مقالات وآراء

وطنية الجيش السوداني والدعم السريع في فقه الدكتور محمد جلال هاشم (2-3)

كور متيوك

في واحد من المُحاضرات المُتميزة تميز مُفكِرنا محمد جلال هاشم، و هي موجودة على اليوتيوب بعنوان “ضرورة تفكيك دولة ما بعد الاستعمار” وفيها يرجع “هاشم” كل مشاكل السودان إلى المؤسسة العسكرية و يقول “المؤسسة العسكرية هي سبب كل مشاكل السودان، إذا كان حوالي ٩٠٪ من الفترة من الاستقلال إلى يومنا هذا حكمها العساكر و السودان متدهور إذن حكم العسكر هي المسؤول الأول عن هذا التدهور، الاستعمار لمن فات ترك أربعة نخب مُتحالفة مع بعضها البعض وهي التي ورثت الدولة وهي التي تتحمل الفشل في السودان، وهم زعماء الطوائف و زعماء العشائر الدينية والمؤسسة العسكرية وطبقة الاقلية”.

في هذه المحاضرة يتأسف “هاشم” من موقف قوى الحرية والتغيير “قحت” التي لا تريد تفكيك المؤسسة العسكرية والتي يعتبر أخر ما تبقى من النخُب الاستعمارية الأربعة وبدلاً من أن يعملوا على تفكيكها غير انهم سارعوا للتحالف معها مما ذادتهم قوة بعد الضعف الكبير الذي اعترى أوصال المؤسسة العسكرية جراء ثلاثون عاماً من الحُكم و الحروب الأهلية التي خاضوها لصالح الحركة الإسلامية السودانية وللبرهنة على موقفه الحاسِم حيال المؤسسة العسكرية انتقد جلال هاشم إيفاد الحكومة الإنتقالية ضباط في الجيش لمفاوضتهم في منبر جوبا للسلام، وهذا في رايي موقف مبدئي بالنسبة لشخص يعتقد أن أزمة الدولة هُم العسكر و بالتالي لا مجال للجلوس معهم لان هذا ليس من اختصاصاتهم التي تم التعارف عليها بالنسبة لدور الجيوش العالمية و يطرح جلال هاشم ثلاث خيارات لتفكيك دولة ما بعد الاستعمار وهي التسوية السياسية والتاريخية أما الخيار الثالث فهو المواجهة المسلحة.

و على الرغم من كُل هذا الوضوح لكن يبدوا أن جلال هاشم لم يكن ينوي المضي قدماً بأفكاره هذه حتى النِهاية وكان يخادع الشعب السوداني و المهمشين بالتحديد لذلك عندما جاء الوقت الفعلي لتفكيك النُخبة العسكرية انضم الدكتور محمد جلال هاشم إلى نداء الوطن والجهاد في سبيل الله و إلى النخبة العسكرية، من المؤسف أن يكون محمد جلال هاشم في صف واحد مع الكيزان المُتطرفين أمثال أنس عمر و عمر الجزولي و عبد الحي يوسف و علي كرتي و أحمد هارون و لكن في ذات الوقت فهو يعتقد أنه لا يوجد ما يدعوا للقلق حتى لو صار إسلامياً، إذا كان موقف جلال هاشم قائم على عدم السماح لمليشيا أن تنتصر على القوات المسلحة فالسؤال الذي يطرح نفسه هو اين سيقف لو توفرت عتاد و قوة عسكرية للحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز أدم الحلو وتمكنت من الوصول إلى الخرطوم؟! هل سيدعو السودانيين للوقوف مع الجيش النظامي ضد قطاع الشمال باعتبارها مجرد مجموعة مُتمردة ومليشيا غير مُدربة و بلا عقيدة؟ ماذا لو كان الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق تمكنت من الوصول إلى الخرطوم وسيطرت على مواقع حيوية في قلب العاصِمة، خاصة القصر الجمهوري و القيادة العامة والجسور هل كان سيعود محمد جلال هاشم إلى بيت الطاعة والجهاد و الدفاع الشعبي للقِتال ضد الكُفار والنصارى.

