مقالات وآراء

حرب البرهان وحميدتي ونكسة النخب السودانية

طاهر عمر 

 

النكسة هي كلمة من إنتاج عقل النخب العربية للتحايل على نفسها كي لا تعترف بالهزيمة ومن بعدها البحث عبر الفكر النقدي الذي يؤسس للمشاريع النقدية في توضيح أسبابها وبالتالي إماكنية تجاوزها . لكن من بين النخب العربية ما هو قادر على كسر جدار الصمت وبالتالي مجابهة النفس بعيوبها التي أقعدتها وهذا ما جسده هشام شرابي في مشروعه النقدي وقد تفتح وعيه على حقيقة الكل لا يريد مواجهتها.
هشام شرابي تأكد له بأنه لا يمكنه تقديم مقاربات لحالة الكساد الفكري بين النخب في العالم العربي ما لم يفارق الفكر الفلسفي التجريدي ويتجه الى الواقع في دراسة حالة كساد المجتمعات العربية على أرض واقعها وبالتالي معرفة أسباب توارثها الى حالة العجز وعدم الوصول الى العقلانية.
ولهذا نجده قد قدم نقد لحالته هو نفسه كمفكر ويعتبر في نقده لتجربته متقدم جدا على كثير من النخب العربية بل يكاد يكون متقدم على صديقه ادورد سعيد الذي تأخر في تقديم نقد لتجربته كما فعل هشام شرابي ورغم جهوده الفكرية المتقدمة إلا أن حال العالم العربي يتحايل على فكر المفكريين من أمثال هشام شرابي لذلك نجد الأحتفاء بفكر هشام شرابي يكاد يكون قليلا جدا مقارنة بمفكريين يسيرون مع الموجة ومع الموضة والعنتريات التي لن تقتل ذبابة.
إنتبه هشام شرابي بسبب صدمة نكسة عام 1967م وكانت صفعة قوية في وجه من يريد أن ينتبه ومن بعد الإنتباه مواصلة مشروع التفكير النقدي وهذا ما سار على دربه هشام شرابي بنشاط ترسمه دالة في زيادة إضطراد فكره ونضوجه من حقبة الى أخرى.
هشام شرابي وجد نفسه في صبيحة النكسة أمام حالتين إما أن يسلم نفسه لليأس الذي يأكل أحشاءه ويمزغ عواطفه و يشتت فكره أو أن يرمي بنفسه في بحث جاد يتفادى به إحساسه المر بالهزيمة ويساعده في إعادة بناء تجربته بفكر جديد ينتشله من حالة الإحساس المر بالهزيمة والعجز عن مجابهتها والتغلب عليها رغم تجذرها على مر العقود ويتوارثها جيل عن جيل في عالم عربي إسلامي ذو ثقافة عربية إسلامية تقليدية لا تعرف سبيل الى الإنتصار للفرد والعقل والحرية وبالتالي عجز عن تأسيس قيم الجمهورية.
أظن أن الحالة التي وجد فيها هشام شرابه نفسه صبيحة النكسة هي نفس الحالة التي قد وجدت النخب السودانية نفسها فيها أي صبيحة حرب البرهان وحميدتي وهي تجسد لحظة مكاشفة و فضح للنخب السودانية بأنها لم تجيد رص صفوفها حيث تكون هناك علاقة متينة تربط بين السياسي السوداني والمفكريين والمثقفين والمؤرخين غير التقليديين والاقتصاديين.
وبالتالي حرب البرهان وحميدتي قد وضعت النخب السودانية في مواجهة مرة وصعبة على النخب السودانية وكشفت لهم بأن هناك علاقة مفقودة كحلقة مفقودة بين السياسي السوداني والمفكريين السودانيين وهذا ما نبهنا له في عدة مقالات سابقة قلنا بأن في الشعوب الحية نجد خلف السياسي يقف المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصادي كما تحلق حول شارل ديغول فلاسفة ومفكريين ومؤرخيين واقتصاديين نذكر من ضمنهم ريموند أرون ومالرو وغيرهم كثر ممن أثروا ساحة الفكر في فرنسا.
