الأزمة سياسية، والحل سياسي (4)

د. الحسن النذير
هذه هي الحلقة الرابعة لسلسلة مقالات، كان آخرها في أول يوليو 2021م، وما زال تصنيف ما تمرّ به بلادنا في الوقت الراهن، قد بلغ مستوى أزمة سياسية كاملة الأركان، تفاقمت إلى حدٍّ مأساوي باندلاع هذه الحرب اللعينة، لا أقول بين جنرالين، بقدر ما هي حرب غادرة، على جماهير الشعب السوداني الاعزل.
ورغم أن الأولوية الملحة الآن، هي الوقف الفوري لهذه الحرب التي تعتبر أكبر خيانة للشعب السوداني وغدر بتطلعاته المشروعة للحرية والسلام والعدالة، ما زال المخرج من الأزمة، أيضاً هو شأن سياسي، يتطلّب تواضع القوى التي تؤمن بشعارات الثورة على حدّ أدنى من التوافق. حد أدني، يضع حد للظروف المأساوية التي تعيشها بلادنا الآن، وتخرجها من ازمتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي استطالت.
قبل التطرق للمقترح الاساسي لهذه الحلقة، رأينا أنه من المناسب أن نرجع إلي خلفية هامة ذات صلة، رغم بعض الفوارق المهمة، حتي لا يختلط طرحنا هذ بما تم طرحه من قبل.
وبطبيعة الحال، نتذكر أنه في ذلك الوقت، في العام 2021، وجدت تصريحات رئيس الوزراء حول الأزمة وآفاق الخروج منها، صديً واسعاً على المستوى الداخلي والخارجي، وعجّت الساحة السياسية حينها، بنقاش صاخب حول محتوياتها وجدواها.
بعض القوى السياسية، وخاصة المشاركة في التشكيل الوزاري آنذاك (الجبهة الثورية، حزب الأمة، وحزب المؤتمر السوداني، حزب البعث….)، أعلنت دون تحفظ وعلى وجه السرعة، موافقتها على مبادرة رئيس الوزراء، دون أن تطرح حلولاً للإشكالات المستعصية والعقبات التي أعاقت وما زالت تعيق مسار الثورة والتحوّل الديمقراطي، والتي ذكرها صراحة د. حمدوك في مبادرته. ذلك الموقف، بلا شك لم يساعد في “حدِّ ذاته”، على المخرج من الأزمة السياسية.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن صاحب المبادرة نفسه، لم يهدف إلى حشد تأييد لمبادرته، بقدر ما هدف إلى أن يساهم الفرقاء السياسيون المؤمنون بشعارات وأهداف الثورة، (أسماها الكتلة التاريخية)، في خلق درجة من التوافق الذي يفضي إلى إزالة العقبات أمام التحوّل الديمقراطي.
من البديهي أن العقبات التي اعترضت ولا زالت تعترض مسيرة التحوّل الديمقراطي، لا يمكن اختزالها في عدم التوافق بين مكونات قوى الحرية والتغيير، والذي أدّى إلى تشظيها بعد أن كانت أكبر تجمع سياسي في تاريخ البلاد. ومن الطبيعي أيضاً أن تختلف الآراء والمواقف بين مكونات ذلك التحالف العريض. و بديهي، أن الخلاف وتباين الآراء، أمر طبيعي، يحدث، حتى داخل التنظيم السياسي الواحد. والإخفاق، يرجع دون شك الي عدم قدرة تلك المكونات علي إدارة اختلافاتها. وانعكس ذلك الإخفاق ، في عدم قدرة بعض مكونات ذلك التحالف الواسع، على الصبر، على البقاء خارج مؤسسات الحكم خلال الفترة الانتقالية، وتفضيلهم الدخول في حكومة محاصصات بدلاً من حكومة التكنوقراط، بحجج من بينها: عدم قدرة التكنوقراط على اتخاذ القرار، وعدم خبرتهم في إدارة دولاب الدولة إلخ.. دون شك كان لتلك المحاصصة (بين بعض الأحزاب ومكونات سلام جوبا)، خلفية قد بنيت علي أساس أولويات سياسية واقتصادية جديدة ، وشراكة مع المكون العسكري في مجلس السيادة، كبديل للحاضنة السياسية، المتمثّلة في قوى إعلان الحرية والتغيير, كان لذلك القدح المعلى في تشظي أكثر، بل تفتيت لكيان قوى الحرية والتغيير.