في مقالة للدكتور محمد جلال هاشم يوم 16 مايو 2023 بعنوان “مرة أخرى حول فوبيا الكيزان و إفسادهم لمؤسسات الدولة: بين قبول ابن عنان في كلية الشرطة نموذجاً وبين كيزانية الجيش” يكتب بعد دِفاع مُستميت حاول فيها إبعاد أي شُبهة كيزانية طالت المؤسسة العسكرية، و إذا لم يطالها الإسلاميون وظلت مؤسسة مستقلة فهذا يعني بالضرورة أنها مؤسسة وطنية و على الرغم من أن التاريخ العسكري للجيش السوداني يُكشف أنها لم تخوض أي حرب خارجي منذ الاستقلال في 1956 بل ظلت تخوض حروب داخلية وتسليح قبائل ضد اُخرى ولكن محمد جلال ما زال يعتقد بأنها من أقوى الجيوش في أفريقيا و العالم الثالث و لكنه في ذات الوقت يعتقد أنها ليست وطنية و يقول “دون أن نزعم أن عقيدته القتالية وطنية” ويمضي أكثر من ذلك في إطار محاولاته لحشد الراي العام و السودانيين خلف الجيش و ممارسة نوع من الإرهاب والتهديد ضد المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور ويضيف “هذا الجيش أشد بأساً و سوءاً مما يتصوره التطفيفيون الذين يركنون للاستنتاجات الكسولة. ليس هذا فحسب بل الخشية، كل الخشية، أن يتجه هذا الجيش في الحرب الجارية الأن (كما هي عادته) إلى مُعاقبة المجموعات الثقافِية المدنية بدارفور، تلك التي صُدر منها مقاتلو مليشيا الجنجويد لتتكرر جرائم التطهير العرقي و الإبادة والجرائم ضد الإنسانية بطريقة عكسية، وبوحشية، للمرة الثانية…”

أن يتجه الجيش الى مُعاقبة المجموعات الثقافية ذات الأصول العربية في دارفور امر مُستبعد لعُدة أسباب و منها أن الجيش سيخرج من هذا الحرب مُنهِكاً و مُرهِقاً للغاية و ذلك إذا خرج منها كما أن نهاية الحرب ستكون عبر تفاهُمات سياسية يضع أطر جديدة للعلاقة بين الجيش و الدعم السريع الذي لن يبتلعها الأرض بل سيظل مقاتلوه يحتفظون بسلاحهم لفترة من الزمن بالإضافة إلى أن الكثير يجمع الجيش مع المجموعات العربية في دارفور والدعم السريع باعتبار أن المشروع العروبي لن يكتب لها النهاية بسبب هذا الحرب و أعتقد أن جلال هاشم هو سيد العارفين في هذا المجال، و لو قدر و حدث هذا التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد المجموعات العربية في دارفور فأنه سيكون واحداً من المحرضين لها وسيصعب التفريق بينه و الطيب مصطفى ونامل أن لا يحدث ما يتمناه؛ إن كان هنالك أحد يُلام على ما حدث من تكوين لمليشيات الجنجويد و التي هي جزء من الجيش السوداني بحُكم القانون والدستور وبالتالي فأن الجيش هي الدعم السريع و العكس.

لذلك نعتقد أن عبد الفتاح البُرهان عندما يعلن الحرب ضد المُتمردين فهو يعلنها ضد الجيش وليس ضد اي مليشيا في السودان وعندما يعلن محمد جلال هاشم وعبد العزيز بركة ساكن فتح باب الجهاد ضد الجنجويد والمجرمين من الدعم السريع في الخرطوم فهم بذلك يقصدون الجهاد ضد الجيش، لان التفريق بين الجيش و الدعم السريع أشبه بجدلية البيض والدجاجة و أيهما ظهرت الى الوجود أول which come first, the chicken or the egg?، لم يظهر الجنجويد و الدعم السريع من الفراغ بل هم منتوج مصنع الجيش النظامي كما يسميها جلال هاشم، لقد قاموا بتدريب الجنجويد وتسليحهم وتوفير الغطاء الجوي لعملياتها العسكرية والغطاء السياسي و القانوني حتى لا يتم ملاحقتهم قانونياً امام المحاكم الوطنية السودانية او الدولية وهنا يُكمِن أس البلاء، أن المجموعات العربية في دارفور هم مهمشين أيضاً مثلهم ومثل النوبة في الجبال و الأنقسنا في النيل الازرق وقطاعات واسعة من مكونات الدولة السودانية فقط يتم استخدامهم من قبل نُخبة الإسلاموعروبية في الخرطوم لتوفير الحماية اللازمة للمركز لكن في حقيقة الأمر هم يندرجون تحت طائلة المهمشون في السودان، من الممكن غداً أن يتخلى المركز عن إستخدام المجموعات العربية ويستخدم المجموعات الإفريقية ضد العربية كما يلمح له الدكتور جلال هاشم وينشده و لكن هذا لن يعني أن دولة المواطنة في السودان قد تحقق؛ إذا كان جلال هاشم ما زال يتساءل كما فعل الطيب صالح من أين جاء هؤلاء “الجنجويد” فنحن نجيبه بأنهم منتوج شرعي للجيش النظامي.