هذا هو الغائب في ساحتنا السودانية و نضرب عليها مثلا نجده حول الصادق المهدي كرجل دين أكثر من أن يكون سياسي و نائبه برمة ناصر كعسكري لا تربطه أي علاقة بالفكر و لا الفلسفة و لا الاقتصاد كل مؤهلاته التي جعلته أن يكون رئيس الحزب بعد رحيل الصادق المهدي تقف خلفها فكرة سلطة الأب وميراث التسلط لذلك لم تثمر جهوده لتأخير الحرب بين البرهان وحميدتي وهذا وحده يجعل برمة ناصر أن يحس أنه تجسيد لصورة أب في مجتمع تقليدي وفشل برمة ناصر في تأخير المناوشة بين البرهان وحميدتي هذا وحده يكفي بأن يجعل النخب السودانية تدرك أنها نخب تقليدية.
هذه الحرب العبثية بين البرهان وحميدتي من المفترض أن تفتح عيون النخب السودانية الى أن تجربتها وماضيها الموروث من النخب السودانية منذ أيام مؤتمر الخريجيين ليس فيه ما يسعف حال المجتمع السوداني المتشوق للتحول الديمقراطي.
لهذا قلنا أن حال النخب السودانية في صبيحة حرب البرهان وحميدتي كحال هشام شرابي إلا أن هشام شرابي قد وجد حلوله في الغوص عميق في دراسة المجتمع كي يفارق ذاكرة محروسة بالوصايا وممنوعة من التفكير وعليه نقول للنخب السودانية أن ما ينقذهم من حالهم البائس هو أن مفارقة الذاكرة المحروسة بالوصاية وممنوعة من التفكير والشب عن طوقها يبداء بكسر حلقتها والشب عنها بابتداء مسيرة فكر جديدة كما فعل هشام شرابي.
ويذكر هشام شرابي كيف كسر حلقته وشب عن طوقها وقال أنه قد أعاد قراءة كتابات كارل ماركس وهو تحت صدمة النكسة كحال النخب السودانية في نكستها بسبب حرب البرهان وحميدتي وقد وصف هشام شرابي حالته النفسية وكيف أنه أحس بإحساس قد هز أعماقه لم يحسه إلا عندما قراء فردريك نيتشة وهو شاب وجاءه شعوره كأنه يقراء ماركس لأول مرة.
لكن إنتبه أيها القارئ الحصيف قراءة هشام شرابي لماركس ليست قراءة لماركسية قد أصبحت الأفق الذي لا يمكن تجاوزه كما يتوهم الشيوعي السوداني قراءة هشام شرابي لماركس كانت لماركس تحت الأغلال وليس لماركس طليقا كما يتوهم الشيوعي السوداني لهذا السبب نجد في فكر هشام شرابي الذي يوصي القارئ ذو القراءة المشاركة و ليست القراءة الناعسة بالا يقع تحت نير أيدولوجية النسخ المتحجرة للشيوعية كحال الشيوعية السودانية و هنا يصل مستوى هشام شرابي في مشروعه النقدي لمستوى المفكريين الغربيين كورثة عقل الأنوار وحتى أحزابهم الشيوعية في الغرب قد أيقنت من نمط الانتاج الرأسمالي وهذا هو المستوى الغائب عند النخب السودانية.
ما أريد قوله من خلال تجربة هشام شرابي وكيف أعاد قراءة الفكر الغربي وكيف أيقن بأن تاريخ الغرب قد إختصر تاريخ البشرية وهشام شرابي متخصص في تاريخ أوروبا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر وهو يصادف نهاية الليبرالية التقليدية وبداية أمشاج وتخلق الليبرالية الحديثة وقد وضحت أشعتها بعد ما يقارب الخمسة عقود.
نريد أن نذكر القارئ أن لحظة يقظة هشام شرابي بسبب نكسة عام 1967م تصادف عند النخب السودانية نكسة فكرية جعلت أغلب النخب السودانية لم تفارق أطلال المحاولات البائسة للنخب في ذلك الزمن البعيد و نضرب عليها مثلا بأن النخب السودانية لم تدرك حتى اللحظة أن فكر ذلك الزمن وقد برع في تقديمه الاستاذ عبدالخالق محجوب قد فشل مع فشل ثورة الشباب في فرنسا عام 1968م ولكن نجد الفرق بين هشام شرابي وعبدالخالق في أن هشام شرابي إنتبه لمفارقة الأيدولوجيات المتحجرة كالشيوعية السودانية وأحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب الطائفية والحركة الاسلامية السودانية.
الفرق الواضح بين تطور فكر هشام شرابي هو أن عبدالخالق محجوب حاول وجود دور للدين في السياسة السودانية عكس هشام شرابي كان يرى في الفكر الديني أكبر حاضنة لفكرة سلطة الأب وميراث التسلط ونجد محمد ابراهيم نقد قد واصل خط أستاذه عبدالخالق في حوار حول الدولة المدنية ووصل الى توفيق كاذب لعلمانية محابية للأديان.
