وقفة مع المرويات المؤسسة للشخصية السودانية في كتاب الطبقات

وقفةٌ
مع بعض المرويّات الشفويّة والسماعيات والحكايات
المُؤَسِسة للشخصية السودانية في كتاب الطبقات
عمر محمد الأمين
- محمود العركي (راجل القِصير) وحكاية عدة المرأة المطلقة!! (1من3)
- الشّيخ محمد الهمّيم ود عبد الصادق وحكاية الجمع بين الأختين!! (2من3)
- الشّيخ حمد ود الترابي وحكاية ادعاء المهدية في الحرم المكي!! (3 من3)
*********
توطئة:
مثّل كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمؤلفه الفقيه محمد النور ود ضيف الله كما يقول دكتور يوسف فضل منذ صدور طبعتّيه غير المحققتين في عام 1930 ثم طبعته الأولى المحققة في 1970″مصدراً سودانياً هاماً، يبهر بغزارة مادته، وتنوع موضوعاته وطرافة اتجاه، وأصالة أسلوبه.
والكتاب من أوائل وأهم الكتب العربية السودانية التي تؤرخ لعصر مملكة الفونج الإسلامية، بل ربما كان المصدر الوحيد الذي يهتم بانتشار الإسلام والثقافة العربية في السودان.”
مصادر الكتاب:
- الروايات الشفويّة والمصادر الخطية.
- الأخبار المتواترة والشهيرة.
سجل المؤلف ما تواتر من تلك الأخبار واشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الأمين كما ذكر دكتور يوسف فضل، لم يكن ود ضيف الله رغم ثقافته الواسعة مؤرخا بالمعنى المتعارف عليه اليوم: يلتزم الدقة والموضوعية في اختيار مادته ثم يعقب على ذلك بشيء من النقد والتحليل. فقد كتب ود ضيف الله في خطبة الكتاب:(وبعد فقد سألني جماعة من الأخوان، أفاض الله علينا وعليهم سحايب الإحسان وأسكننا وأياهم أعلى فراديس الجنان بحرمة سيد ولد عدنان، أن اؤرخ لهم مُلك السودان، وأذكر مناقب أوليائها الأعيان. فاجبت سؤالهم بعد الاستخارة الواردة في السنة والإلهام، ولم يكن لأسلافنا وأسلافهم وضع في هذا الشأن. إلا أن أخبارهم متلوة عند الخاص والعام، منها ما بلغ حد التواتر عندهم. فأحببت أن أذكر ما اشتهر وتواتر من الأخبار. وذلك لأن الخبر المتواتر عند الأصوليين من الأقسام اليقينية التي تفيد العلم بالشيء وتنفي عنه الشك والظن والوهم.
فافتديت بجماعة من المحدّثين والفقهاء والمؤرخين انهم ألفوا في التاريخ والمناقب….).
وكتب دكتور يوسف فضل: “أما مصادر الكتاب فيمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين هما الروايات الشفوية والمصادر الخطية. ويدلنا البناء العام لكتاب الطبقات أن ود ضيف الله قد اعتمد اعتمادا كبيرا على الروايات الشفوية المتواترة بين الناس عن الأعلام من العلماء والأولياء. ولا غرابة في ذلك فإن ندرة المؤلفات المحلية كانت تحتم على المؤلف أن يتكئ على ما يتناقله الناس جيلا بعد جيل، وكأني به قد أحس أن هذه الطريقة قد تعرض المضمون لشيء من التحريف. فيبدد المؤلف هذا التساؤل بقوله:” إن أخبار هؤلاء الأعلام متلوة عند الخاص والعام ولذا اختار منها ما اشتهر وتواتر وذلك لأن الخبر المتواتر عند الأصوليين من الاقسام اليقينية التي تفيد العمل بالشيء وتنفي عنه الشك والظن والوهم”
وكثيرا ما يسند المؤلف اخبارا على مصدر معين كوالده أو خاله موسى ود ريّة أو دفع الله بن الشيخ زين العابدين وغيرهم. وإذا تشكك في رواية بدأها بكلمة “قيل”.
وتعكس مادة الطبقات ان ود ضيف الله رغم ثقافته الواسعة لم يكن مؤرخا بالمعنى المتعارف عليه اليوم: يلتزم الدقة والموضوعية في اختيار مادته ثم يعقب على ذلك بشئ من النقد والتحليل..”.