والسؤال المُلح والمشروع هنا: هل نجحت مؤسسات الحكم المبنية على المحاصصة، فيما أخفقت فيه حكومة التكنوقراط؟ الإجابة على هذا السؤال قدّمها د. حمدوك نفسه بإعلانه عن “الأزمة السياسية” متعدّدة الأبعاد التي بيّنها في مبادرته. دون شك، لم تتمكن المحاصصة من إخراج البلاد من أزمتها، فحسب، بل فاقمتها، بأبعاد جديدة وتناقضات تناحرية بين مكونات الحكم: المدنية/مدنية، والعسكرية/عسكرية وبين المدنية والعسكرية. ويُحمد لرئيس الوزراء، الإعلان عن تلك الصراعات وذلك الواقع المأزوم، دون تحفظ، رغم أنه قد جاء متأخراً جداً.
نرجع مرة ثانية، لنؤكد بأن الموافقة في حدِّ ذاتها على المبادرة لم تك كافية لإخراج البلاد من أزمتها.
وربما ظن البعض أن الموافقة تعني ضمناً، استمرار أجهزة الحكم بشكلها: (مجلسي الوزراء والسيادة وحكام الأقاليم والولاة). في الحقيقة، جاء اعتراف وتصريح د. حمدوك حول الأزمة السياسية، أنها تحمل في طياتها تناقضات “وتشاكس”، داخل كل أجهزة الحكم. ولم ينادِ باستمرارها بعلاتها هذه. وفي نفس الوقت أكّد أن حلّ الأزمة السياسية يتطلّب بناء كيان عريض يشمل كل القوى التي تسعى لتحقيق شعارات الثورة ويضمن التحوّل الديمقراطي السلس. ولم تستثن مبادرته البحث عن حلٍّ للجانب الاقتصادي للأزمة. ولم يقل بأن سياسة التحرير التي انتهجها وأصرّ عليها، هي المفتاح الوحيد لباب الخروج من الضائقة المعيشية الخانقة. فهناك انفلات المؤسسات الاقتصادية التابعة للقوات النظامية، من ولاية السلطة التنفيذية، وهناك كارثة تجنيب حصيلة الصادر وعدم كفاءة الجهاز المصرفي، وجهاز الخدمة المدنية، وهناك تهريب الذهب وعدم السيطرة عليه كسلعة سيادية، وهناك التهرب الضريبي، إضافة إلى التخريب الاقتصادي الممنهج الذي تقوم به فلول النظام البائد، وهناك أيضاً، كارثة تعدد وتناقض منابر السياسة الخارجية. وحتى في شأن مساعي الحكومة من أجل تخفيف الآثار المؤلمة لسياسات التحرير التي يؤمن بها ويطبقها رئيس الوزراء، لم ينكر عدم فاعلية برنامج ثمرات، في ظل الفشل الإداري واللوجستي لمؤسسات الدولة ذات الصِّلة. كذلك، سلّط د. حمدوك، الضوء على عدم إنجاز مطلوبات إصلاح الأجهزة العدلية، الأمنية، العسكرية والخدمة المدنية.
بديهي أن رئيس الوزراء لم يقلل من دور كل هذه الإشكالات في تفاقم الأزمة السياسية التي كانت محور مبادرته. لذلك يبدو من الخطأ، أن يعتقد من أعلنوا تأييدهم للمبادرة، أن موقفهم هذا، سيؤدي إلى نجاح الحكومة القائمة آنذاك، في إيجاد مخرج من الأزمة السياسية.
