مقالات سياسية

أحزان السودان

لست أدري أهي أحزان السودان وحده أم هي أيضاً أحزان العالمين العربي والأفريقي؟ بل والإسلامي كذلك، إنها أحزان العالم المعاصر حين تتعرض دولة كبيرة تعد بوابة العرب إلى أفريقيا لما جرى ويجري فيها من صراع دموي على السلطة وعدوان على المدنيين والأبرياء، وتحطيم للبنية التحتية للدولة، وتمزيق وحدة قواتها المسلحة، فالسودان الذي كان أكبر الدول الأفريقية مساحة، ومن أكثرها ثراءً في المعادن النادرة والإنتاج الزراعي، الذي كان يمكن أن يحيل ذلك البلد الواسع إلى سلة للحبوب الغذائية لعدد من الدول العربية والأفريقية، إن هذا البلد صاحب التاريخ الطويل يصبح مسرحاً لأحداث لم تخطر على بال أكثر المتشائمين من قبل، فمن ذا الذي كان يتصور أن تتحول شوارع الخرطوم والمدن السودانية الكبرى إلى ساحات للقتال وأن تتعرض المناطق المأهولة بالسكان لطلقات المدافع وقذائف الطائرات، إنني أظن أن ما جرى في السودان يثير عدداً من الملاحظات أسوقها في ما يلي:

أولاً: أزعم (على رغم أنني لا أستسلم لنظرية المؤامرة بالكامل) أن أحداث السودان ليست منشِئة ولكنها كاشفة للصراع المحموم والمكتوم في أعماق هذه المنطقة من العالم، فلا شك أن ما جرى ضرب السودان في مقتل ولم يترك منتصراً أو مهزوماً، ولكنه واجه الجميع بهزيمة قاسية وعملية تحطيم ذاتي لا تبرير لها ولا تفسير.

ثانياً: الأحداث الأخيرة في السودان تشير بجلاء إلى التغيرات الجديدة التي طرأت على مفهوم السيادة، وكيف أن الصراع حولها يمكن أن يمزق الدول ويقسم الشعوب، ويفتح باب الجحيم على الأمة بالكامل، إن هذا البلد لم يكن ينقصه مشكلات جديدة إذ دفع فاتورة غالية قبل الاستقلال وبعده، وتعرض لانقلابات عسكرية متتالية، وحكام فرطوا في وحدته الإقليمية وسلامة أراضيه، حيث وقفت مؤسسات غربية معادية للسودان والعروبة وأفريقيا وراء ما جرى لذلك البلد العظيم ثقافياً المتميز فكرياً، ولا ننسى أنه سودان 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وسودان الإطاحة بنميري 1985، وسودان الدورات المتتالية من الحكم العسكري والحكم المدني الديمقراطي بشكل تابعناه جميعاً على امتداد العقود الماضية، إنه سودان دولة الأنصار والختمية الذي عاش سنوات طويلة قلباً للدولة المصرية السودانية، واستطاع أن يكون عمقاً استراتيجياً يمتد من حوض النيل إلى حوض البحر المتوسط، إنه سودان المفكرين والأدباء والشعراء، سودان صديقي الراحل الصادق المهدي الذي لو كان حياً الآن لكانت له وجهات نظر وإمكانات مختلفة لتسوية ما فعله رفاق السلاح ببعضهم بعضاً.

ثالثاً: أظن أن ما جرى في السودان موجه إلى دول الجوار أيضاً، وفي مقدمتها مصر، حتى يتوارى موضوع سد النهضة، وتحقق إثيوبيا ما أرادت دون معارضة دولية أو إقليمية فضلاً عن السعي لإذكاء الحركات الانفصالية، وتشجيع انسلاخ الأقاليم عن جسد الدولة السودانية، ولعل ما جرى ويجري في دارفور خير شاهد لما نقول، لذلك فنحن نظن عن يقين أن ما تعرض له السودان أخيراً هو جزء من مؤامرة إقليمية شاملة لتغيير الأوضاع واستبدال المواقف وتحويل المشهد برمته إلى مسرح عمليات جديدة بصورة تؤدي إلى معادلات مختلفة، وتحالفات لم تكن قائمة مع استخدام سرعات متفاوتة في الحركة، والانتقال المباشر إلى مرحلة تغيير التركيبة الجيوسياسية في شرق أفريقيا وحوض النيل والامتداد الشمالي للسودان حتى الحدود المصرية، إنها محاولة عبثية عرفناها في هذه المنطقة من العالم على امتداد السنين.

