من السودان إلى النيجر: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد

جمال محمد إبراهيم
(1)
بين التاريخ والعلوم السياسية آصرة أكاديمية لا تخفى، إذ يرصد المؤرّخ حراك الوقائع ويوثق تفاصيلها، أما تحليل أبعادها وتداعياتها واستقراء مآلاتها، فذلك جهد الخبير في العلوم السياسية الذي يكمل جهد المؤرّخ، والذي أيضاً لا يخلو توثيقه من التحليل. تلك عبارة تشكل رؤية الكاتب الأولية للوقائع التي تجري في القارّة الأفريقية وما تنطوي عليه من أحداث.
لثورة الاتصالات دور، وللمعلوماتية والاختراقات الرّقمية دور أيضا، يسّرت جميعها متابعة تلك الوقائع الماثلة، وتوثيقها بالصوت المسموع والصورة المشاهدة. لقد صار للإعلام دوره الرئيسي المكمل لجهد التوثيق وجهد التحليل السياسي. ذلك تناول نظري في عبارات مختصرة، غير أن من الضروري تعزيزه بنماذج وأمثلة حاضرة، لتتضح الصورة من حولنا بالجلاء المرجوِّ.
(2)
ينصبّ اهتمام علم التاريخ على المتحوّل، فيما الجغرافيا تتصل بالثابت، كما هو بديهي. لعلَّ كتاب الأميركي روبرت كابلان، المحاضر في تنمية القيادات في جامعة هارفارد “انتقام الجغرافيا”، يمثل تمريناً أكاديمياً في الجغرافيا السياسية، وهو كتاب ينظر في الإرث الفكري الجغرافي للبيئة والمناخ والطوبوغرافيا، وانعكاسات ذلك كله في حركة التاريخ، وفي التحولات المستقبلية لحراكه. لذلك تجد المعالجات الفكرية والتدارس الأشمل لظواهر التاريخ، مثل ما كتب صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات، أو المفكر الياباني الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه المثير للجدل “نهاية التاريخ”.
خشي الجميع أن تتّسع رقعة الحرب التي استعرت في السودان، فتنتقل العدوى إلى الإقليم بكامله
(3)
تلك ملامح نلفت الانتباه إليها، فيما نجيل النظر إلى مجمل وقائع الاضطرابات التي تحوّل بعضها من خلافٍ قابل للآحتواء إلى صراعات محمومة، ومن تنافس على السلطة في أقصى حالاته إلى نزاعٍ وحروبٍ دموية مدمّرة. تلك مشاهد نرى نماذج لها في الساحة الدولية بوجهٍ عام، لكنها اكتسبت في القارّة الأفريقية استثناءً لافتاً لما شكّلته من تهديد للأمن والسلم الدوليين، ومن خشيةٍ لاتساع رقعة تلك الصراعات والنزاعات في أنحاء القارّة. ذلك ما حدا بمنظمات دولية عديدة، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة، ومنظمات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد) خصوصاً، لإدانة تلك المظاهر السلبية التي تمثلت في الانقلابات العسكرية وشيوع الأنظمة الاستبدادية في أنحاء القارّة الأفريقية.
خشي الجميع أن تتّسع رقعة الحرب التي استعرت في السودان، فتنتقل العدوى إلى الإقليم بكامله. ولعلَّ من الواضح أن موقع السودان في قلب الشمال الأفريقي وغربه، وفي الحزام السوداني التاريخي القديم، في موضع المؤثر سياسيا واجتماعيا وعقائديا، على ما حوله من بلدان في ذلك الحزام.
(4)
لو عدنا إلى القمّة التي دعت إليها القاهرة تحت لافتة جوار السودان، أواسط الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، يستوقفك تعبير “جوار السودان”، فهو قد يحمل تجاوزاً عفوياً لواقعٍ وتوصيفٍ تاريخيٍّ قديم، وهو الحزام السوداني الذي يعرفه الجغرافيون، ويمتدّ من سواحل البحر الأحمر وهضابه إلى المحيط الأطلسي، وتختلط في مجتمعاته أعراق أفريقية وعربية. التمازج البشري في ذلك الحزام عزّزته تاريخياً رحلات الحجيج من أنحاء الحزام السوداني إلى الأراضي الحجازية، وهي رحلاتٌ تستغرق، قبل تيسير وسائل السفر، أشهرا وربما سنوات. أنتج الإسلام الذي مازج شيئاً من الطقوس الأفريقية شكلا من التسامح الديني في كامل أنحاء ذلك الحزام، علتْ فيه أصوات التصوّف الشعبي أكثر من مظاهر الإسلام الفكري الصميم. تتباين سحنات السكان فيه بين ملامح عربية وأخرى أفريقية وثالثة أفريقية هجينة. لا أعرف لم رجّح معمر القذافي إطلاق اسم “الساحل والصحراء” على ذلك الحزام، عوضا عن اسمه التاريخي، الحزام السوداني؟
ما تثاءَب السودان، لكن زُلزلَ زلزالاً مدمّراً، تمدّد تأثيره فرجَّ أصقاعاً في غرب حزامه السوداني، من بوركينا فاسو والكاميرون حتى مالي والنيجر
كان ذلك الحزام هدفا للسيطرة الكولونيالية من قوى كبرى، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والبرتغال وسواها، منذ سنوات القرن التاسع عشر الميلادي، فعملت على اقتسام جغرافيته في ما بينها. وتلك تحولات التاريخ في واقع جغرافي تشهد أحواله حاليا ما يشبه انتقام الجغرافيا من التاريخ، فلا كسب الحزام السوداني اتحادا بعد تفكيك، ولا سلمت أطرافه من جوْر أبنائه الذين فشلوا في إدارته، كما زادت أطماع الكولونيالية القديمة وبرزت أنيابها من جديد في بلدان الحزام.