وكتب الدكتور يوسف فضل في مقدمة الطبعة الثانية:” وأود أن أؤكد أن كتاب طبقات ود ضيف الله الذي يؤرخ لطبقة الأولياء والصالحين والفقهاء في عصر الفونج لهو مرآة صادقة لحياة السودانيين الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية وسجل صادق لمعتقداتهم الدينية في ذلك العصر أيا كان رأينا فيها. وقد سجل المؤلف ما تواتر من تلك الأخبار واشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الأمين ….، ولكنه ترك لنا معلومات ثرة عن معتقدات السودانيين والتي تمثل الجذور التاريخية لكثير مما هو سائد في سودان اليوم. وكل هذه سمات هامة من سمات ذلك العصر لا يمكن تجاهلها أو التقليل من قيمتها”.
وكتب الشاطر البصيلي في هامش صفحة 53 وتعريفاً بكتاب الطبقات:” وهذا الكتاب جدير بالدراسة الخاصة في مختلف نواحي الموضوع وفي مقدمتها تحقيق ما جاء في الكتاب وتنقيته مما يكون مضافا اليه لغرض ما.”
تعني هذه الإشارات أنه ينبغي على المؤرخين والباحثين تناول ما ورد في الكتاب وفق معايير التحقيق والضبط والتدقيق والموضوعية والتحليل والتعليق قبل اعتماد ما ورد كحقائقٍ تامة سديدة ومأمونة، وعليهم التعامل مع المرويّات كنصوصٍ وصيغٍ للعرض والتحقيق وليس كحقائق معتمدة وموثوقة.
لكن الواقع يقول خلاف ذلك؛ فقد أصبحت مرويّات ود ضيف الله في تلك التراجم حقائق تاريخية معتمدة حرية بالثقة ينقلها المؤرخون والباحثون باحث عن باحث ومؤرخ عن مؤرخ دون التوقف عندها وإخضاعها للتحقيق والتثبت عن مدى صحتها ومصداقيتها.
سنعرض ثلاثة نماذج توضح ذلك، وكيف أصبح ما جاء فيها يرد كحقائق تاريخية في متون كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية والثقافية لعصر الفونج وتستخدم دعم وتعضيد وجهات النظر في وصف وتحليل الحياة الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية والفكرية في الدولة السنارية.
- محمود العركي (راجل القِصِير) وقصة عِدة المرأة المطلقة!
نورد أولاً ترجمة محمود العركي كما جاءت في الطبقات صفحة 344:
” (226) محمود العركي: راجل القصير، مولده بالأبْيض. وطلب إلى مصر فاخذ عن الناصر اللقُّاني وشمس الدين اللقّاني. وهو أول من أمر الناس بالعِدة. وكانت المرأة قبله يطلقها زوجها ويزوجوها في يومها أو ثانية. وسكن في جزيرة الهوى في بحر أبيض. وبنى له قصرا الآن يعرف بقصر محمود وهو بين الحسانية واليس. وقدومه قبل أولاد جابر فان أولاد جابر تعلموا عند البنوفري، والبنوفري عند عبد الرحمن الأجهوري، وعبد الرحمن اخذ عن شمس الدين وناصر اللقّانيين. وقدومه في زمن الفنج. وقال الشّيخ خوجلي كان من الخرطوم إلى اليس سبعة عشر مدرسة وكلها خربتها شلك وام لحم وتوفي في القصير.”
ومع أن دكتور يوسف فضل قد استدرك على ود ضيف الله وحصر ذلك بمنطقة (النيل الأبيض) وذلك في صفحة 112 الهامش 14 عند حديثه عن الاخوان شمس الدين وناصر الدين اللقاني بقوله:” هما الاخوان شمس الدين وناصر الدين اللقاني وهما أساتذة محمود العركي (الترجمة 226) أول من أدخل علوم الدين في منطقة النيل الأبيض…”.
أصبحت ترجمة محمود العركي (راجل القصير) بسبب الإطلاق والتعميم وعدم التقييد تحمل الإفادة بحقيقتين راسختين محكمتين مثبتتين لا يمكن تجاوزهما أو التوقف عندهما، وهما:
- ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن.
- ويقال ان الرجل يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عِدة.
