بعض مرتكزات الفكرة الجمهورية (2 )
بسم الله الرحمن الرحيم
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”
بعض مرتكزات
الفكرة الجمهورية (2 )
خالد الحاج عبد المحمود
إذن التطبيق والمأذون
نحن هنا ندخل على المرحلة الثالثة من مراحل الإذن الإلهي، مرحلة إذن التطبيق -مرحلة المأذون بالتطبيق، وهو المسيح المحمدي!!.
والمسيح المحمدي هو الإنسان الكامل، الذي برسالته تتوَّج جميع رسالات السماء، وتظهر أمة المسلمين لأول مرة في التاريخ.. فالإسلام الأخير لم يحققه في التاريخ إلا أفراد قلائل، ومن المنتظر أن يُفتَح الباب لجميع البشر في الأرض لتحقيقه، وبذلك تظهر كمالات الدين في أعلى مستوياتها وأكثرها شمولا.. والمسيح المحمدي هو الذات المحمدية، التي أشار إليها المعصوم في قوله لجابر بن عبدالله: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر”.. هذا المقام ظل في الملكوت، عالم الروح، وهو يتنزل إلى عالم المُلك كل يوم.. وبتجسيده في الأرض يتحقق مقام الخليفة، وتدخل البشرية مرحلة جديدة، وهي قمة مراحل التطور، وهي مرحلة الانسانية.. فالمسيح المحمدي هو رسول أمة المسلمين.
ولكمال إتضاح الصورة نرجع للحديث عن مكانة النبي، وعظم شأنه صلى الله عليه وسلم، وعلاقة ذلك بالمسيح الموعود :
جاء في كتاب (الإسلام ديمقراطي إشتراكي) ما نصه: ((مما يعين على تصور مكانة النبي، وعظم شأنه، قوله: (ما عرفني غير ربي).. وقوله: (لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل)!!.. فبقدر الإيمان والعمل في التقليد عن محبة وثقة تتفتح آفاق الحقيقة المحمدية. فنبينا صاحب نبوة أزلية، قال عنها: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).. وهذا يعني أنه كان نبياً عالماً بنبوته، في الأزل، ولذلك عبر في حديث جابر، بقوله: (نور نبيك يا جابر).. ومن هذه النبوة مُدَّت جميع النبوات، وجميع الولايات، وهي، جميعها، ليست سوى مراحل من مسيرة الحقيقة المحمدية، نحو مقامها.. وعن هذه المسيرة يجيء قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).. (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)، يعني يرى أطوارك، وأنت تتقلب في الخلائق، تطلب مقامك المعدّ لك منذ الأزل، وإليه الإشارة من الآية بقوله تعالى: (يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ).. فتقوم هنا من القيومية القيام بالله.. والقيام بالله عبودية، وهو هنا قمة العبودية، التي تتحقق بها خلافة الأرض، التي جاءت في الأمر الإلهي (إنِّي جاعلٌ في الأرضِِ خليفة).. فقبل البعث المحمدي الأول، كان تقلب الحقيقة المحمدية، في الساجدين.. وبعد البعث الأول، استمر التقلب في الساجدين، من آل البيت.. وعند القيام، تتم المزاوجة بين الملك، والملكوت، وبين الدنيا والبرزخ، فتتوحَّد الروح مع الجسد، فيصبح جسداً روحانياً، أو روحاً تجسدت، فيكون بذلك البعث الأكبر، بعث المقام المحمود.. وعن هذه المزاوجة يجيء قوله تعالى: (وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَت).. وهذا يتم لعامة الناس في الآخرة وللإنسان الكامل -الحقيقة المحمدية في اليوم الآخر.. وتحقيق المقام المحمود (بعثٌ)، يقول تعالى: (ومن الليلِ فتهجّد به، نافلةً لك، عسى أن يبعثَك ربُّك مقاماً محموداً).. والبعثُ، هنا، يعني الحياة بعد الموت، وتجاوُز الموت بتجربته، وبذلك يتحقق مقام (الروح)، بمعنى الجسد الحي الذي لا يموت.. وقد جاء عن تعريف الروح من أقوال الأستاذ: “ما هي الروح؟؟ هي الجسد الحي الذي لا يموت، و في المرحلة قبل ظهور الجسد الحي، الذي لا يموت فإن الروح هي الطرف اللطيف من الجسد الحاضر”.. والروح هي المسيح، رسول الأمة المسلمة.. فالمسيح (المسيح المحمدي)، عند بروزه إلى مقامه، مقام الوسيلة، هو الروح، بمعنى الجسد الحي الذي لا يموت.. فهو مبعوث من الموت، وبهذا البعث هو متجاوزٌ له.. ولقد ورد في القرآن ذكرُ كثيرين، بُعِثوا من الموت، ولكن، بعثُ هؤلاءِ، جميعاً، لم يكن تحقيقاً لمقام، ولذلك ماتوا بعد بعثهم.. وذلك على خلاف الأمر بالنسبة للحقيقة المحمدية، فهي عندما تبعث إلى مقام الوسيلة، تتجاوز عتبة الموت، وتدخل الحياة التي لا موت فيها.. وبهذا البعث، تقوم القيامة الصغرى -ساعة التعمير- التي، بها، يتم افتتاح اليوم الآخر، وهو آخر أيام الدنيا، وأول أيام الآخرة.. وفيه يتم بعث موتى القلوب، من أهل الدنيا، وبذلك تبرز أمة المسلمين، فتتحقّق جنةُ الأرض، وينطبق، في قمة، قولُه تعالى: (وقالوا الحمدُ لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرضَ، نتبوأ من الجنّةِ حيثُ نشاء فنعم اجر العاملين)*.. وإلى هذا القيام، وهذه القيامة، يشير أيضا قوله تعالى: (يومَ *يقومُ الروحُ، والملائكةُ صفاً، لا يتكلّمون، إلا من أذِنَ له الرّحمنُ، وقال صَواباً).. وضمن ما جاء في هذا الصدد، من أقوال الأستاذ محمود، ما ذكره في تأويل قوله تعالى: (في بيوتٍ أذنَ الله أن تُرفعَ، ويُذكَرَ فيها اسمُه)، من سورة النور، حين قال: “فإن البيوتَ أجسادُ العارفين.. وفي طليعتهم الإنسان الكامل.. فإن جسد العارف قد أذن الله له أن يُرفع من الأموات.. فهو إنما يجيء لهذه الدنيا من العالم الآخر”.. وعن كون المسيح هو الروح، يجيء قوله تعالى: (إنمّا المسيحُ، عيسى بن مريم، رسولُ الله، وكلمتُه، ألقاها إلى مريمَ، وروحٌ منه)..))
وجوهُ الأمرِ عديدةٌ، ويكاد القرآن، كلّه، يدور حوله.. وعلينا أن نتذكرَ المثاني في القرآن، ونتذكرَ أنّ، معاني القرآن الأصيلة تقع في منطقة التأويل، وليس في منطقة التفسير.. وهذا وجهٌ من الوجوه الهامة، جداً. فمقام الحقيقة المحمدية رسول الأمة المسلمة هو مقام تأويل القرآن.. بل هو تأويل القرآن، يقول تعالى: (هل ينظرُونَ إلا تأويلَه؟! يوم يأتي تأويلُه يقول الذين نسوه من قبل، قد جاءت رسلُ ربِّنا بالحق!! فهل لنا من شفعاءَ، فيشفعوا لنا، أو نُردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ قد خسروا أنفسَهم، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون).. (هل ينظرون إلا تأويله) يعني ما ينتظرون إلا مجيء تأويله.. قوله (قد جاءت رسل ربنا بالحق) يعني جميع رسل ربنا جاءت بالبشارة بهذا التأويل، وبأقساط منه، حسب حكم وقتهم.. وعن التأويل، نفسه، يقول تعالى: (هل ينظرُون إلا أن