مقالات سياسية

تلبيس البلابسة

عبد القادر دقاش

التلبيس هو إظهار الباطل حقا واعتقاد الفاسد صحيحا وحسبان الرديء جيدا. والبلابسة هم أناس جهلاء مغرورون، إن حدثتهم عن مشنوق سألوك عن الحبل كم كان طوله وما مدى متانته وكيف كان إحكام ربطته وعقدته، وسألوا عن مكان صنعه وثمنه، ليتبينوا هل للمرحوم خبرة ودراية ومعرفة بالحبال أم لا، لكنهم سرعان ما يتوصلون لهذه النتيجة واصفين المرحوم بأنه خبير بأنواع الحبال، إذ أنه لو أختار أي حبل غير الحبل الذي اختار لما حظى بهذه الميته. وإن أبدى أهل المرحوم وأصدقاؤه وخاصته الذين فجعوا من هول المصاب وفجاءة الرحيل، استغرابا.. قال البلابسة، بثقة كاملة ونهائية وبصورة حاسمة ومريحة: (دي الحقيقة)؟!

ينطبق التعريف والتوصيف السابق على الكثيرين ممن ساهموا وما زالوا يسهمون في التصدعات والانهيارات التي تطال الدولة والمجتمع السوداني بشكل يومي حتى أصبح من المستحيل الحد منها أو إيقافها، وعلى الكثيرين ممن يصغون ويصدقون كل كلام سخيف خادع وكاذب عن الصراع (النخبوي) القديم المتجدد بين العسكريين والسياسيين المؤدجلين والانتهازيين  من صناع الأزمات وسماسرتها، ويركنون لكل تحليل مبسط عاجز عن فهم وإدراك عمق المشكلات.

و مشكلات السودان الاجتماعية قديمة وصراعاته السياسية متجذرة  لن تتغير بمجرد إنكارها ولن تنتهي بمجرد تجاهلها أو تجاوزها لأن الاختلافات الصغيرة المتفرقة هي التي كونت هذا المحيط من المشكلات الكبيرة المتفاقمة.. وبمجرد أن نطرح سؤالا واحدا على أنفسنا تنهار علينا سيول من الاسئلة وتنفتح في أعماقنا الكثير من الجروح.. لذلك لا ينبغي الحديث عن حرب الخرطوم معزولة عن حرب دارفور.. فالجنجويد الذين أصبحوا في عرف أهل الخرطوم بالتتار والبرابرة والوحوش والأوباش هم ذات الجنجويد الذين عاثوا في أرض دارفور  فسادا، قتلوا وسحلوا واغتصبوا وإن كان ذلك من الأمور الخفيّة  التي لم يشهدها أو لم يرها الكثيرون، فمجزرة فض اعتصام القيادة كانت على مرأى ومسمع الجميع حتى راعي الضأن في الخلاء يشهد على الشباب الثائرين الذين استجاروا بقيادة الجيش من عسف النظام السابق  باعتبار (الجيش) مؤسسة من مؤسسات الدولة، وباعتبار (الدولة) كيان ومؤسسات قائمة ينبغي أن تحكمها قوانين يتساوى فيها الجميع، وليست مؤسسة تابعة لسلطة تأتي للحكم وتذهب وتمنح لها الثقة وتسحب بحسب ما تقتضية الظروف والأحوال والوقائع…

وقد ظل الثوار عاكفين على أبواب القيادة متعلقين بأستارها إلى أن حلت بهم كارثة فض الاعتصام التي راح ضحيتها العشرات قتلا وسحلا في سابقة لم يشهدها السودان على مر تاريخه الملئ بالانتكاسات.. وفي حط لكرامة  الشباب والشابات، الرجال والنساء على حد سواء أمام الكاميرات، كانت مقدمة لما يحدث الآن، لكن لو ذكرت ذلك لواحد من البلابسة لقال بكل وقار:  إن هؤلاء (شرذمة قليلون) سفهاء أحلام يبغون الفساد في الأرض لذلك وجب قتلهم وينكلوا تنكيلا.. وكأنه لا يرى كرامة إلا من خلال منظورة ومن منطلق حقيقته، والله لم يكرم بني آدم إلا بوصفهم النوعي العام الذي يصدق على كل إنسان لا يتخلف أو يختلف استحقاق الإنسان للكرامة مهما اختلفت طبقات الناس في المجتمع وإجناسهم وألوانهم ومهنهم وثقافاتهم وأديانهم، كل إنسان مكرم بصرف النظر عن إية صفة أو إضافة هوية أو عنوان آخر له يصطنعه المجتمع له أو تفرضه عليه ظروف حياته وأقداره.. حتى الذين تناولوا صورة العقيد الأسير ووصفوه ب(عامل البناء) لوضاعتها في تصورهم الذهني وما هي كذلك ما دامت مهنة شريقة ونسبوه إلى هامش المدينة إمعانا في الإذلال والإهمال (في تصوراتهم) من غير إدراك أن المركز لا يعني شيئا بلا هوامشه..