ومع أن مؤرخاً وكاتباً معاصراً قد استدرك على ود ضيف الله ذلك التعميم وأوضح ما وَهِم فيه، وعلل ذلك كون ود ضيف الله لم يطلع على تواريخ بلاد النوبة وما صار فيها من الصلح والحروب…. كما ورد في صفحة (141) من مخطوطة كاتب الشونة في تاريخ السّلطنة السِّنَّارية والإدارة المصرية، التي جمعها وكتبها أحمد بن الحاج أبو علي كاتب الشونة، تحقيق الشاطر بصيلي عبد الجليل ومراجعة الدكتور محمد مصطفى زيادة. الناشر الدار السودانية للكتب الطبعة الأولى 1430هـ – 2009م، وهذا هو النص الكامل للملحق المعني:
(الملحق الأول – نقلا عن صفحتي 2،1 مخطوطة باريس
(ا ـــ ب) وقول المؤرخ إنه لم تشتهر في تلك المدة مدرسة علم ولا قرآن (2ــ1) إلى أخر ما ذكره حتى قدم محمود لعله بتلك الجهة التي هي جهة البحر الأبيض، أما الجهة الشرقية فقد كان بها أولاد عون الله وهم سبعة رجال في مدة الفنج (العنج) أي النوبة وكان أحدهم المسمى بالضرير قاضياً في مدة الفنج (العنج) قبل مدة الفنج وقبورهم بنواحي ولد أبي حليمة ظاهرة، وإن الشّيخ إدريس المشهور كانت ولادته في سنة ثلاثة عشر بعد التسعمائة، وكان يقرأ القرآن عند ولد بندار قدام الحلفاية وقدوم محمود كان بعد ذلك، وأيضّا في مدة خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد قدم إليه جماعة من بر السودان، وهو ببغداد وطلبوا منه أن يرسل معهم علماء يعلمونهم أمور الديانة، فأرسل معهم سبعة علماء من بني العباس ووصلوا إلى دنقلة وأقاموا بها وتناسلت منهم ذرية كثيرة، فكيف يقول المؤرخ إنه لم تشتهر قبل محمود مدرسة علم ولا قرآن مع أن أولاد عون الله كانوا قبل الفونج(العنج) والشّيخ إدريس وجدهم مدفونين ولم يدرك واحداً منهم والشّيخ البنداري الذي يقرأ عليه القرآن أصله من الشام، وكان من الصالحين، حتى قال لوالد الشّيخ إدريس: ابنك هذا يظهر له شأن عظيم وقد حصل وكل هذا قبل قدوم محمود،
وكذلك الشّيخ أحمد ولد زروق قدم من اليمن وهو شريف من أهالي حضرموت، وكان في مدة الشّيخ البنداري شيخ الشّيخ إدريس في المكتب وبينهما مودة ومواخاة، وكذلك الشّيخ قرأ عليه وشهد له بجلالة القدر وإنما ذكرنا هذا لكون المؤرخ لم يطلع على تواريخ بلاد النوبة وما صار (2ـــ ب) فيها من الصلح والحروب….).
وقفة مع المرويّات في ترجمة محمود العركي (راجل القِصِير):
وبالرغم من هذا الاستدراك المبكر من قبل كاتب الشونة، وبيانه للتعميم والوهم وعدم التحديد الذي وقع فيه ود ضيف الله بسبب عدم اطلاعه على تاريخ البلاد، وتصحيح كاتب الشونة لهذه المعلومة وقصرها على منطقة جغرافية محددة (جهة البحر الأبيض {النيل الأبيض})، وإيراده لأسماء العلماء ممن سبق محمود العركي وأماكن إقامتهم؛ إلا أن الإفادة التي ذكرها ود ضيف الله أصبحت تمثل وصفاً وتشخيصاً راسخاً عصياً على التصحيح. وصارت عبارة ” ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن. ويقال ان الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عِدة” حقيقة قسرية مفروضة عند الكتابة عن تاريخ الدولة السنّارية سواء أكان ذلك بالعربية أو الإنجليزية، فقد وردت عند الشاطر البصيلي ودكتور عبد المجيد عابدين ونعوم شقير وعند مكمايكل وسبنسر ترمنجهام وريتشارد هل وغيرهم.
أما عند السودانيين فقد أضحت هذه العبارة “لازمة ثابتة ” ترد في كتابات معظم إن لم يكن كلٍ من المؤرخين والمفكرين والأدباء والباحثين والدارسين والطلاب الدارسين لتاريخ الدولة السنارية. ونجد أن ود ضيف الله نفسه هو أول من استخدمها وأوردها لتعضيد حجته في إيجاز (تاريخ مملكة الفونج) التي كتبها كمدخل للتراجم في الصفحات من 39 إلى 44:
- ” إعلم ان الفنج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها في أول القرن العاشر: سنة عشر بعد التسعمائة وخطت مدينة سنار خطاها الملك عمارة دونقس، وخطت مدينة أربجي قبلها بثلاثين سنة خطاها حجازي بن معين. ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن. ويقال ان الرجل يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة، حتى قدم الشّيخ محمود العركي من مصر، وعلم الناس العدة وسكن البحر الأبيض، وبنى له قصرا يعرف الآن بقصر محمود.”.