رابعاً: إن الشعب السوداني الذي تحول إلى مئات الألوف من اللاجئين وملايين النازحين هو المستهدف لما جرى وما يجري وقلوبنا تتمزق من أجل ذلك الشعب الأبي الصبور وهو يدفع فاتورة غالية تبدو موازية لفاتورة اللاجئين من سوريا والنازحين منها خصوصاً في الأقاليم التركية، والأمة العربية تواجه حصاراً ضخماً يحيط بخصرها من كل اتجاه، فالمشهد مؤلم، وكل يوم تولد مشكلة جديدة وتتفاقم أزمة مختلفة ونجد أنفسنا أمام صدام مختلف مع غياب الديمقراطية عموماً وتراجع الوفاق الوطني في كثير من الدول العربية، ولو نظرنا إلى دولة مركزية محورية بحجم مصر فسوف نكتشف أنها تتعرض لضغوط من اتجاهات متعددة مع محاولات يائسة لضرب العمل العربي المشترك وتشويه صورته من كل اتجاه.

خامساً: إن محاولة تدويل الصراع في السودان سوف يكون له مردود سيئ على دول الجوار، إذ إنه فضلاً عن اللاجئين والنازحين، فإن تلك الدول المجاورة سوف تدخل في معادلة الصراع السياسي الجديد الذي تفرزه آليات الموقف المتدهور في هذه المنطقة الحساسة من ظهير الأمة العربية وقرب منابع النيل، إذ إن دولة مثل مصر مرة أخرى تجد انفجاراً على حدودها الجنوبية، واضطراباً على حدودها الغربية، وتوتراً دائماً على حدودها الشمالية الشرقية، حيث يتساقط القتلى الفلسطينيون يوماً بعد يوم، لذلك فإن الرأي الراجح هو أن توسيع دائرة الصراع في السودان يضر ضرراً بليغاً بأبنائه وأنا ممن يعتقدون أنه لا يحل مشكلة السودانيين إلا السودانيون أنفسهم، كما أن وراء كل تدخل مصالح مستترة وأهداف خفية ومخططات طويلة المدى، فضلاً عن الرغبة في الاستحواذ على ثروات المنطقة، وتفتيت الباقي من وحدتها التي تعرضت في العقود الأخيرة لمحاولات تسعى لتمزيقها على دفعات متتالية في ظل مشكلات مزمنة وأزمات لا تتوقف.

سادساً: إن تمزيق وحدة الجيش السوداني الباسل الذي كان يعد ثالث جيوش أفريقيا من حيث المكانة هو تخريب متعمد، إذ إنه لا يمكن أن يكون له رأسان وقيادتان مهما كانت الظروف، والمؤسف حقاً أن تتمكن حركة انفصالية داخل القوات المسلحة من التمرد على القيادة الوطنية التي يجب أن تكون جزءاً منها، وليست خصماً لها، وكل دولة في المنطقة أو كيان سياسي يسعى لتنمية هذا الصراع وضرب وحدة الجيش السوادني، إنما هي محاولة معادية للسودان وللدولة الوطنية فيه، ولا يخالجني شك أن ذلك الصراع القائم على أرض السودان هو نتيجة طبيعية لصراعات مزمنة بين بعض التيارات الدينية والقوى الأجنبية في ظل محاولة معروفة للنيل من ثروات السودان ومعادنه النادرة وأراضيه الزراعية الشاسعة، بل إنني اشتم أحياناً رائحة الحقد على السودان على رغم كل ما كان فيه من معاناة، ذلك أن قوى كثيرة لا تريد له أن يتقدم إلى الأمام.

سابعاً: لا أتحدث عن نصرة فريق على فريق، ولكني مؤمن بوحدة الجيش السوداني، ومطالب مثل الملايين غيري، بإعادة الاعتبار لوحدة السودان وسلامته الإقليمية، مع الحفاظ على جيشه الوطني، خصوصاً وأن هناك إشاعات كثيرة وأقاويل تتردد عن دعم خفي للمتمردين على القوات المسلحة السودانية أو الذين ينالون من قيمتها ومكانتها في هذه الظروف الصعبة، وإذا كان إيقاف إطلاق النار تحقق، فتلك هي فقط البداية، لأنه لا بد من التئام الجراح وترميم الدولة بمبانيها ومنشآتها ومؤسساتها، خصوصاً تلك المشافي المعروفة لدولة السودان الكبير، ولقد تابعنا جميعاً محاولات الزج ببعض الدول العربية والأفريقية وتحميلها جزءاً من تبعة ما جرى، بينما الأمر لا يبدو كذلك على الإطلاق، بل إن مفاجأة الأحداث تؤكد أن لم يكن هناك من يتوقعها حتى أن سرب الطيران الصغير القادم من مصر لم يكن على علم بما جرى ولا طرفاً فيه، على رغم المحاولات الأولى للزج به، ومحاولة النيل من العلاقات الأزلية بين شطري وادي النيل السودان ومصر.

تلك قراءة مبدئية للمشهد العام في السودان الحزين على قتلاه والمتأثر بالخسائر الفادحة التي دفعها من إمكاناته التي أهدرت في إطار مأساته التي لا تزال تمارس آثارها على أرضه الطيبة.

مصطفى الفقي – اندبندنت عربية

تعليق واحد

  1. الرجاء تعديل العنوان من الواضح ان المقال للكاتب المصري الديلوماسي مصطفى الفقي -كما في زيل المقال-.
    وليس الاستاذ مصطفى السيد الخليل.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..