برغم أن المبادرة لم تشمل المكون العسكري، إلا أن الشيء المؤسف أن رئيس الوزراء في ذلك الوقت لم يشر بصورة جريئة إلى العقبات التي وضعها المكوِّن العسكري، أمام استحقاقات ثورة ديسمبر، وذلك رغم أن المكوِّن العسكري قد شكَّل جداراً أعمى أمام الإصلاحات التي نادت بها قوى الثورة الحيّة فيما يتعلق بالأجهزة الأمنية، القضائية، الخدمة المدنية، النظام المصرفي إلخ.. لم تفصح المبادرة عن عرقلة المكون العسكري لتلك الإصلاحات الضرورية. هنا يبرز على السطح تساؤل مهم: هل كانت تلك المبادرة ستجد طريقها إلى النجاح بلا سند جماهيري واسع؟ بمعنى آخر، ألم يكن من الأجدى أن يسعى رئيس الوزراء إلى مخاطبة جماهير الثورة الحيّة وشرح أسباب الفشل في تحقيق استحقاقات الثورة، وعلى رأسها مواقف المكوِّن العسكري؟ ألم يكن ذلك أجدى من تلك المبادرة المعزولة جماهيرياً. نذكر أنه في ذلك الوقت كان رئيس الوزراء يتمتع بجماهيرية لم ينلها قبله شخص في تاريخ السودان الحديث.
فيما يتعلق بالجانب الآخر، المعارض لتكوين وسياسات الحكومة الانتقالية، يبدو أن الحديث حول موقفه من مبادرة د. حمدوك، يعتبر تحصيل حاصل رغم أنه لم يفصح أو يعلن عن هذا الموقف. لكن ومن البديهي، أن هذه القوى، لم تعر مبادرة د. حمدوك، اعتباراً، ويبدو من الصعوبة بمكان، بل من المستحيل أن تجد المبادرة أي درجة من الترحيب من القوى السياسية خارج التشكيل الوزاري القائم أو من قبل لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني وفصيلي الحلو وَعَبَد الواحد نور، وذلك لمواقفها المعلنة تجاه، التحالف الحكومي القائم، إضافة إلى أن المبادرة، لم تستثن االقوى التي شاركت المؤتمر الوطني الحكم بصورة معلنة.
وفي حالة استثناء المبادرة للمؤتمر الوطني بصورة قاطعة، والقوى الأخرى التي شاركته الحكم، فلربما تهيئ الجو لجلوس كل أو على الأقل، الغالبية العظمى لمكونات القوى التي احتواها ذلك الكيان العريض، لقوى إعلان الحرية والتغيير، قبل تشظيه، حول طاولة مستديرة من أجل الحوار، بهدف التوصل إلى الحدّ الأدنى الضروري من التوافق الذي يمهد الطريق للوصول إلى حل للأزمة السياسية التي تمرّ بها البلاد، و يمهد الطريق للتحول الديمقراطي المنشود.
من جانب آخر، من الضروري أن يراعي الحدّ الأدنى الذي أشرنا إليه، في مقالنا الذي سبق مبادرة د. حمدوك بفترة قصيرة، المتطلبات التالية:
-طبيعة الظروف الحرجة التي تمرّ بها المناطق المختلفة، الخارجة من النزاعات، والظروف الصعبة التي يعاني منها النازحون واللاجئون والجنود الذين حملوا السلاح لعقود من الزمن.
– التهميش و العزلة التي عاني ولا زال يعاني منها القطاع التقليدي، الريفي رغم مساهمته الكبيرة في الاقتصاد الوطني،
– حجم الظروف المعيشية والصحية القاسية التي تعاني منها الأغلبية العظمى من الشعب، والتي ما باتت محتملة في ظل السياسات الاقتصادية التقليدية، للتحرير الاقتصادي،
– الظروف المعقدة التي يعاني منها القطاع الخاص وصغار المنتجين، في كل القطاعات الاقتصادية.
– الصراعات القبلية وانتشار السلاح والانفلات الأمني المرير الذي عمّ كل أرجاء البلاد.
– حقيقة أن الشراكة مع اللجنة الأمنية لقيادة النظام البائد قد شكلت العقبة الرئيسية أمام تحقيق استحقاقات ثورة ديسمبر،
– حقيقة أن الحرب القائمة بين الجيش وقوات الدعم السريع قد شكل خلفيتها الحقيقية الصراع علي السلطة بين انصار النظام البائد الذين بختبئون تحت عبائة اللجنة الأمنية ويستندون على القاعدة التي بنوها داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية خلال ثلاثة عقود، والمليشيا التي تخبئ طموحها في السلطة تحت مظلة حماية التحوّل الديمقراطي، ومن ثم فإن هذه الحرب، حرب ضد تطلعات الشعب السوداني للتحوّل الديمقراطي ، وغدر بالمواطنين العزل، اللذين طالبوا بالحرية والسلام والعدالة بسلمية اذهلت العالم.