يأتيَهم اللهُ في ظللٍ من الغمام والملائكة، وقُضِي الأمرُ وإلى الله ترجع الأمور..) فالذات الإلهية ليست غائبة فتأتي، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً.. وهي لا يحويها الزمان ولا المكان، حتى تأتي (في ظللٍ من الغمام)، مهما كان تفسير أو تأويل هذه الظلل.. فلم يبق إلا أن تكون الآية تتحدث عن التنزل إلى مقام الاسم.. فهو، هو تأويل القرآن.. هو القرآنُ مجسداً، في اللحم والدم.. و(في ظُللٍ من الغمام)، إنما تعني في تجسيدٍ أصلُه الماء الغمام وهذه هي قمة التخلق بأخلاق القرآن، التي بها يتحقّق كمال الإنسان.. والمقصودُ من العبارة القرآنية (الله في ظلل من الغمام) هو المقام المحمود الذات المحمدية، وهو المسيحُ، كما هو الساعة، وهو ختم الرسالة، فكل هذه، وغيرها، تعني شيئاً واحداً، من وجوه مختلفة.. فالمسيح (الساعة) هو التقاء الملك والملكوت، رأسياً.. والتقاء الماضي والمستقبل، في اللحظة الحاضرة، أفقياً.. فعندما يتم هذا اللقاء، الأفقي والرأسي، تكون الساعة، ويتحقق النبأ العظيم!!.
ويُلاحظ أن البشارة، بعودة المسيح الثاني في الإنجيل، تكاد تتطابق مع البشارة الواردة في القرآن.. يقول إنجيل لوقا، في الإصحاح الحادي والعشرين: (وتكون علاماتٌ في الشمس والقمر والنجوم.. وعلى الأرض كربُ أممٍ، بحيْرة.. البحر والأمواج تضجُّ، والناسُ يُغشى عليهم، من خوفٍ، وانتظار ما يأتي على المسكونة، لأن قوات السموات تتزعزع. وحينئذٍ يبصرون ابن الإنسان، آتيا في سحابة، بقوةٍ ومجدٍ كثير).
وفي الآية الكريمة: (وقضي الأمر).. (الأمر) يعني المسيح، وقُضِي، تعني تمَّ واكتمل إعدادُه، وإعدادُ الأرض له، هذا الإعداد الذي بدأ من (أسفل سافلين).. وقوله تعالى: (وإلى الله ترجع الأمور) إشارةٌ إلى الكمالات، التي تتحقق، في تلك القيامة ساعة التعمير التي بها تتحقّق جنة الأرض، في الأرض.. والساعة هي المسيح، وإلى ذلك يشير قولُه، تعالى، عن المسيح: (وإنّه لعلمٌ للساعة، فلا تَمتَرُنّ بها).. والساعة هي مجيئه.. وحسب مثاني القرآن، الساعة ساعتان: ساعة التعمير، وساعة التخريب.. فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها، حساً ومعنى، وليملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.. ويومئذٍ يظهر الإسلام على جميع الأديان.. ويتحقّق موعود الله: (هو الذي أرسل رسوله، بالهدى ودين الحق، ليظهرَه على الدينِ كلِّه.. وكفى بالله شهيدا).. ويتأذن الله بالتطبيق، كما تأذن بالإنزال.. وذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: (اليومَ أكملتُ لكُم دينَكُم، وأتممتُ عليكم نعْمتِي، ورضيتُ لكُم الإسلامَ ديناً).. وهذه هي ساعة التجلي الكمالي.. أما ساعة التخريب فهي لحظة مجيء المسيح للمرة الثانية، ليردَّ الأشياء إلى الله حساً، وقد أبطأ المعنى، وذلك (يوم نطوي السماءَ، كطيِّ السجل للكتب.. كما بدأنا أول خلق نعيده.. وعداً علينا.. إنّا كنّا فاعلين).. فالساعتان منضويتان، في بعضهما، في سياق القرآن.. فهو عندما يقول (الساعة)، إنما يعني المعنى القريب للساعة، وهي ساعة التعمير، والمعنى البعيد للساعة، وهي ساعة التخريب.
