السودان ما بين لقاء السيدين ولقاء الفريقين !

محمد التجاني عمر قش
يبدو أن الحراك السياسي في السودان مرهون بنوع من الثنائية المتضادة بين أفراد وجماعات ظلت تؤثر في مسرح الأحداث السياسية منذ فجر الاستقلال وحتى الآن. فقد عرف السودانيون سابقا لقاءات جمعت بين زعيم طائفة الأنصار السيد عبد الرحمن المهدي وزعيم الختمية السيد علي الميرغني ، رحمهما الله وغفر لهما . فقد كان الزعيمان على اختلاف دائم في الأمور والمواقف السياسية بيد أنهما كانا يبادران بالالتقاء كلما أحسا أن مصالحهما الطائفية مهددة بشكل أو بآخر . كما أن علاقاتهما الخارجية كانت متباينة لحد كبير ؛ إذ كان السيد عبد الرحمن المهدي يميل إلى جانب بريطانيا في أثناء فترة الاستعمار وإبان الحركة الوطنية ، ورفع شعار السودان للسودانيين ، بينما السيد الميرغني كان لا يخفى ولاءه المطلق لمصر حتى أنه تبنى شعار وحدة وادي النيل.
والثنائية في السياسة السودانية لم تتوقف عند الزعيمين الكبيرين ، بل ظهرت ثنائية بين اليمين واليسار ، وظلت هذه تؤثر في مجريات الأحداث فيما بعد أكتوبر 1964م ، خاصة بعد طرد الحزب الشيوعي من البرلمان، فلجأ للانقلاب العسكري ليصل إلى السلطة بقيادة نميري في عام ، ١٩٦٩م وما لبث اليمين العريض أن شكل الجبهة الوطنية التي ضمت كل الأحزاب ذات الطابع الإسلامي وقاتلت من أجل إجهاض التوجه الاشتراكي في البلاد. وفي ذات الوقت اشتدت حدة الخلاف والصراع الثنائي بين الشمال والجنوب فأزهقت أرواح وهدمت قرى ومدن كثيرة وتوقفت التنمية بسبب الإنفاق الحربي ولم تتوقف تلك الفتنة إلا بانفصال الجنوب يا للأسف الشديد. وظهرت عقب ذلك ثنائية الهامش والمركز فثارت دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق واشتعل سعير الحرب في معظم أنحاء البلاد وحصدت الأرواح ودمرت البنا التحتية ورهنت إرادة البلاد لتدخل جهات أجنبية كثيرة تحت ذريعة الخدمات الإنسانية وحقوق الإنسان ، فجلب السلاح ونهبت الثروات وزرعت الفتن وانتشرت الإحن واتسع نطاق التمرد بشكل غير مسبوق على الإطلاق.
ولعل أخطر ثنائية تهدد المجتمع السوداني هي تلك التي ظلت خفية لردح من الزمن ، ولكنها أطلت برأسها مؤخراً ألا وهي القبلية والجهوية التي اججت الصراع ليس في الإطار السياسي ، بل تعدى إلى الخدمة المدنية فشرد أناس من وظائفهم بسبب انتمائهم لهذه القبيلة أو تلك الجهة. ومن الواضح أن هذه الثنائيات ستظل تتحكم في الأوضاع والمجالات كافة في الوطن حتى يبلغ الساسة رشدهم ويدركوا أن الوطن لم يعد يتحمل كل هذه الصراعات التي لا طائل من ورائها.
ونستطيع القول إن مسلسل الثنائيات المتضادة قد سيطر على الساحة السودانية بعد سقوط الإنقاذ بشكل أبشع. فهنالك التشاكس المستمر بين أطراف قحت وتكويناتها المتنوعة من جهة وبين المدنيين والعسكر من جهة أخرى. وفي كل الأحوال يظل السودان هو الخاسر الأكبر فقد ظل الشعب يعيش في حالة من ضنك العيش وعدم الاستقرار في جميع النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية ، وتوقفت جميع الخدمات من صحة وتعليم وغاب الأمن حتى في شوارع الخرطوم والمدن الأخرى بحيث لم يعد المواطن يأمن على نفسه ولا ماله ولا عرضه والله المستعان.
وتستمر دوامة هذه الثنائيات الماحقة لتصل إلى المؤسسة العسكرية وتلتهب حرب التصريحات بين جنرالات الجيش والدعم السريع ويصل الخلاف بينهم مرحلة “سن الحراب والسيوف” ويبدأ الناس يتحدثون عن لقاء يجمع بين الفريقين البرهان وحميدتي ، وكأن السودان قد صار استقراره السياسي في كل مرحلة من تاريخه مرتبطاً ومرهوناً بمواقف مجموعتين أو شخصين تتضارب مصالحهم ومواقفهم ، وتتباين آراؤهم بشكل واضح . فثمة خلاف بين البرهان وحميدتي حول دمج الدعم السريع في القوات المسلح ، كما يظهر للعيان ، ولكن في واقع الأمر هناك تباين في وجهات نظر الرجلين مرده الأساسي إلى ارتباطاتهم الخارجية ، وموقف كل منهم من الحراك السياسي! وعموما يرى الكثيرون أن التدخل الأجنبي هو الذي بات يتحكم في خيوط اللعبة السياسية في السودان بعد أن صار نهبا لأطماع كثير من الدول ، إقليمياً ودولياً ، وكل يريد أن يأخذ نصيبه بتأييد ودعم هذا الشخص أو ذاك.
وفي الواقع تكمن الخطورة في أن المكونين ، في الحالة الراهنة ، يمتلكان السلاح والرجال ولكل منهما مناصروه في الداخل والخارج ، ولكل منهما مكاسب تحققت له نتيجة التغيير الذي حدث بعد ذهاب الإنقاذ ، ويريد أن يحافظ عليها بكافة السبل ، ومع ذلك يظل العامل الخارجي هو المحرك الأقوى لما يدور في أروقة الحكم في السودان. والأمر الذي جعل الخرطوم تتنفس الصعداء ، هو اللقاء الذي جرى بين الفريقين البرهان وحميدتي بعد أن كادت البلاد تدخل في مواجهات عسكرية غير معروفة العواقب وربما الأطراف . وإن كان لقاء الفريقين قد نزع فتيل الأزمة مؤقتاً إلا أنه بكل تأكيد لم يغلق الباب دوت احتمال تجدد التباين مرة أخرى . ولو وصلت الأمور لحد المواجهة العسكرية فسوف تعود إلى السطح أسوأ ثنائية في تاريخ السودان وهي تلك التي كانت بين “أولاد الغرب وأولاد البحر” وستكون الحالقة التي تنسف استقرار السودان إلى الأبد ، لا قدر الله.