سياحة في غير أوانها

محور اللقيا
د. عمر بادي
مقالتي هذه عبارة عن سرد يجمع بين الخاص والعام للأحداث العصيبة في الأيام الماضية أثناء سفر الخروج من الخرطوم إلى مصر براً ، بينما حرب الجنرالين العبثية دائرة بين القوات المسلحة والدعم السريع . كنت أنوي السفر إلى القاهرة ومن ثم إلى لندن في بداية هذا الشهر الجاري من أجل تجديد إقامتي البريطانية في بداية شهر مايو القادم ، ولكن نسبة لتحديد مواعيد التوقيع الثاني للإتفاق الإطاري في أول أبريل والتوقيع علي الوثيقة الدستورية في يوم 6 منه وتكوين الحكومة في يوم 11 منه فقد غيرت تاريخ سفري من الخرطوم إلى يوم 15 من ابريل حتى أحضر العرس المدني الديموقراطي ، وكان هنالك سبب آخر وهو إنتظاري لإكتمال طباعة كتابي (شايقية حلفاية الملوك ودورهم في تكوين السودان الحديث) والذي كتبته بمناسبة مرور مئتي عام علي إستقرار الشايقية أبناء الملك شاويش في حلفاية الملوك . تطورت الأحداث دراماتيكياً ولم يكتمل عمل شيئ بل ونشبت الحرب منذ صبيحة يوم 15 أبريل وبذلك مكثت أسمع وأشاهد دمار عاصمتي الخرطوم.
كثر المحللون والإعلاميون في ذكر ما يدور ، البعض يقول بنشاط تحركات الكيزان وفلول المؤتمر الوطني في الأيام الأخيرة من رمضان وأنهم أشعلوا فتيل الحرب بالهجوم علي معسكر الدعم السريع قرب المدينة الرياضية في جنوب الخرطوم ، والبعض الآخر يقول بإستعداد الدعم السريع لساعة الصفر في صبيحة يوم 15 أبريل وهجومه علي بيت البرهان في القيادة العامة وعلي مطار الخرطوم والقصر الجمهوري والإذاعة والتليفزيون ، وبذلك دارت الآلة التدميرية في الخرطوم.
لقد تأثر المواطنون كثيراً من الحرب الدائرة فانقطعت الكهرباء في بعض المناطق وإنقطعت المياه كلياً وأغلقت البنوك والمحال التجارية وتوقفت محطات الوقود من الخدمة وإرتفعت الأسعار إلى أرقام فلكية وكثر عدد الضحايا من المواطنين بفعل القذائف الطائشة وتبادل النيران ، ولذلك خرج الكثيرون طلباً للنجاة في أقاليم السودان وفي دول الجوار.
في اليوم الثاني لعيد رمضان الموافق 22 أبريل إتفقنا ونحن مجموعة أن نستأجر بصاً نسافر به إلى حلفا . كنا من الأهل والمعارف وكانت معي زوجتي وهي مقيمة في بريطانيا ، وبينما نحن في إنتظار البص إتصل علينا سائقه وأخبرنا أنه قد ألغى سفره نسبة للإشتباك الناري في جهة المويلح غرب أم درمان. إستأجرنا حافلة 32 راكباً وتوجهنا شمالاً بطريق شرق نهر النيل بالحلفاية والجيلي وإلي عطبرة . بعد الجيلي قابلتنا قوة من الدعم السريع في إرتكاز علي الطريق تقوم بالتفتيش علي المسافرين وقابلتنا قوة أخري منهم قبل شندي. من الدامر عبرنا الجسر إلي عطبرة وفي عطبرة أشار البعض أن نذهب إلي بورتسودان ومنها ندخل إلي مصر عن طريق معبر شلاتين فاتصلنا بمن هم في بورتسودان وذكروا أن معبر شلاتين للشاحنات فقط وليس للركاب. بتنا ليلتنا الأولى في فندق في عطبرة علي أن نواصل في الصباح بالبص إلي حلفا ووجدنا البصات مليئة بالركاب فركبنا البص الذاهب إلي دنقلا علي مسافة 5 ساعات. كانت حدود مشاهداتي لمدن شمال السودان حتى ذلك الحين لا تتجاوز عطبرة وكنت أمني نفسي بالتجوال في ديار أجدادي الشايقية ، وقد هيأ الله لي هذه السياحة في ديار الشايقية وديار النوبيين فاستمتعنا بها رغماً عن أنها كانت في غير أوانها.