(5)
التأثير والتأثر سمة غالبة لمعظم مجتمعات الحزام السوداني، بغض النظر عن تقسيم أرجائه إلى دول ذات حدود سياسية ولها مساحات شاسعة، مثل السودان والجزائر، وأخرى ذات مساحاتٍ متواضعة، مثل إريتريا ومالي والنيجر، وتمازجت جميع أعراقها وإثنياتها وقبائلها، تمازجاً يمضي سلساً مع الجغرافيا ومرتبكاً مع التاريخ، تأثّراً وتأثيراً. وما تثاءَب السودان، لكن زُلزلَ زلزالاً مدمّراً، تمدّد تأثيره فرجَّ أصقاعاً في غرب حزامه السوداني، من بوركينا فاسو والكاميرون حتى مالي والنيجر.
(6)
إذا حدَّث التاريخ عن انتفاضات تاريخية قديمة في غرب القارّة في أنحاء الحزام السوداني، من محمد أحمد المهدي في السودان، إلى دان فوديو في غربي ذلك الحزام، فتلك جذور ظهر لها نبتٌ في السودان المعاصر. لقد عمل عرّاب التيار الإسلاموي في السودان، الشيخ حسن الترابي، ومنذ سنوات السبعينيات، وعبر نوافذ تنفيذية مؤثرة، على ترسيخ الفكر الديني في بعض الأنظمة التعليمية، وأيضا في التاثير على عقيدة الجيش النظامي للبلاد.
الصراع الدولي بين الدول الكبرى يصل حتى أصقاع الحزام السوداني في السودان، مالي والنيجر
نجح الترابي في التأثير على حاكم السودان الأسبق جعفر نميري، أوائل الثمانينيات، لإعادة تأهيل ضباط الجيش في دراسات في معهد إسلامي، أنشئ في عام 1966 وتطوّر إلى مركز إسلامي أفريقي في 1972، ثم تدرّج بعد قيام الجبهة الإسلامية بانقلاب الإنقاذ عام 1989، ليصير المركز جامعة سُمّيت “جامعة أفريقيا العالمية”. وقد يتساءل المرء لماذا أسبغت صفة العالمية على مؤسّسة أكاديمية خصّصت في الأصل لقارّة بعينها، إلا أن الإجابة تكمن في تلك الرغبة الخفية والغالبة في التأثير، على الأقل، في دائرة البلدان المجاورة للسودان، إن لم يكن ليصل إلى حدِّ تصدير ذلك الفكر إلى أبعد من ذلك. مثل ذلك الطموح السياسي غير المبرّر هو الذي جلب لنظام الإنقاذ البائد في السودان وقتذاك تهمة الإرهاب الدولي، وما برئ منها إلا بعد إسقاط نظام البشير في 2019.
بلغني ممن أثق في معلوماته أن قائد حرس رئيس النيجر المخلوع بوزوم الكولونيل عبد الرحمن تياني، والذي انقلب على النظام الديمقراطي في نيامي، هو خرّيج جامعة أفريقيا العالمية تلك. وثمّة ما يستخلص من خطورة هنا، إن مؤيدي الانقلاب العسكري في النيجر رفعوا أعلام روسيا الاتحادية، في وقت تستضيف فيه الأخيرة قمّتها مع البلدان الأفريقية. ليس ذلك ما قد يلفت أو يحرج رئيس روسيا، بوتين، بل واقعة ظهور نجم “فاغنر”، الضابط “طبّاخ بوتين”، ليلتقي بعدة زعماء أفارقة ضيوف تلك القمة في موسكو، ليذكّر أن الصراع الدولي بين الدول الكبرى يصل حتى أصقاع الحزام السوداني في السودان، مالي والنيجر.
العربي الجديد