وهنا يبين لك عجز النخب السودانية لو قارناهم بهشام شرابي وهو يقول بأن جبن أتباع اليسار في تماهيهم مع الخطاب الديني وللأسف لم نجد أي نقد جاد لمحاولات عبدالخالق وبحثه لدور للدين في السياسة السودانية التي أتمها محمد ابراهيم نقد في بحثه لدور للدين في السياسة السودانية كتوفيق كاذب يوضع مشاريع الترقيع التي أورثتنا هيمنة فكر الهويات الخائفة وقد إنفتحت على الهويات القاتلة وقد جسدتها الحركة الاسلامية السودانية طيلة حكمها القامع على مدى ثلاثة عقود.
أريد أن ننبه النخب السودانية الى نكسة حرب البرهان وحميدتي والإحساس المر للنخب بالخيبة يجب أن تصحي فيهم نزعة التفكير النقدي وأول خطواته مفارقة فكرهم القديم وإعادة قراءة كثير من المراجع كما فعل هشام شرابي مع تجربته في قراءته التي فتحت أمامه آفاق الفكر بعيدا عن التوفيق والتلفيق الكاذب للنخب السودانية وهي تعيد خط نخب نهاية الستينيات أي أيام محاولات التوفيق الكاذب لعبد الخالق محجوب بين الفكر الديني والفكر الذي يبحث عن الانتصار للفرد والعقل والحرية.
وللأسف الشديد نجد إصرار النخب السودانية على محاولات عبد الخالق في تماهيه مع الخطاب الديني وهو ينبعث في فكرة المساومة التاريخية للشفيع خضر بين يسار سوداني رث ويمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني وهو يتسكع ويحاور ويداور ويعيد ويكرر فكر عبدالخالق ولا يختلف عنه الحاج وراق في دعوته لمهادنة الطائفية والشيوعية السودانية وفوق كل ذلك نجد فكرة النور حمد في يوم خديعة من الكوز خالد التجاني النور وقد طرح فكرة المؤالفة بين العلمانية والدين وكان في ضيافة خديعة الكوز مع النور حمد كل من كمال الجزولي ورشا عوض وغيرهم كثر في لقاء نيروبي بالمناسبة لقاء نيروبي كان يوم يوضح لك كساد النخب السودانية.
لهذا حرب البرهان وحميدتي لا يمكن مجابهتها بفكر المفكريين الحاليين ورثة فكر نخب سودانية وقف فكرها في حقبة عبد الخالق محجوب في نهاية الستينيات من القرن المنصرم بل تحتاج لفكر جديد كما بداء هشام شرابي مشوار فكره من بعد النكسة و عليه نقول للنخب تنتظركم مسيرة طويلة وشاقة كمسيرة هشام شرابي وقد تحمل التعب في سبيل الشب عن طوق الجهل الذي يورث القراءة الناعسة.
في الختام أستلفنا فكر هشام شرابي لمجابهة حالة السودان لأن حكم الحركة الاسلامية السودانية في الثلاثة عقود الأخيرة قد حولت مشهد السياسة والفكر في السودان وقد جعلته لا يختلف عن حال تردي الفكر والسياسة في العالم العربي ولهذا يصلح فكر هشام شرابي لتفكيك تجربة الحركة الاسلامية السودانية وأتباعها وقد أنزلوا مستوى طموح الشعب السوداني الحالم بالتحول الديمقراطي الى حال الدول العربية وهي عاجزة أن تؤسس لقيم الجمهورية.
ويمكن أن تقول بسبب حكم الحركة الاسلامية السودانية وتدمير طموح الشعب السوداني لأول مرة يصبح الشعب السوداني أقرب لحال العالم العربي والاسلامي المعادي لفكر الحداثة ومن هنا ننبه النخب الى أن تجاوز دمار الحركة الاسلامية السودانية للمجتمع السوداني لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق طرح فكر عقل الأنوار والمفارقة المحزنة أن أغلب النخب السودانية في تماه مع الخطاب الديني.

 

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..