كرة القدم والدولة المدنية في السودان

د. لؤي عبدالنور
في فترة الديمقراطية الأولى نظم السودان أول بطولة لأمم افريقيا عام 1957م .. وشارك في البطولة الثانية في مصر بعد أشهر من انقلاب الفريق عبود .. وخلال فترة الحكم العسكري غاب السودان عن البطولة الثالثة عام 1962م .. قبل أن يعود مجددًا بظهور جيد عام 1963م ويخسر النهائي أمام غانا..
بعد تسعة أشهر فقط من انقلاب المشير جعفر النميري حققت الكرة السودانية أكبر انجازاتها بالفوز ببطولة أمم افريقيا التي استضافها عام 1970م .. ثم تلاها تأهل المنتخب لنهائيات الألعاب الأوليمبية في ميونيخ عام 1972م .. مما يعني بأن النميري وجدها في أفضل حالاتها .. لكنه ورغم ولعه الشديد بالكرة وحبه للمريخ قام بفرض الرياضة الجماهيرية وما تبعها من إلغاء الدوري والمشاركات الخارجية مما يعتبره البعض القرار الأسوأ في تاريخ الكرة السودانية ..
انتهى عهد النميري في 1985م .. وفي أول أعوام الديمقراطية الثالثة في في 1986م فاز المريخ ببطولة سيكافا .. ورغم أنها بطولة اقليمية ألا أنها كانت البطولة الأولى للأندية السودانية .. تلاها تأهل الهلال التاريخي إلى نهائي الأندية الافريقية أبطال الدوري عام 1987م ..
ثم جاء انقلاب البشير عام 1989م وكان المريخ حينها يخوض غمار بطولة الكؤوس الافريقية التي توج بلقبها بعد خمسة أشهر فقط من الانقلاب ليسلم الكأس للراحل الزبير محمد صالح .. بمعنى أن حكومة الانقاذ استلمت مقاليد الحكم والرياضة في أفضل حالاتها فماذا فعلت؟ نالت الرياضة أكبر قدر من التهميش في تاريخها رغم أن البشير كان رياضيًا يشجع الهلال .. فأصبحت وزارة الشباب والرياضة وزارة للترضيات .. وتدخلت الدولة في كل ما يخص إدارات الشأن الرياضي من اتحادات وأندية جماهيرية ليكون المؤهل الأساسي المطلوب لتقلد تلك المناصب هو الولاء للحزب الحاكم ..
ولا عجب أن تدهورت الرياضة عمومًا وكرة القدم على وجه الخصوص بعدها .. نعم قد يقول قائل بأن الهلال تأهل مرة أخرى إلى نهائي أبطال افريقيا عام 1992م .. لكن هذا يعتبر في بدايات عهد الانقاذ وبقية مما تركته الديمقراطية .. رغم أن الأهلة أنفسهميدركون الفارق بين جيل 1987م وجيل 1992م.. لكن فترة التسعينيات كانت الفترة الأكثر ظلامًا في تاريخ الكرة السودانية .. فأنديتنا كانت تخسر من كل من هب ودب من فرق القارة ولم تكن تجاوز الأدوار الأولى إلا لمامًا..
تحسن الحال بعض الشئ في الألفية الجديدة بعد قدوم الرأسمالية إلى رأس الأندية الكبرى وفتح باب الاحتراف الأجنبي .. لكن الانجازات لم تتجاوز سقف المشاركات الجيدة دونما انجاز يذكر مقارنة بحقبة الانقاذ الطويلة جدًا..
خلاصة الأمر أن كرة القدم ورغم انجازاتها الشحيحة التي حققتها على استحياء فإنها كانت كلها في أيام الدولة المدنية الديمقراطية في فتراتها الثلاث .. أو في بدايات الحقب العسكرية التي تدل على أن الانقلابات العسكرية تجد كرة القدم في أفضل حالاتها ثم تمسك بتلابيبها وتغوص بها في قاع الخيبات والانكسارات ..
رؤساء تلك الحقب العسكرية .. ورغم ولعهم بكرة القدم تحديدًا .. لم يولوها أدنى قدر من الاهتمام .. ولا أجد فيما يدل على ذلك مثالًا أقوى من علاقات السودان بالصين .. حيث أن الجمهورية الشعبية عرضت على النميري بناء قاعة الصداقة أو ملعب رياضي دولي فاختار الأولى .. أما الانقاذ .. ورغم أنه في عهدها كانت السودان ثالث دولة افريقية من حيث التعامل التجاري مع الصين .. ورغم أن الصين أنشأت ملاعب في أغلب دول القارة السمراء فيما يسمى في دواليب حكومتهم بديبلوماسبة الاستادات الصينية .. إلا أن الصين لم تنشئ ملعبًا واحدًا في السودان .. والسبب بحسب معلوماتي الخاصة هو فساد المسؤولين .. حيث أن الصين عرضت بالفعل بناء ملعب دولي بلا مقابل .. لكن المسؤولين طالبوا (بعمولتهم)!!..
الشاهد في الأمر أن كرة القدم (في السودان تحديدًا) تتطور أو تكون في أفضل أحوالها أيام الحكم المدني/الديمقراطي .. وتتضعضع وتندثر أيام الحكم العسكري/الشمولي .. وفي يقيني أن كل الأنشطة الانسانية الأخرى بخلاف كرة القدم (مثل الفن) شهدت أفضل أيامها في أيام الديمقراطيات الثلاث..
لا أدري شخصيًا أيهما الدجاجة وأيهما البيضة : هل ديمقراطية الحركة الرياضية ذات تأثير على الوعي الديمقراطي العام أم العكس .. بمعنى هل يتعلم الرياضيون (وهم جل المجتمع) أصول الديمقراطية في الأندية والاتحادات فينعكس ذلك علىالوعي الديمقراطي العام.. أم أن ديمقراطية الحركة الرياضية لا تنشأ ولا تتطور إلا في ظل نظام حكم مدني ديمقراطي ؟ .
وللحديث بقية ..