المُشوش الثاني بعد جلال هاشم هو الأديب والروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الحاصل على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي بجانب العديد من الجوائز العالمية و هو شخصية مهمة و ذو تأثير كبير خاصة أنه قد أبكر في انتقاد السلوك و الأسلوب الإجرامي لمليشيات الجنجويد وذلك في عمله ذائعة الصيت “مسيح دارفور” التي صُدرت في طبعتها الاولى في العام 2012م وعبر عمله الإبداعي تعرف الكثيرين من السودانيين وغير السودانيين على المُمارسات غير الإنسانية التي اضطلع بها الجنجويد في حق المواطنين الدارفوريين من أصول أفريقية، وبالتالي فأن رأيه مهم في مثل هذه الأوضاع التي يمر به الدولة السودانية و التي يلعب فيها الجنجويد دوراً أساسياً فيها، لكن موقفه شبيه ومتطابق لموقف محمد جلال هاشم الذي رأى في انهيار الجيش إنهياراً للدولة السودانية واتفقوا بأن الجيش مؤسسة وطنية و ينضوي تحت مظلتها العديد من المواطنين السودانيين و شبهها بالنموذج المُصغر للدولة السودانية المتنوع بقبائلها المختلفة خاصة أن أشخاص مثل الفريق شمس الدين الكباشي قد وصلوا الى أعلى قمتها و هو المُنحدر من جبال النوبة و الأن أصبح مالك عقار نائباً لرئيس مجلس السيادة وهذا ما يُجسد قوميتها وتنوعها ولقد ناشد “ساكن” الشعب السوداني لمؤازرة(جيشهم) على الرغم من وجود الكيزان داخلها ودعاهم لتناسي تاريخها الإجرامي في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة و مرارات الماضي من أجل المصلحة الوطنية العُليا the national interest، و أن لا بد من نِسيان كل هذا الجُرح القديم وفتح جرح جديد، لان الحرب التي تدور رحاها في الخرطوم الان ليس حرباً بين الكيزان و الجنجويد، بل حرباً بين الشعب السوداني و الجنجويد وحذر من التداعيات الخطيرة لانتصارهم على مستقبل الدولة السودانية.

هكذا يمكن تلخيص موقف الأديب بركة ساكن، موقفه هذا يتناغم مع ما كتبه عن الجنجويد في روايته مسيح دارفور “أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله” أن التاريخ الإجرامي للجنجويد والدعم السريع في دارفور معروف للقاصي والداني و أكثر من يعرف ذلك هم مواطني دارفور المنحدرين من القبائل الأفريقية حيث تم التنكيل بهم وقتلهم بأبشع الطرق و اغتصبت نساءهم وأحرقت قرأهم لتنفيذ برنامج الإنقاذ القائم على الإبدال و الإحلال في إطار الإسلاموعروبية والتي تعني وفقاً لمحمد جلال هاشم مجموعة المحددات السلوكية التي تَشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة و التي قامت على الأسلمة و الاستعراب بوصفها وعياً إجتماعياً ـ ثقافياً “فمن لديه قوة عسكرية بديلة فليسمها اولاً ثم فليأت بها ليهزم جحافل التتار الهمجية” و يبرر “ساكن” هذه الدعوة للوقوف مع الجيش خوفاً من الجنجويد ومن وحشيتهم و خطرهم على الدولة السودانية وحضارتها العريقة الموخلة في التاريخ و أن هؤلاء الجنجويد هم دُخلاء على الثقافة السودانية. اما مبارك اردول و هو بدوره أحد الحلفاء الجدد للدكتور محمد جلال هاشم فيعتبر الجنجويد مرتزقة همجيين اُستجلبوا من الخارج لتدمير كل ما هو جميل في الخرطوم، لو اعتبرنا أن مبارك اردول لا يعرف ويعتقد أنه يعرف، فكيف يمكننا أن نصف مفكرنا و أستاذنا محمد جلال هاشم الذي يعرف ويعرف أنه يعرف؟ كيف سنتبع محمد جلال هاشم و لا نجادل اردول؟

نواصل

كور متيوك
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..