراني وهناك أكثر من ٢٧مليون مشرد والاف القتلى ومع ذلك يسمونه صمود أوكراني ويستمروا بدعمهم بالسلاح لاستمرار الحرب.. أين النزعة الإنسانية هنا…نحن يا أخينا نحتاج لرجال شرفاء صادقين مع أنفسهم وشعبهم ولا يخشون في الله لومة لائم يحترمون قيم هذا الشعب الدينية والعرفية وليس مجرد نشطاء سياسيين يظنون زخرفة الكلام تنتج خبزا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..