مررنا بالقرير وبمروي بجانب مطار مروي وبرجه الذي شاهدناه كثيراً من التليفزيون وأعجبتنا أشجار النخيل التي تسد الأفق بكثرتها ومررنا بكريمة والبركل حيث جبل البركل التاريخي المقدس مقر الإله آمون الذي يحج إليه الكوشيون الموحدون وبجانبه عدة أهرامات ويقال أن كلمة آمين التي تختتم بها أدعية الصلوات في الديانات السماوية كلها مشتقة من إسم آمون. بعد أن وصلنا دنقلا إستقلينا حافلة ميني بص 16 راكب إلي حلفا مسافة 5 ساعات مررنا بقرية عبري موطن الشاعر الجيلي عبدالرحمن والتي قال فيها قصيدته : أحن إليكِ يا عبري ، حنيناً بات في إثري ، ثم قرية صواردة وهي قرية الفنان محمد وردي فنان أفريقيا ولدينا في حلفاية الملوك مقابر تسمى الصواردة تعود تاريخياً إلى إستيطان النوبيين في الحلفاية من قديم الزمان . حلفا عادت مدينة عامرة بعد إنحسار مياه بحيرة النوبة ونزول منسوبها وعادت ميناءً برياً كما كانت سابقاً قبل تهجير أهاليها إلي حلفا الجديدة في حكومة الفريق عبود . كان الزحام بها شديداً وبتنا في منزل خالِ يملكه صديق لأحد المسافرين وفي الصباح ركبنا حافلة أخرى ميني بص 16 راكب إلي المعبر ثم أسوان.
وصلنا المعبر أشكيت عند إفتتاحه في الصباح وجرت إجراءات المغادرة في سلاسة وكل الحاضرين غادروا حتى الشباب الذين لا يملكون فيزة لدخول مصر سمحوا لهم ولكن لم يسمح المصريون لهم في معبر قسطل من الدخول وأمروهم أن يعودوا ويتحصلوا علي الفيز من القنصلية المصرية في حلفا والتي تأخذ إجراءاتها يومين. الإجراءات عدة في الجانب المصري عدة منها تفتيش العفش بالأيدي وبالأشعة ودفع رسوم عدة باهظة ثم ملء طلبات الدخول والوقوف في الصفوف الطويلة وحجز العابرين في المعبر إلي الصبح بعد توقف العبارة لأنها تعمل نهاراً فقط فيذهب الناس إلي الكافتيريا الغالية وإلي المسجد والمبيت هناك أو علي الأرصفة والتعامل كله بالعملة المصرية مع دفع رسوم إضافية عن كل عربة كخدمات مبيت ! في الصباح تتحرك البصات لمسافة 10 كيلو إلي العبارة وهي تسع 12 بص و 6 عربات وتسير لمدة 45 دقيقة في بحيرة النوبة (بحيرة ناصر) وترسو عند أبو سمبل وهي مدينة حيث معبد أبي سمبل ومنه إلي كركر وبها مواقف البصات المتجهة إلي القاهرة وأردنا نحن الرجال أن نتوقف ونركبها ونواصل مشوارنا إلي القاهرة ولكن النساء رفضن بحجة تعبهن وأن أرجلهن قد تورمت فسكتنا وقال الرجال أنهم ديموقراطيون فلنواصل إلي أسوان وهنا إنبري سائق الميني بص ووصفنا بأننا منقادون لنسائنا ! قلت له بل إن نساءنا ناعمات ! وسرنا إلي أسوان لمسافة 3 ساعات . فى أسوان الغلاء شديد والفنادق مزدحمة والسياح الأوربيون كثر لزيارة آثار جزيرة فيلة ومعبد أبو سمبل والتمتع بالشمس ، وكذلك المواصلات من طائرات وقطارات وبصات لا بد من حجزها قبل أيام عدة. نزلنا نحن في فندق صن سيت أي غروب الشمس وهو فندق 5 نجوم كنا محظوظين أن وجدنا فيه غرف خالية والدفع في الفنادق بالدولار وتتراوح بين 80 و 130 و 170 دولار في اليوم . تحصلنا علي مقعدين في الطائرة بعد يومين إنتظار قضيناهما في الفندق ثم توجهنا إلي القاهرة حيث وصلناها بعد أسبوع من بداية سفرنا مع مبيت خمس ليالِ في الطريق. من القاهرة توجهنا إلي لندن بحجزنا القديم ، وإن شاء الله لنا عودة قريبة وسوداننا الحبيب يتنسم عبير المدنية والديموقراطية ووقف الإحتراب.