مقالات وآراء

نظرية الأحداب ، وما يجري في السودان وما وراء السودان

الريح عبد القادر

الوصف الوحيد الصحيح لقوم يأجوج ومأجوج هو ما ورد في القرآن الكريم : أنهم مفسدون في الأرض.
واستنادا إلى القرآن الكريم لا يمكن أن يكون أي وصف شكلي وجسماني لهم إلا باطلا ، لأن الله سبحانه وتعالى بدأ قصتهم بقوله: “ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا”. والذكر هو الذكر الحكيم ، كلام الله ، وبذلك تبطل جميع السرديات الإسرائيلية عن أوصاف يأجوج ومأجوج (مثل ضخامة آذانهم إلى درجة أن الواحد منهم يفترش إحدى أذنيه ويتغطى بالأخرى) ، ويتعين الاكتفاء بما ورد في القرآن حصرا. ونعلم من سياق نزول الآيات الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على علم بذي القرنين ويأجوج ومأجوج ، وأنه ، صلى الله عليه وسلم ، لم يعلم عن خبرهم إلا من خلال الوحي الذي نزل عليه بعد إبطاء.
ولا نشك في أن الغرض من كل تلك الأوصاف الخرافية الشائعة ليأجوج ومأجوج هو  أن ننصرف عن حقيقتهم وعن الوصف الموضوعي الوحيد ، والمفيد ، ليأجوج ومأجوج ، إلا وهو الفساد والإفساد.
ولا يظنن أحد أن الأسماء الواردة في القرآن الكريم لا دلالة ذات مغزى لها. فأسماء الإلهة في قوله تعالى:”ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا” جميعها لها مدلولات ليس هذا مقام ذكرها. لكن الشاهد هنا أن كلمتي “يأجوج ومأجوج” لهما مدلولان يوضحان لنا معنى الفساد المقصود:
١/يأجوج: من المصدر /أجج/، وهو تأجيج النيران والفتن.
٢/مأجوج: من المصدر /مجج/، وهو الإهدار والتبديد للموارد والمنافع والأموال. فعندما نقول “مجّ الشخص الماء أو الحليب أو العسل” فإن ذلك يعنى أنه اكتفي بالمضمضة بذلك الشراب ثم لفظه ولم يبتلعه ليستفيد منه هو ، أو يترك غيره يستفد منه.
إذن فإن يأجوج ومأجوج هم جماعات تأجّج الفتن وتسوم الناس القتل بالحرائق والسلاح وتبدد الموارد التي يحتاج إليها الناس فتصيبهم المسغبة ويموتون جوعا وتقتيلا وتشريدا.
أما خروج يأجوج ومأجوج الذي يذكره الناس كحدث غرائبي فهو ليس خروجاً من السد الذي بناه ذو القرنين ، فأولئك القوم قد أراح الله منهم العالمين بذي القرنين ، والسد الذي بناه قد صار حجرا لن يزول إلا بقيام الساعة “فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا”. وهذا الوعد ، كما هو واضح ، هو وعد الساعة ، وبالتالي فإن انتظار خروج نفس جماعة ذي القرنين إنما هو غفلة ما مثلها غفلة.
ويأجوج ومأجوج “تُفتح” ولا “تخرج”، والفتح في القرآن من معانيه الكثرة: “حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج فهم من كل حدب ينسلون”، أي إذا كثروا وأصبحوا يأتون من كل حدب وصوب وينتشرون في جميع أنحاء الأرض . ونرى بوضوح أن الآية لم تقل إنهم يأتون من جهة واحدة هي سد ذي القرنين ، بل يأتون من كل حدب . والحدب هو المكاني المرتفع ، ولكنه ارتفاع شائه سقيم ، مثل الحدبة التي على الظهر ، وليس ارتفاعا إيجابيا مفيدا . والمراد أنهم يأتون من أماكن العلو والظلم والبغي ، فينتشرون في الأرض، يهدرون مواردها ، ويقتلون الناس ، ويجوعونهم ، ويشرّدونهم.