وبساعة التعمير، يبدأ اليوم الآخر، الوارد في عديد الآيات، منها، على سبيل المثال: (وإلى مدينَ أخاهُم شعيباً، فقال: يا قوم!! اعبدُوا الله، وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين).. وإنما سُمي (اليوم الآخر) لأنّه آخر أيام الدنيا، وأول أيام الآخرة، وفيه تتحقق جنةُ الأرض، وهي نموذج من الجنة الموعودة.. وإليها الإشارة بقوله تعالى: (ونُفِخ في الصورِ، فصَعِق من في السموات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم نُفِخ فيه أخْرى، فإذا هُم قِيامٌ ينظرُون* وأشرقت الأرضُ بنورِ ربِّها.. ووضعَ الكتابُ.. وجيء بالنبيين والشهداء، وقُضِي بينهم بالحقِّ، وهم لا يُظلمون).. العبارة القرآنية (وأشرقت الأرض بنور ربها)، الإشارةُ، فيها، إلى النور الذي به الظهور، وهو النور الأول، فالله نور السموات والأرض، وهو يعني أيضا نور المعرفة بالله.. وهذه هي جنة المعاني.. فالأرض تمتليء بالعلم بالله، وهو ما أشارت إليه التوراة بالعبارة: (لا يفسدون في كل جبل قدسي، لأن الأرض تمتليء من معرفة الرب، كما تغطي المياه البحر)..
كلمة المسيح في الاصل، ليست اسماً، وإنما هي صفة.. وهي تعني: الممسوح بزيت البركة، وتعني المُخَلِّص أيضاً.. وقد كان اليهود ينتظرون مسيحهم الذي وعدوا به، ولما جاءهم عيسى بن مريم، عليه السلام، كمسيح، رفضوه، ولا يزالون ينتظرون مسيحهم.. ومريم، في التأويل، هي النفس الطاهرة، وهي التي يجيء منها المخلِّص الأخير، الذي به يكتمل تطبيق رسالات السماء، عند الإنسانية كلها، ويتحقق موعود الله، الذي جاء في قوله تعالى: (إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة).. هذه الخلافة، قد بدأت بآدم، وهي تكتمل بالمسيح المحمدي.. وعندها تتحقق البشارة بلقاء الملك والملكوت.. وهي بشارةٌ قد وردت، أيضاً، عند المسيحيين، في دعائهم الأساسي، الذي جاء فيه: (أبانا الذي في السموات.. ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء، كذلك على الأرض).. وجاء من إنجيل متى الإصحاح الخامس والعشرون قوله: (ومتى جاء ابن الإنسان، في مجده، وجميع الملائكة والقديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض، كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه، والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثُوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم).
العودة:
يقول القرآن: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)”
وهذا المعاد، هو العودة إلى البدء الذي تحدثنا عنه، و ذكرنا، عنه، قولَ المعصوم: (أولُ ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر)، وقوله: (كنتُ نبياً، وآدم بين الماء والطين)، وقول القرآن: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).. فالعودة، هي عودةٌ إلى أحسنِ تقويم، وبها، تُفتتح دورةٌ جديدةٌ للحياة على كوكب الأرض، بها يتحقّق الإسلام، والسلام، ويبرزُ الإنسان إلى مقام عزِّه، المدّخَرِ له (مُنذ نشأَة الكون). عبدالله ابنُ عباس، رضي الله عنه، يقول: (عجبتُ لمن ينتظر عودة عيسى، ولا ينتظر عودة محمد)!!.
