مقالات وآراء

بين السر دوليب و “نعومة” ..

عاطف سعد الله

السلام عليكم جميعا” ..

اعزي نفسي وكل امدرماني، وكل سوداني في وفاة ابن حي الركابية (مسقط رأسي) الامدرماني العريق، الشاعر الكبير البروفسور السر دوليب ..

عندما نعي الناعي الشاعر الكبير بروفسور السر دوليب تذكرت قصة رواها لنا البروفسور دوليب في احدي الفعاليات. ومعلوم للجميع الدفق الكبير لأعمال الشاعر الكبير، ومعلوم أنه كتب كما” كبيرا” من الغناء العاطفي لكبار الفنانين. وربما تغنينا كثيرا” لهؤلاء الفنانين ونحن لا نعلم ان الكلمات للسر دوليب، فهو من تغني له الشفيع بأغنية (اللون الخمري)، وتغني له محمد وردي بأغنية (الخطوبة)، وتغني له عثمان حسين بأغنيتي (ما بصدقكم) و (مسامحك يا حبيبي)وتغني له عثمان مصطفي بأغنية (يا قلبي سيبو)، وتغني له محمد ميرغني بأغنية (انا والأشواق). وعشرات وعشرات الاغاني لأغلب فناني السودان ..
الراحل المقيم الشاعر السر دوليب رجل في منتهي الرقة .. وله مع امدرمان و حي الركابية وأزقتها الدافئة قصص وحكايات.
أذكر أنه في العام 2011 تمت إستضافة الشاعر الراحل بروف السر دوليب في احد منتديات امدرمان للحديث عن تجربته الشعرية، و قد تم إختياري لمحاورته في تلك الليلة، وكان من ضمن أسئلتي له سؤال تقليدي” و هو (ما هي أحب قصائدك إلي نفسك)؟ و توقعت ان يرد بأنها (انا و الأشواق) لان محمد ميرغني غناها بأرق إحساس، او يقول (ما بصدقكم) لأنها قد إحتلت الصدارة من بين أغاني عثمان حسين، أو يقول إنها أغنية (الخطوبة)، لان فكرتها كانت جديدة في الغناء السوداني، و قد تغني بها وردي وهو في اوج مجده في الستينات.

ولكن البروفسور دوليب صمت وأخذ نفسا” عميقا” و إرتشف جرعة من زجاجة الماء الذي أمامه، ثم قال لي: (ح أفاجئك بالإجابة يا دكتور، و ح افاجئك بسبب إختياري لهذه الأغنية، أحب قصائدي الي هي قصيدة “مبروك عليك الليلة يا نعومة”) ..
إستغربت كثيرا” لهذه الإجابة وإستغرب معي الكثير من حضور المنتدي الأدبي; انا اعلم ان هذه القصيدة للبروفسورر دوليب، ولكن لم اتوقع انها المفضلة عنده وأغلب الحضور لا يعلم أن هذه القصيدة للسر دوليب، بل يظن أنها من (أغاني البنات)الفلكلورية التي لا يعلم لها مؤلفا” بعينه ..

ثم جرع البروفسور مرة اخري من زجاجة الماء وقال لي: السبب في تفضيلي لهذه القصيدة من بين قصائدي هو أن صاحبة القصيدة نعومه (وإسمها الحقيقي النعمة) كانت صاحبة أول قصة حب في حياتي، وقد كتبتها في نهاية الأربعينات عندما كنت في المدرسة الوسطى. وهي ليست من بنات حي الركابية وانما من احد اقاليم السودان، و كانت مقيمة عند اقاربها في الحي، وكنت اركب البسكليت (الدراجة)، وأحوم متجولا” حول منزلهم أغلب فترات اليوم حتي أصبح معلوما” لبنات الحي انني اتحين الفرص لرؤية (نعومة)، وأحلم باليوم الذي اخلص دراستي فيه وأتقدم للزواج منها ..

ثم فجأة إختفت نعومة من الحي وانتابني حزن شديد. وبعد سؤال بنات الحي عنها علمت ان نعومة قد عادت الي أهلها لتتزوج من احد اقاربها. فأسقط في يدي وعمني حزن شديد، و انقطعت عن التجوال بدراجتي في الحي، ولا احضر الي ذلك الحي الا للمناسبات، واصبحت فتيات الحي (يشاغلنني) كلما حضرت الي مناسبة في الحي، فقمن بتأليف البيتين الاولين لهذه القصيدة (مبروك عليك الليلة يا نعومة .. يا حليل ناس ديك الزمان بجونا). ثم قمت اننا باكمال ابيات القصيدة بعد ذلك، و بمرور الزمن أصبح الكثير من الفنانين وكذلك (البنات)يضيفون اليها ما عن لهم من ابيات، حتي أصبحت أغنية (شبه فلكلورية)
وبعد ان ذكر تلك القصة فقد انزل البروفسور النضارة من علي وجهه ومسح دموعه بتأثر، وقال: (تصوروا يا اخوانا لقد بلغني أن نعومة توفيت الأسبوع الماضي)

فإستغربنا جميعا” للوعة الحب الأول الذي إستمر ستين عاما” يتوقد في جوف البروف ذي الشعر الأبيض الناصع ..
رحم الله عالمنا و شاعرنا الكبير السر دوليب ذلك الابداع المتدفق و انزله فسيح جناته ..

عاطف سعد الله

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..