- وثانياً عندما استشهد بها الدكتور يوسف فضل في مقدمة الطبعة الأولى (1: بواكير الدعوة الإسلامية والثقافة العربية) في صفحة 3،” وقد ملئ هذا الفراغ الروحي على حد كبير بانتشار الإسلام بين كثير من الوطنيين. ويبدو أن مجهودات طلائع العلماء والمتصوفة مثل غلام الله بن عائد وحمد أبو دنانة زادت من انتشار الدعوة الإسلامية في مرحلتها الأولى. وهذا ما يؤكده ود ضيف الله عندما تسلم الفونج زمام الأمر:
“اعلم ان الفنج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها أول القرن العاشر… ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن. ويقال ان الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة، حتى قدم الشّيخ محمود العركي من مصر، وعلم الناس العدة وسكن البحر الأبيض، وبنى له قصرا يعرف الآن بقصر محمود.”
- كما كتب الدكتور يوسف فضل في مقدمة الطبعة الثانية:” وأود أن أؤكد أن كتاب طبقات ود ضيف الله الذي يؤرخ لطبقة الأولياء والصالحين والفقهاء في عصر الفونج لهو مرآة صادقة لحياة السودانيين الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية وسجل صادق لمعتقداتهم الدينية في ذلك العصر أيا كان رأينا فيها. وقد سجل المؤلف ما تواتر من تلك الأخبار واشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الأمين. “.
ومع ذلك نجد أن الدكتور يوسف فضل قد استدرك على ود ضيف الله وحصر ذلك بمنطقة (النيل الأبيض) وذلك في صفحة 112 الهامش 14 عند حديثه عن الإخوان شمس الدين وناصر الدين اللقاني بقوله:” هما الاخوان شمس الدين وناصر الدين اللقاني وهما أساتذة محمود العركي (الترجمة 226) أول من أدخل علوم الدين في منطقة النيل الأبيض…”.
- وبعد أن رسخت إفادة ود ضيف الله في كتابات السودانيين صارت تستخدم كمعطى تاريخي ثابت راسخ في التحليل الاجتماعي للمجتمع والتحولات التي تعتريه؛ كما استخدمت في التحليل الأنثروبولوجي للحياة الاجتماعية، واستخراج النتائج بناء على ذلك؛ فمثلا في كتاب “التصوف بين الدروشة والتثوير” للكاتب الصحفي الأستاذ عبد الله الشّيخ نجد في صفحة 67، (الحِيرة) ظرفٌ تاريخي:” كانت المرأة وهي ترمومتر لقياس الواقع الاجتماعي، (يطلقها زوجها ويتزوجها غيره في يومها). هذا الحال ينسف بالضرورة فكرة النقاء العرقي وينفي التلقيب بـ الأسلمة في ظل تلك الحِيرَة التي هي ظرف تاريخي أو إشارة إلى حالة المخاض العسير لمجتمع يمور ليلد الأيديولوجيا الهادية له.”
وفي صفحة 99 كتب تحت عنوان: “خلاوي العركيين”، أشعل نارها الشّيخ محمود العركي في بدايات السلطنة، في مرحلة الحِيرة التي ضربت الناس. وبدأ ببث مبادئ الفقه ممثلة في شريعة الأحوال الشخصية، لحاجة المجتمع إليها خاصة في تنظيم وضعية المرأة.
اتجه الشّيخ العركي الى تعليم الناس العِدة مبتدءاً بترتيب وضع المرأة شبه المشاعي الذي يتولد منه العراك والقتال في مجتمع تقليدي وانتقل من شمال السودان إلى مناطق أكثر حيرة، ليجاور الشلك وغيرهم ممن ظل على وثنيته. كانت خلاوي العركيين هي أول مراكز الوعي في السلطنة (مشايخها عُدول. تركنا تفصيلهم لشهرتهم).
وخلُص من هذا التحليل إلى:
- أن هذا الحال ينسف بالضرورة فكرة النقاء العرقي وينفي التلقيب بالأسلمة،
- وأن وضع المرأة كان شبه مشاعي،
- كانت خلاوي العركيين هي أول مراكز الوعي في السلطنة.