إذن فإن فتح يأجوج ومأجوج هو انتشارهم الكثيف من كل مكان وفي كل مكان في الأرض.
وما يأجوج ومأجوج إلا بشر أمثالنا ، شكلا ولونا وعرقا ، وربما دينا وثقافة . وهم يصبحون أهلاّ لتلك الصفة ، ليس بأشكالهم ، فالله سبحانه تعالى لا يؤاخذ الناس بأشكالهم وألوانهم ، لأنه ، سبحانه وتعالى ، لا ينظر إليها ، ولكن يصبح البشر يأجوجَ ومأجوج حين يعيثون في الأرض فسادا ويشتد ذلك في نهاية الدنيا حين ينتشر الفساد فيعم الأرض ولا يجد من يوقفه من الحكام من أمثال ذي القرنين. لكننا لا نعرف كيف نقيس تلك الشدة ، أو نحدد أوانها ، فما نراه صغيرا قد يراه الله كبيرا.
كان بإمكان ذي القرنين أن يكون فاسدا مفسدا مثل يأجوج ومأجوج ، ولكنه اختار أن يصلح في الأرض: يجازي الأخيار خيرا ، ويضرب على أيدي المفسدين (في مغرب الشمس) ، ويساعد الفقراء المحتاجين(في مطلع الشمس)، ويقدم العلم والتقنية حتى للشعوب البعيدة الغريبة التي لا يفهم لغتها (بين السدين).
وقوله تعالى عن ذي القرنين “قلنا يا ذا القرنين إما تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا” ليس معناه ذلك المعنى الخرافي الذي يبعدنا عن الاستفادة من هذه الآية العظيمة. يعتقد الكثيرون أن الله تعالى قد أعطى ذا القرنين “شيكا على بياض” يفعل ما يشاء ولن يسأله الله عما يفعل! كلا، بل معنى الآية هو التخيير المتاح لكل حاكم ولكل شخص: “إما أن تعذّب” فيعذبك الله يوم القيامة “وأما أن تتخذ فيهم حسنا” فيحسن الله إليك يوم القيامة.
وجد ذو القرنين في مغرب الشمس قوما عكّروا صفو الحياة بعضهم لبعض ، فأصبح الماء الصافي ، الذي تتحقق به الحياة ، عكرا بسبب الحمأ ، وهو الطين الذي خُلق منه البشر ؛ وفي ذلك كناية عن استبداد الجانب الطيني من بني آدم ، وهو شهواتهم وأطماعهم وظلمهم “فوجدها تغرب في عين حمأة”. وهنا كان بإمكان ذي القرنين أن يقف مع المفسدين ويطمع مع الطامعين ، ولكنه خشي ربه ، فقمع أهل الباطل ، وساند أهل الإصلاح ، فحقق المراد مما حباه الله من قوة وإمكانات مادية وتقنية.
وفي مطلع الشمس نهج نفس النهج حين وجد قوما مساكين محتاجين للكساء والغذاء.
أما في منطقة بين السدين ، فننبهر أمام لفتة بارعة في قوله تعالى “وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا” – قالوا ..”. فما أن انتهت الآية بجملة “لا يكاودن يفقهون قولا” حتى بدأت الآية التالية بعبارة “قالوا”. وفي ذلك إشارة موحية إلى أن اختلاف اللسان واللون والدين والجغرافيا لا يشكل حائلا بين التعارف والتفاهم والتعاون بين جميع البشر.
وهكذا نفهم أن ذا القرنين هو المقابل الموضوعي ليأجوج ومأجوج. وأن هؤلاء المذكورين في قصة ذي القرنين قد قضوا نحبهم ولا خروج لهم إلا يوم الحشر. لكن صفتهم ، التي هي الفساد في الأرض، ستظل باقية ما بقيت الجيوش والجماعات والدول الفاسدة المفسدة ، وسيتفاقم ذلك الفساد ، أي ذلك الأجج والمجج ، حين لا يؤدي ذو القرنين دوره ، وسوف تنهمر جموع يأجوج ومأجوج من جميع “أحداب الأرض”، أي مراكز العلو والطغيان فيها ، حين لا يبقى في الأرض من ذي قرنين.

والله أعلى ، وبالشكر والحمد أولى ، وهو أجل وأعلم .

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..