مقام الوسيلة:
مقام الوسيلة هو مقام الخليفة، الذي جاء في قوله تعالى: (إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة).. والخليفة بمعنى عام هو الإنسان.. ولكنّ الإنسان لا يستحق الخلافة، إلا إذا أصبح مؤهلا لها، بالمقدرة على تنفيذ مرضاة مخلِّفه، وهو يكونُ خليفةً، بقدر تأهيله هذا، ومن هنا تأتي الخلافة، بالمعنى الخاص.. وقد افترعت هذه الخلافة، بآدم عليه السلام، ثم توالت في أنبياء الحقيقة، إلى أن وصلت إلى قمتها بمحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، في مقام نبوته.. ومنذ أن صدر الإذن الإلهي بالخلافة، ظلّت، العناية الإلهية تعد المسرح لها، مسخرةً لذلك جميع الوجود، علويِّه وسفليِّه.. وما تحرّك من متحركٍ، ولا سكنَ من ساكنٍ، إلا في سبيل تحقيق هذه الغاية!! والخليفة، في القمة، هو واحد.. وهو من افترع به الوجود الحادث، عندما برز في عالم الملكوت، وهو الذي سيختم به الوجود الحادث، عندما يتجسد في عالم الملك.. هذا الخليفة، هو الذات المحمدية، التي ظلت تطلب تجسيد مقامها، في الملك، منذ أن كانت (في أحسن تقويم)، وقد ظل هذا المقام يتنزل، عبر التجربة الطويلة، منذ ذلك التاريخ، والأرض تتهيأ لاستقباله، كلّ حينٍ، في مستوى جديد..
وقد تهيأت الأرض، الآن، تماماً، لهذا النبأ العظيم، واكتملت جميع الشروط الظاهرية له.. وبظهور هذا المقام يجيء رسول أمة المسلمين.. فالحقيقة المحمدية، هي مقام ولاية النبي محمد، وقد ألم بها في معراجه، فشهد الذات الإلهية، شهوداً ذاتياً، بلا واسطة، وقد تخلف عنه جبريل.. فحقق بذلك أعلى مقامات العبودية لله، إذْ لا يشاهد الرب إلا العبد.. ثمّ، وعد الله، تعالى، نبيَّه أن يبلّغه هذا المقام، في الأرض، فقال له: (ومن الليلِ فتهجّد به، نافلةً لك، عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً).. وقد ظلّ النبي الكريم، عليه السلام، يعملُ في شريعته (سنّته)، جاهداً، ينتظرُ تحقيقَ وعدِ الله له، فكان كأنّما نُصبَ له علمٌ فشمّر يطلبُه، كما وصفه الأصحاب.. وقد بُلِّغ المقام، عند التحاقه بالرفيق الأعلى، ونزلَ به إلى برزخِه، وفي ذلك يجيء الحديث، الذي ترويه السيدة عائشة.. فقد ورد في الحديث، أنّ جبريل قال للنبي، وهو في فراش مرضه: (إنّ الله، عزَّ وجلَّ، يقرأ عليك السلام، ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدَك كرامةً وشرفاً، وأن يتمَّ كرامتَك، وشرفَك على الخلق، وأن تكونَ سنةً في أمتك.. فقال: أجدنُي وجِعاً.. قال: أبشر فإنّ الله، تعالى، يريدُ أن يبلّغَك ما وعدك).. يشير بقوله (يبلّغك ما وعدك) إلى (المقام المحمود).. وقد بلغه، كما وعده ربُّه، ونزل به إلى برزخه.. وبذلك أصبح المقام الذي برز إلى الملكوت، منذ البدء، متحقّقاً في البرزخ، ويُنتظر له أن يتحقّق في الأرض..
