يا له من رمضان كان قليل الطعام كثير البركة !

جعفر عبد المطلب
كلما احدق في مائدتنا الرمضانية هنا في مدينة ” تورنتو الكندية ” التي تحتشد باطباق متواضعة من الطعام ، ونحن جلوسا في مقاعد حول مائدة مستديرة ، يشترك في اعدادها كل افراد الاسرة حتي التومات ( مريم وفرح ) ابتداء من الطبخ وإعداد العصاير وغيرها ،وانتهاء بصناعة القراصة التي اتولاها بنفسي.
وهذه إحدى بركات رمضان التي تجعل اهل البيت كلهم شركاء في صناعة مايفطرون به من طعام ، خاصة وقد انتهت ثقافة الإستعانة بمساعدات العمل المنزلي التى يسمونها اسما بغيضا الي النفس اي “الخدامات”! في الخليج بعد العودة الي كندا .
ظللت أرسل البصر كرتين وثلاث ورباع ،واعود بالذاكرة الي ماض من الزمان السحيق ، والق ببصري فوق إفق من القارات والمحيطات والبحار والبلدان والبلدات وشتات من الثقافات والازياء والهويات والاعراق واللغات والاديان، اتفرس في خريطة اليابسة في السودان عسى ان اعثر علي منحنى النيل ثم ادقق النظر، لعلي أرى قبابا وضرائحا وخلاوي تستقبل الغرباء من عابري الطريق عند ساعة المغيب عندما نسمع صوت المؤذن في الخلوة يعلن لحظة الإفطار في “كلحية ” يا لها من لحظة كان ينتظرها الصائمون وقد اخذ منهم العطش ما اخذ، وهدهم الجوع هدا ، لاسيما وما كانت الكهرباء حتى ضمن احلامهم البعيدة المدى !
كنا اطفالا ولكن كنا نصوم طواعية بحكم ما تربينا عليه ، دون إكراه من الكبار، وما كنا “نتجرس” ابدا بينما نرى اهلينا وهم متدثرين بثياب مبللة جراء حرارة الصيف القايظ . لا اذكر اننا كنا نقوم بعمل ما مشاركة في إعداد مائدة رمضان كما افعل الآن في تورنتو ! ولكن أذكر جيدا كنت التقط التمر الرطب عندما يصادف رمضان موسم الرطب، وكنت احس بفرح طاغ عندما اكومه امام امي وهي تعد البليلة وهي خضراء طازجة من اللوبيا ،يملاني إحساس بالزهو كان هذا الرطب من عندي وليس من النخلة !
كان طعاما بسيطا ولكنه مباركا ما كان فيه الشوربة التي نبتدر بها طعام الافطار بعد البلح هنا في تورنتو .كان هناك الحلو مر والآبري الابيض والقمر دين وطبق القراصة وحبات من تمر رطب والبليلة في قلب المائدة ،التي ما كنا نعرفها بهذا الإسم “المائدة “إلا بعد تطورت معرفتنا باللغة الفصيحة كنا نقول عليها ” الصينية ” او “الصفرة ” ليست بالسين !
كان دورنا ان نحمل طعام الافطار الى الخلوة كل اهل الحي كانوا يفطرون في الخلوة، يفترشون بروشا، وما كان يوجد سجادا ولا ” موكيتا ” بروش من صناعة الامهات والاخوات في القرية اي “نجلس فوق من ما نصنع”
كان دائما ما يحضر الافطار غرباء من عابري الطريق . بسبب الحياء والرهبة ما كنا ناخذ كفايتا من الطعام وننتظر عندما نعود بالصواني نجلس في منتصف الطريق ونفترش الرمل في “خور صالح “وننقض علي ما تبقي من الاواني وسط جلبة وعراك وضوضاء ومتعة .
لم يكن الافطار قاصرا علي هذا الجزء من المساء ، بل كان ينبغي علينا ان نعيد الاطباق الي امهاتنا ونعود ومعنا الشاي والقهوة ،ولا اذكر كانت هناك حفاظات ” تيرمس” مثل ما هي اليوم، ولكن ما كان مسموحا لنا بشرب القهوة بل كنا نستعيض عن ذلك بشرب المزيد من الشاي خاصة عندما تكون معه اللقيمات.
كنا اشد ما نكون حزنا عندما تبدا ايام رمضان عند منتصفه تمضي سراعا ،لانه بالنسبة لنا كان برنامجا فوق العادة وفرصة نستمع ونستمتع فيها لانس وحكايات من كل سكان الحلة وليس من ابيك فحسب، فضلا عن الاجواء الروحية التي تجسدها تلاوة القرآن لاسيما اثناء صلاة التراويح.
كانت القرية تبدو كانها في عيد اكاد اجزم ان رمضان في القري اكثر متعة وروحانية واريحية منه في المدن، خاصة عندما كانت القرية مغمورة باهلها ودوابها وآبارها وخلاويها ومساجدها وغيرها من معالم مثل الطاحونة والسبيل ودربي الترك والجمل، قبل ان ينفرط عقد اهلها بالهجرة الي داخل السودان وخارحه وباتت بيوتها مهجورة وخاوية علي عروشها، يعشش فيها الطير، وإبتلعت الخبانة اغلب اهلها الذين كانوا يعطون لرمضان طعما وللحياة معنى عليهم الرحمة جميعا، وتجاوز عدد سكان الجبانة سكان الاحياء من حولها اضعافا مضاعة، وظلت القبتان في حال من الشيخوخة والاهمال يدعو للرثاء!
وزحفت الحياة المعاصرة فوق مراتع صبانا ومعالم قريتنا التي كانت هناك فغمرتها برمتها، ولم يبق في قعر الذاكرة إلا بقايا من مثل هذه الذكريات، نجترها بين الحين والآخر حتى يصل قطار العمر المحطة الأخيرة عند الخبانة !
لك جزيل شكري وامتناني بهذا المقال الرائع الذي أعادني الي ذكريات طفولتي السعيدة ورغم أنك في أقاصي المهاجر لم تنسي وطنك الصغير والكبير …ربنا يديك عليك وعلي اسرتك الصغيرة نعمة الاسلام وان يجعل لكم السعادة في وطنكم البديل ويحل كرب سوداننا الحبيب
شكرا يا تربال انا ايضا مثلك تربالا وإن لم اسمى به ولكن عمليا ! وهل وجودنا في هذه الأقاصى ينسينا البلد وعاداتها وتقاليدها وهي العصا التي نتوكا بها وتحفظنا من عوامل الإستلاب والتغريب من يا اخي ينس مراتع صباه ومواقع رعيه لغنمه التي كانت تلتقط ازهار البرم من اشجار الطلح ما اجملها من ازهار صفراء فاقع لونها هل ياتري بعرف الكنديون ازهار البرم وهم اصحاب اكبر الغابات بعد البرازيل !
مرة اخري شكرا لمرورك وتمنباتك الطيبات كل رمضان وانت واهل بينك بخير