مقالات سياسية

حرب بادي أبو دقن (العبثية) وسنة أم لحم

عبد القادر دقاش

حكى مكي شبيكة في كتابه السودان عبر القرون قصة ملك تقلي الذي تعدى على أحد أصدقاء ملك سنار وسلب ما معه، وقال لو قصدني ملك سنار وتجاوز باجه أم لماع فليفعل ما يفعل، ولما سمع “بادي أبو دقن” ملك سنار بالقصة سار على رأس جيشه ووصل الباجة وترجل هو وعساكره من خيولهم لاجتيازها على أقدامهم، وقتل وأسر من النوبة حتى بلغ مقر ملك تقلي الحصين، فكان ملك النوبة يقاتلهم بالنهار ويرسل لهم الأقوات بالليل، فتأثر بادي أبو دقن لهذه المعاملة الكريمة وقبل الصلح معه على جزية سنوية خاصة جعلت ملك النوبة تابعا لملك سنار ورجع جيش أبو دقن بسبايا النوبة إلى سنار.

هل تصلح هذه الحكاية أن تعاد وتحكى ل(أجيال الديجتال) ترمزيا لكرم الضيافة وحسن الوفادة ..الأجيال التي يحق لها أن تتساءل لماذا لم يضع ملك النوبة السم في الدسم لملك سنار..

فهو عدوه اللدود المماحك اللجوج وما قطعه لهذه المسافة الطويلة الشاقة من سنار إلى جبال تقلي إلا عنادا وتجبرا وما وطئت قدماه باجة إم لماع إلا صلفا وتكبرا.. لخوض حرب (عبثية)  من أجل صاحبه الذي ما ندري ما فعل بدوره حتى يستحق عدوان الملك المغاضب عليه.  لماذا لم يفعل ملك تقلي شيئا والحرب خدعة..فقد خدع المك نمر أعداءه وحرقهم  وأحال أجسادهم  إلى رماد بعد أن أذهب عقولهم بالمريسة، وهكذا أحرق المهدي تجريدة راشد بك التي أعياها طول المسير ووعورة الطريق على حين غفلة..

وإن سلمت (الأجيال) وصدقت وآمنت (وكثيرا ما تفعل) إن ملك النوبة ممن خالفوا سنن الحروب فكان من الورع مثل(علي) في (صفين) إذ جعل لإعدائه نصيبا من الماء يشربون منه ويسقون أنعامهم مع كيدهم له أشد الكيد وإحاكتهم له الدسائس..

فلماذا لا يبادل ملك سنار ملك النوبة معاملته الكريمة بالنبل والشهامة فلا يطلب الجزية ولا يأسر الرجال ولا يسبي النساء ويرجع بهم إلى مملكته؟ لكن للتاريخ مكر عظيم فقد روي أن الأسرى الذين اتخذ منهم أبودقن جيشا يدافع  به عن مملكته وحرسا خاصا له يحميه من رعيته انقلبوا عليهم واستولوا على حكم سنار فيما بعد إلى أن دالت دولتهم إلى آخرين.

والحياة تتغير بطبيعة الحال ومن العبث أن نحلم بمجتمع مثالي في ظل التمزقات والانقلابات والتوحش والتشوهات الاجتماعية من احتكار واستغلال فصورة المجتمع هي صورة مصغرة من سلطته أو سلطته هي صورة مصغرة منه تسلط وقمع واستغلال..والصور المثالية هي صور ذهنية (مترفة) تنمحى بمجرد وضعها في ميزان التجربة والاختبار  والإنسان بطبعه يختار مصلحته الخاصة حتى وإن أضرت بالآخرين، قليلون يختارون مصلحة الغير  على حساب مصلحتهم في لحظة محددة ثم يندمون، وإن عاد بهم الزمن فسيختارون مصلحتهم..قلت لبعض أقاربي وأصدقائي الذين ما يزالون مستعصمين في بقعة المهدي، عليكم مغادرة الخرطوم فلا أمل يلوح في الأفق  بانتهاء الحرب وعودة الحياة إلى شرايين العاصمة التي تيبست، لكنهم قالوا، الموت في الخرطوم خير لهم من الاستغلال الذي يتعرض له أهل الخرطوم في الأقاليم المجاورة التي قفزت فيها بيوت الطين من بضع جنيهات إلى مئات الدولارات وصار الايجار بالشهر والأسبوع واليوم والساعة حتى قيل إن أردت أن تستودع سرا زوجك أو تناجي بعض سمارك فلا بد من الدفع..فقلت وفي ذلك رحمة كبيرة فلن تموتوا جوعا في تلك الديار…

لكن الخرطوم شهد لها التاريخ بالجوع والمسغبة والشدة، فقد جاءتهم سنة أم لحم التي أكلوا فيها الجيف والكلاب، ومرت عليهم سنة سته حتى قيل أن أحدهم دخل على أسرة فوجدهم يأكلون لحما طريا، فأدخل يده في قدرهم فأخرج أصبعا بضا لم تزل منه النار صبغة الحناء، فقالوا له إنها عروس وجدناها تحتضر فتقاسمناها، قبل أن تتجيف، فاطمئن لقولهم فأكل وتلمظ وتجرع الحساء..والحرب تصنع مثل هذا وأكثر..ودعاتها ما يزالون في غيهم يعمهون.

[email protected]

تعليق واحد

  1. الله يرضى عليك يا دقتش لقد اعطيت مثالا يجعل الناس يتفكرون في مالات الحروب .. و الله لو يعلم الناس ما يعلمون عن هذه الحروب العبثية لخرجوا للشوارع وهم يهتفون لا للحرب .. لا نريد حربا تدمر بلدنا .. نريد السلام … السلام … السلام …..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..