مقالات وآراء

ما بين (لا للحرب) و (بل بس)

نهى محمد الأمين أحمد

داهمتنا الحرب هكذا، بدون إذن أو مشورة، مر يوم الجمعة بطريقة عادية بالنسبة لنا نحن مواطني ولاية الخرطوم، لم نكن ندري بأن خيوط المؤامرة قد اكتملت، وساعة الصفر قد حانت، وأن السبت سيعيد تقويم التاريخ السوداني، وأن الخرطوم ستشهد أهوالا لم تشهدها طيلة تاريخها، استيقظنا ونحن لا ندري ما ينتظرنا من بؤس وشقاء، جاءت الأنباء تتحدث عن أن الحرب قد اشتعلت بين الجنرالين الآثمين، وكلاهما لا يتخير عن الآخر، فلطالما كانا ذات الفريق ولطالما استغلا قوة السلاح في النيل من الشعب المسكين، ومجزرة فض الاعتصام التي سجلها التاريخ ستظل تحكي عن تحالف قوة شيطانية، تجردت من الإنسانية والضمير ومارست أقصى درجات العنف والقبح في القتل والتنكيل بشباب عزل، كانت كل جريرتهم أنهم قالوا (كفى)، للحكم الديكتاتوري الشمولى الذي جثم على صدر هذا الوطن وبنيه لثلاثة عقود، مورست فيها جميع أشكال الإقصاء والتهميش، الظلم، التحيز والتمكين لأقلية وضيعة على حساب أمة بأكملها من نظام المتأسلمين والمؤتمر اللا وطني سئ الذكر، اتفق الشعب السوداني بأكمله وهتف (تسقط بس)، ونجحت ثورة ديسمبر المجيدة التي كانت حديث العالم في إسقاط واحدة من أسوأ ديكاتوريات العصر الحديث،

تنفس الناس الصعداء واستعدوا لاستقبال حقبة جديدة، وبناء وطن يليق بهؤلاء الأبطال الصامدين أبناء هذا الشعب، ولكن هيهات، فقد كانوا لهم بالمرصاد، ومجزرة فض الاعتصام تظل دليلا على كم الأذى الذي استهدف به هذا الشعب، وحاول الناس المضي قدما بشعارات الثورة بالرغم من الغبن والمرارات، ووضعت قحت يدها في يد من فض الاعتصام، واقتسموا معهم السلطة، وجاءت حكومة قحت ذات (الكفوات وليس الكفاءات)، ومنذ الوهلة الأولى ظهرت تجربتهم الضحلة ومراهقتهم السياسية، وتعاملوا مع المناصب كمستجد النعمة الذي يختال زهوا ولا يفقه الفرق بين التشريف والتكليف، وأصبح واضحا للعيان أنهم يتعاملون مع الشأن العام ومصلحة الوطن والشعب بأكملة بمثل طريقة أركان النقاش والهتافات في المظاهرات، وحمدوك بالرغم من أخطائه وإخفاقاته في الكثير من المناحي، إلا أنه ربما كان قد ينجح في السير قدما بهذا الوطن لو وجد حوله من رجالات الدولة من هم بقدر الهم والمسؤولية، ضيعت قحت مكتسبات الثورة منذ البدايات بكثرة الخلافات والصراع على الكراسي، كانوا أداة هد وهدم لكل مبادرات حمدوك، ومهدوا الطريق لانقلاب البرهان المشؤوم، وأذكر أنني كتبت مقالا في ذلك الوقت ذكرت فيه أن ما جاء في خطاب البرهان صبيحة انقلابه يعبر تماما عن (كلمة حق، أريد بها باطل)،

طالت هذه المقدمة (فالوجع راقد)،
نرجع لموضوع الحرب، طيلة هذه الأحداث التي سردتها، كان الجنرالين المتحاربين أعداء اليوم، كانا أصدقاء الأمس، وتشاركا معا البطش والتنكيل بالشعب وباتفاق كامل ودم بارد قررا ونفذا فض الاعتصام وكلاهما يداه متلطختان بالدماء ومتورطان في جرائم الحرب في دارفور،
كانت رحلة الحليفين معا تسير في تناغم، و(المحبة) سيدة الموقف، وحديث البرهان عن الدعم السريع، الذي ولد من رحم القوات المسلحة لن ينساه أحد، فلا بد أن هذه المؤسسة العريقة قد حبلت سفاحا في لحظة غواية من الشيطان لتضع هذا المولود الذي جلب الخزي العار لأمه،