ولما كانت النبوة قد خُتمت، فقد أصبحت الأرض تُعدُّ، روحياً، للمقام المحمود، عن طريق الأولياء، من آل بيتِ النبي، وجميعهم ممدودون من النبي، عليه أفضل الصلاة والسلام، في برزخه.. وكلُّ المسيرة، تستهدف، أن تتوحّد أنوارُ ولايات آل البيت، في الأرض، مع نور الحقيقة المحمدية في البرزخ، وبذلك تتجسد الحقيقة المحمدية على الأرض، ويتوحد المُلك والملكوت.. ولحظة هذا التوحّد هي الساعة، وهي المسيح المحمدي، وقد برز إلى مقامه، مقام الحقيقة المحمدية، مقام ولاية النبي، الذي منه تجيء الرسالة الأحمدية.. وواردٌ، في ذلك، قوله تعالى: (وأقسمُوا بالله جهدَ أيمانِهم، لا يبعث الله من يموت، بلَى وعداً عليه حقاً، ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمُون* ليبيّنَ لهم الذي يختلفُون فيه، وليعلمَ الذين كفرُوا أنّهم كانُوا كاذِبين* إنما قولُنا لشيءٍ إذا أردناه، أن نقولَ له كُنْ فيَكُون).. قولُه تعالى: (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) يعني ليبيّن لهم (النبأ العظيم) الوارد في قوله تعالى: (عم يتساءلون؟!* عن النبأِ العظيم!!* الذي هم فيه مُختلفون!).. وهذا المقام، هو نفس مقام (الوسيلة)، الذي قال عنه تعالى: (يا أيُّها الذين آمنوا، اتقُوا الله، وابتغُوا، إليه، الوسيلة).. فمع التقوى، جاء الأمر بابتغاء الوسيلة!! وهذا المقام هو الذي يختصم فيه الملأ الأعلى، وقد جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: (إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثلَ ما يقول، ثم صلُّوا عليّ، فإنّه من صلّى عليّ صلاةً، صلّى الله عليه، بها، عشراً، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلةٌ في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجُو أن أكونَ هو، فمن سألَ لي الوسيلة، حلّت له شفاعتي).. فالنبيُّ، وهو في مقام نبوته، كان يطلب مقام ولايته.. وهو مقام (الختم) ختم الأولياء، الذي تحدث عنه كثيرٌ من الصوفية..
مقام الوسيلة، إذن، هو مقام (الخليفة)، خليفة الذات الإلهية، وهو الذي يكون بين الذات، وجميع الخلق.. فهو من يحقّق العبودية الكاملة لله، وليس لكمال العبودية نهايةٌ فتُبلَغ.. وفي هذا المقام، يبرز أكمل تجسيد لأخلاق الله، الواردة في القرآن.. إنّ كلّ المسلمين يكادون يعرفون أمر الوسيلة هذا، ويدعون للنبي الكريم به، بعد الآذان، ولكن نظراً لغياب فهم مثاني القرآن، عندهم، ولارتباط المقام بالجنة، كما هو واردٌ في الحديث، وَهِمَ معظمُ المسلمين فظنُّوا أنّ المقام مرتبطٌ بالجنة الكبرى، وذهلوا عن جنة الأرض.. فالجنة، المعنية في الحديث، هي جنة الأرض، وهي إنّما تتحقق، بتحقيق مقام الوسيلة الذي تجيء منه الرسالة الأحمدية، وتبرزُ، به، أمةُ المسلمين، إخوان النبي، الذين كان يشتاق إليهم، وبذلك تُفتَتَح دورةُ اليوم الآخر، ويرثُ أهلُ الأرض الملكوتَ الذي أعد لهم منذ الأزل..
لا ريبَ أنّه معلومٌ، عند جميع المسلمين، أنّ النبيّ، عليه أفضل الصلاة والسلام، هو أولُ من يبعثُ من الأموات، ولكنْ، لِغياب فهم مثاني القرآن، عندهم، ظنُّوا أن هذا البعث، يتم بعد الساعة الكبرى، وذهلوا عن حقيقة أنه يتم عند الساعة الصغرى، بل هو الساعة الصغرى، نفسها!!
إن أمر الوسيلة، هو أهم وأخطر، شأن في الوجود الحادث.. ولا سبيل لبعث الدين، ولا سبيل للخلاص بصورةٍ عامة إلا به، فهو وحده المُخَلِّص.. ومن أجل ذلك، جاء قول الأستاذ محمود، من كتاب (طريق محمد): “إنّ محمداً هو الوسيلة إلى الله وليس غيره وسيلة منذ اليوم.. فمن كان يبتغي إلى الله الوسيلة، التي توسله وتوصله إليه، ولا تحجبه عنه أو تنقطع به دونه، فليترك كل عبادة هو عليها اليوم، وليقلّد محمداً، في أسلوب عبادته، وفيما يطيق من أسلوب عادته، تقليداً واعياً، وليطمئن، حين يفعل ذلك، أنه أسلم نفسه لقيادة نفس هادية، ومهتدية”.
يتبع…
رفاعة في20/3/2023م