بلا شك، وضع كل هذة الاعتبارات والإشكالات، والظروف الخاصة المتعلقة بأولويات جميع الفرقاء الوطنيين في الساحة السياسية، (بما فيهم حركات الكفاح المسلح) في عين الاعتبار، سيمهد الطريق للتوصل إلى الحدّ الأدنى من التوافق الذي يخرج البلاد من ازمتها السياسية المتفاقمة، والتي أضاف لها النزاع المسلح الحالي بُعداً مأساوياً.
في نفس الوقت، إن التمترس عند سقوفات عالية من المطالِب والشروط، بغض النظر عن صحتها ومشروعيتها من عدمه، لا يساعد على التوصل إلى الحد الادني من التوافق المطلوب، فالسياسة هي فن الممكن.
كما أشرنا سابقاً، من المنطقي أن الآلية للتوصل لتوافق الحد الأدني، ليست غير الجلوس حول طاولة مستديرة لمعالجة جذور الازمة السياسية في البلاد منذ الاستقلال، علي أقل تقدير، وحتي قمة الأزمة التي بلغتها البلاد، بإندلاع النزاع المسلح الطائش المأساوي الحالي.
من الضروري والملح أن يجد المخرج من النزاع المسلح الحالي مساحة كافية في اجندة الطاولة المستديرة المقترحة. بالمخرج نعني :-
– نزع فتيل الحرب ومسبباتها،
– الاتفاق علي أولويات إعادة الإعمار وآلياتها
– الإتفاق علي برنامج إسعافي عاجل باولويات تشمل توفير الاحتياجات العاجلة للمواطنين خاصة في مجالات الصحة، الغذاء، مياه الشرب، التعليم، الطاقة، اعادة بناء المرافق العامة…الخ
من جانب المشاركة في المائدة المستديرة قد يكون من المناسب أن تضم كل الفرقاء السياسيين، الذين ضمتهم قوى إعلان الحرية والتغيير قبل تشظيها، بما فيهم حركات الكفاح المسلح كلها إضافةً إلى لجان المقاومة، ومنظمات المجتمع المدني (بالمفهوم الشامل) والنقابات واتحادات المزارعين…
إن المخرجات المتوقعة من هذه الطاولة المستديرة، والتي من الضروري أن يتم التوافق عليها بالتراضي، يجب أن توضع في جدول زمني ملزم ويتم تضمينها في وثيقة دستورية جديدة والتي يجب ان تسد كل ثقوب ما تم التوافق عليه في الماضي بما في ذلك الاتفاق الاطاري، وتكون ملزمة لكل الأطراف وللسلطة التنفيذية، خلال الفترة الانتقالية.
تبقى سؤال مهم، حول كيف سيوافق الجانب العسكري في المجلس السيادي الحالي على ما تم طرحه أعلاه ؟
إن لم يوافق العسكريون علي مخرجات الطاولة المستديرة ، وهذا أمر متوقع، حينها تستوجب الظروف استغلال كل وسائل الضغط السلمية والمشروعة مع إشهاد المنظمات الإقليمية والدولية، وبعثة الأمم المتحدة، تحت الفصل السادس. هذا بالإضافة الي ما يراه الفرقاء السياسيون، من حلول عملية، فالعسكريون لهم دورهم ومهامهم في حماية الحدود والدستور وليس الحكم. وقد يشمل توافق القوي السياسية، إجراء تحقيق فضائي حول إشعال الحرب والجرائم التي ارتكبت خلالها وتثبيت ضرورة عدم الافلات من العقاب، لضمان عدم تكرارها، بآليات من بينها العدالة الانتقالية.
ومن الضروري التأكيد علي أن لجان المقاومة، يجب أن تكون شريك اصيل في أعمال الطاولة المستديرة، إلى جانب الحكماء الوطنيين والخبراء المرموقين، ونخب مبادرة جامعة الخرطوم للبناء الوطني وغيرهم ممن يتم التوافق عليهم “حواء السودان ولود”،
يتبع