وصراحة لا يمكنني هنا إلا أن أعبر عن اندهاشي من طموح قائد المليشيا الذي بدأ حياته كأحد الأبالة لينتهي كقائد وجنرال، ورحلته جديرة بالدراسة واستقاء الدروس والعبر، فهذا ال (حميدتي)، الذي أتى به الآثم المخلوع، ليحميه من انقلابات شرفاء الجيش الذين لا يرضون تدنيس هذه المؤسسة ذات التاريخ الحافل، أتى به وأعطاه كما هائلا من السلطة والثروة من ممتلكات هذا الشعب، ليضمن له بقاءه في الكرسي للأبد، وتاريخه في دارفور يحكي عن فظائع لا تخطر على البال من إبادات جماعية، تصفيات عرقية، اغتصاب، سلب ونهب وتشريد، وسار البرهان في نفس طريق البشير وزاد حميدتي تمكينا وجعله يستشري كالسرطان ليصل إلى كل مفاصل الدولة، ولاحظ الكثير من العقلاء أن حميدتي يحشد جيوشه وعتاده ويتمدد في العاصمة، وتحدثوا عن الأمر وحاولوا لفت الانتباه الى الخطر المحدق، ولكن البرهان كان في واد آخر، ولم يتوقع الغدر من رفيق دربه، بالرغم من تاريخ حميدتي الملئ بالغدر والخيانة وأقرب مثال ولي نعمته المخلوع البشير،

والناظر بعين العقل لا يفوته الطموح اللامتناهي لحميدتي فالأمر أكبر بكثير من أن يتشارك الحكم أو حت ينفرد به، بل يتجاوز ذلك إلى تكوين امبراطورية دقلو، على شاكلة امبراطورية داعمته دويلة الإمارات، اختلف الجنرالان، ولعل أهم أسباب الاختلاف دمج المليشيا في الجيش، وهذا بالتأكيد يتعارض مع المخطط الامبراطوري لقائد المليشيا،

بقدر عال من الحنكة ودهاء الثعالب، استغل حميدتي سذاجة قحت ليسندوه ويدعموه في هذه الحرب الرعناء، ومن المؤكد أنه عض أصبع الندم بجميع أسنانه، حيا أو ميتا فهذا كان القرار الأسوأ في حياته، ولن يغفر له أحد تدميره للخرطوم عاصمة السودان، دقت الحرب ناقوسها واستحالت حياة الناس إلى جحيم، أصبح النهار والليل عبارة عن كابوس طويل، بين دوي الرصاص والقصف، المدينة الآمنة صارت مرعبة، فقد الناس الأرواح، فقدوا أعضاءهم وحواسهم، فقدوا ممتلكاتهم، وأصبحوا صفر اليدين، مارست هذه المليشيا الغاشمة الآثمة من الموبقات ما يندى له الجبين، أشياء لم يعرفها سكان الخرطوم ولم يتخيلوها في حياتهم، احتلت المليشيا بيوت الناس بعد طردهم منها بقوة السلاح، استبيحت منازل وأعراض الناس في سابقة كارثية، نهب وسرقة واغتصاب للحرائر، سجلت كل هذه الجرائم بأعداد مهولة ومخزية، وبدلا من أن تخوض هذه المرتزقة معركتها ضد الجيش، كان عدوها هو المواطن المسكين، أذاقته من الذل والويلات والهوان ما لم تره عين ولم تسمعه أذن، والمضحك المبكي الشعارات الرنانة التي يرفعها الهالك وناطقه الرسمي عن أنهم يخوضون الحرب من أجل جلب المدنية والديقراطية للمواطن السوداني، أي ديمقراطية هذه التي تأتي باحتلال البيوت والاغتصاب وكل الجرائم الشنيعة،