وكل ذلك من سمات التعصب والانغلاق وانعدام التعقل من أقوام يطلقون الكلمات الجارحة كما أنها رصاصات دامية مميته.. لا يؤمنون برأي ولا اختلاف ولا تعدد..وأحادية الرؤى تقود للأقصاء والمحو والإلغاء لأن كل من هؤلاء لا يرى السودان إلا في مرآته الخاصة، دون أن يضع في حساباته أن للسودان وجود وحضارة وتاريخ أكبر بكثير من مجموع الأجزاء المكونة له ..  والمحافظة عليه وبنائه لا يتم إلا بتواصل الحوار بين كل أقوامه من غير أن يفترض أي واحد منهم بأن له حقا أكثر من الآخرين بموجب إرث تأريخي، ثقافيا كان ذلك الأرث أم دينيا، أم سياسيا دعك عن التمييز العرقي.

على البلابسة أن يستيقظوا من سباتهم ليتعرفوا على الكوارث التي لم تكن صنيعة اليوم ولا ظهرت على السطح فجأة وعلى المصائب التي لم تعد مجرد خلل طاريء يمكن حسمه في يوم أو بعض يوم أو عارض صغير يمكن أزالته بعملية جراحية صغيرة بل باتت المصيبة أكبر والأمراض أشد  فتكا وقتلا وأكثر انتاجا للشر والاستباحة والسطو والقهر والغدر والفحش والتوحش والبربرية ..

وكل ذلك حصيلة الأخطاء المركزية الاصطفائية والفاشية التي دمرت العيش المشترك والاعتراف المتبادل والصيغ المركبة والهوية الهجينة.. ولا يمكن أن يتم التغيير وتبدل الحال بمجرد الضغط على الأزرار والكتابة (بل بس) لكن الأمر يحتاج إلى الاعتراف بالحقوق جميعها على الصعد السياسية والمجتمعية والثقافية وبحق الاختلاف وحق الاختيار وحق التعبير عن الهويات المختلفة.. وبتغيير نمط الوجود القائم على المركزية الأنوية العصابية والافقارية المتشبثة بمفهوم سلبي عن الهوية المؤسسة على تجاهل الآخر والحط من شأنه، وتغيير أشكال الروابط  وإعادة تعريفها وتشخيصها  من أجل تصحيح هذا الواقع الأليم وعلاجه.

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. انتو بتتكلموا عن المركز كانه كان جنة الله على الارض ، ياخ محل ما تقبل ارتكاز تفتيش وقلة ادب من العساكر كان ماشي زياره لزول في السجن يوقفوك في الشارع يقولوا ليك جيب حق الجبنه بتاعين المرور ملو الشاورع يتلبدو زي الحراميه الا من رحم ربي ودق وسرقات وكتل … انا الان مرتاح لمن غلط الحمدلله الحاجه مرقتنا من الخرطوم ، الشله السارقه المركزه ياهو جبريل جا عمل شنو مني جا عمل شنو عقار جا عمل شنو طالما ناس الهوامش القروش ما اتدفقت ليهم يعلموا اننا ذاتنا القروش ما كانت مدفقه علينا اكتر منهم ياهو رهط هنا مفسدون وعندهم رهط مفسدين والعند الهامش يتمناه كل انسان ما قادر يلقاه انا شاب عمري ٣١ سنه خريج كلية طب منى عمري وكل طلبي في الدنيا القى لي قطعه ارض ازرع فيها واربي بهايم وطيور ناس الهامش ديل كان شافوا الامراض القاعده هنا والتلوث البيئي والضوضاء وتلوث النفوس يحمدوا ربهم ليل نهار على انعمه ، ولا كاننا نحن ناس الخرطوم العايمين في الدهب ، هي عصابه مفسده في الارض واعوانهم كتار سواء من الهامش ولا الخرطوم .. والعفو

  2. انت تتحدث عن موضوع كبير لكن للأسف توجهه للعامة.. الدول لا تتقدم بأفكار العامة بل عبر نخب فكرية وثقافية تدرس الموضوع ثم تطرح الحلول والموجهات للعامة عبر المراكز البحثية من جامعات وغيرها وعبر المنابر الاعلامية من تلفزيون ومسرح ومساجد لتوجيه افكار العامة الوجهة الصحيحة..غير ذلك سيظل عندنا المتعلم والجاهل واحد.. (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..