اصطفت غالبية الشعب السوداني خلف الجيش في مؤسسته العسكرية، وهذا هو الموقف الذي يليق بالإنسان الشريف الكريم، وبالرغم من السجل الأسود للجيش منذ عهد الإنقاذ وتسييسهم له وأدلجته، إلا أن الجيش يظل هو المؤسسة الوطنية، ولا وجود لدولة بدون جيشها، ومن المستحيل أن يخلو الجيش تماما من الشرفاء، فحامد الجامد موجود مع رفاقه، يذودون عن حمى هذا الوطن وشعبه، وارتكبت المنكوبة قحت خطأ عمرها عندما راهنت على الحصان الخاسر وملت يدها من الهالك حميدتي، وفقدت مصداقيتها واحترامها تماما عند الإنسان السوداني، باستماتتها في شيطنة الجيش وتسميته جيش الكيزان، وحاولت تجريد هذه المؤسسة العريقة التي يشهد العالم بكفاءتها من سيرتها الحسنة طيلة تاريخها الذي يربو على القرن، وبفعلتها الخرقاء هذه والتي تدل على استهانتها بوعي الشعب السوداني أعادت تلميع الكيزان المبغوضين التعساء وطرحتهم في صورة المقاتلين الشجعان الذين يدافعون عن المال والأرض والعرض، فهذه المليشيا إنما تصب انتقامها البشع على الشعب المسكين سرقة وتنكيلا واغتصابا،
الشعار الرنان الذي رفعته قحت (لا للحرب) لم ينطل على غالبية الشعب الواعي، وظل يردده كالببغاوات قلة لم يفوقوا بعد من حلم المناصب والكراسي، وما زال لديهم أمل في اقتسام الكعكة الملطخة بالدماء،
لا أحد يتمنى الحرب مهما بلغت به السادية، ولكن هل هناك أية خيارات أخرى غير محاربة هذه المليشيا واجتثاثها بصورة نهائية، وهل من الممكن أن يتقبل الشعب السوداني أي وجود للدعم السريع في حياته بعد نهاية هذه الحرب البغيضة اللعينة،
في هذا الوضع الكارثي الذي يمر على الوطن، لا يجدي النأي بعيدا واتخاذ المواقف الرمادية كما لجأ البعض لادعاء الحياد وأن هذه الحرب عبثية وليس لهم فيها ناقة ولا جمل، فهذه الحرب قد باغتتنا داخل بيوتنا شئنا أم أبينا، وهذه المليشيا تمارس علينا أقذر وأبشع الممارسات من الذل والقهر والتنكيل بقوة السلاح، والاستباحة لأعراضنا وشرف فتياتنا، ولن يقبل أي إنسان حر شريف أية تفاوضات يمكنها أن تستصحب في طياتها وجود هذه المليشيا في حياة المجتمع السوداني،

أختم مقالي الطويل بأبياتي هذه
(البقول لا للتفاوض خاف على شرف البنية
من مليشيا سافلة حاقدة خلت الشعب الضحية
احتلت، اغتصبت ونهبت، مارست فينا الأذية
والبقول عاوز يفاوض قولو ياخ اخجل شوية
مابنبيع دارنا وعروضنا ما بنساوم في القضية
وانت يا جيشنا المناضل، ليك وقوفنا مع التحية
مافي غير البل وحاتك وغير زوال الارزقية)

‫4 تعليقات

  1. عن أي جيش تتحدثين ؟
    جيشك الفنقسة بتاعك ده حميدتي زمااااان قطع رحطو ودخل بيه لأنه جيش أنصاص مكون من مليشيات كيزانية متربية على ثقافة الإنبطاح والمص واللعق .

  2. ماقصرتي يا كنداكة وما قلتي الا الحق وهل بعد الحق الا الضلال المبين.لكن هناك نقطة انتبهت لها من خلال سردك وهي لماذا سارع الناس للخروج من الخرطوم.. اعتقد انهم فعلوا ما تعودوا عليه من مظاهرات الثوار اليومية وتتريس الشوارع فالتاجر كان يغلق متجره والموظف يترك عمله والمواصلات تتوقف والكل يذهب لبيته دون أن يسال نفسه لماذا يتظاهر هؤلاء ولماذا لا اخرج معهم ان كانوا على الحق او امنعهم من تعطيل الحياة ان كانوا على الباطل.. هذه السلبية تجاه المظاهرات سهلت الخروج واتخاذ موقف المحايد من الحرب دون التفكير في عواقب ذلك عليه وعلى البلاد.

  3. أول مرة نسمع بأنثى تحرض على الحرب الاناث معروفين بأنهم حمائم السلام و ضد الحروب و سفك الدماء ما عدا طبعا الموتورات و الحاقدات و الجاهلات و طبعا الكوزات!

  4. أولاّ لا يمكنك أن تصفيه بالهالك بهذه السهولة وأنتِ كاتبة
    ثانيا: عندما حدثت هذه الجرائم في دارفور ماذا كتبتِ يا خرطومية؟
    ثالثاّ: ما تشكري لينا جيش مليشيات نهر النيل دي في الخريف

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..