ومع أن كاتب الشونة قد حدد الفضاء المكاني حسب إشارة ود ضيف الله (من الحسانية إلى الليس) بأنها هي المنطقة بين القطينة والكوة حاليا، وكانت تشكل منطقة تماس ثقافي و ديمغرافي، حيث أن الليس كانت عاصمة الشلك، ولقد وهِم ود صيف الله وعَمَم عِوض التبعيض والتجزئة بالإشارة إلى (جهة في بحر أبيض) أو (منطقة في بلاد الصعيد). وكذلك عند الشاطر البصيلي في صفحة 74 وبالرغم من إشارته لتضارب الروايات المحلية عن هذه النقطة. إن محمود العركي (راجل القصير) يعتبر في هذه الحالة مصلحاً ومجدداً لتعاليم الدين في تلك المنطقة والتي ضعفت في صراعها مع ما بقي من “.. الكثير من التقاليد والعادات الوثنية، الموروثة عن المدنية المصرية القديمة. في صورة أو أخرى حتى اليوم، وقد تركت هذه التقاليد، أثرها في الجماعات الإسلامية التي دخلت البلاد السودانية، فأضعفت تمسكهم بالشريعة، حتى قيل أن الرجل صار يطلق امرأته، ويعقبه عليها غيره من يومه بدون وفاء عدة. ورغم أن هناك تضارب في الروايات المحلية، عن هذه النقطة، إلا أن المؤكد أن التعاليم الدينية لم تستقر في القلوب، وأنها تأثرت بالظروف المحلية.
وكتب الشاطر البصيلي في صفحة 53:” وجاء في مخطوطة “تاريخ سنار”.” وأيضاً في مدة خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد قدم إليه جماعة من بر السودان وهو ببغداد وطلبوا منه أن يرسل معهم علماء يعلموهم أمور الديانة فأرسل معهم سبعة علماء من بني العباس ووصلوا إلى دنقلة وأقاموا بها وتناسلت منهم ذرية كثيرة” وإذا رجعنا إلى كتاب الطبقات نجد تصويراً لحالة البلاد الفكرية والروحية، كما تناقلتها الأجيال حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث دونها الشيخ ضيف الله في طبقاته وليس من شك أن كثيراً من التعديل والتغيير والتبديل قد أصاب الروايات التي أخذت سبيلها عن طريق النقل الشفوي من جيل إلى جيل وقد بعدت الشقة في بعض التراجم لأكثر من ثلاثة قرون وهذه الفترة الطويلة كفيلة بأحداث ما نجده من خوارق للعادات وكرامات أراد بها ناقلوها وهم اتباع هذا الشيخ أو ذاك أن يرفعوا من قدره بالنسبة لغيره.”
وفي هامش الصفحة وتعريفاً بكتاب الطبقات ذكر:” قام بنشر الكتاب الأستاذ سليمان منديل في عام 1930كما قام الأستاذ الشيخ إبراهيم صديق بنشر طبعة أخرى في عام 1930م بعد أن حقق ما جاء فيها وعلق عليه وهذا الكتاب جدير بالدراسة الخاصة في مختلف نواحي الموضوع وفي مقدمتها تحقيق ما جاء في الكتاب وتنقيته مما يكون مضافا اليه لغرض ما.”
وجاء في صفحة 54:
” إن هذه الظاهرة ظاهرة التشيع لأصحاب السجاجيد، ورفعهم إلى مراتب الكشف عن الغيبيات والاتيان بالمعجزات وخوارق العادات تصور لنا ما كان عليه المجتمع من تدهور في حياته المعيشية. الأمر الذي دفع أفراده إلى الالتجاء إلى هؤلاء الرؤساء الروحانيين طلباً للنجدة والغوث في قضاء الحاجات، من دفع للأذى والضر وجلب للمنفعة والخير والمثوبة عند الله تعالى وصرف للعدو ولم تكن هذه الحالة من المعتقدات في الشعوذة والسحر وما إلى ذلك وليدة الهجرات العربية بل هي عريقة في القدم توارثها القوم من آبائهم وأجدادهم عن أقدم العصور الوثنية عندما تمخضت عنها حياة مجتمع ارتبط بسلفه من الغابرين وغيرهم في صورة أو أخرى من التقديس والتبريك، وأخذت هذه المعتقدات تتطور مع انتقالها من عصر إلى عصر. وتمسك بإحيائها في العهد الإسلامي بعض الرجال الذين استأثروا بالتعليم الديني وورث خلفاؤهم عنهم القيام بهذا النشاط وقد يكون رجل الدين الأول عارفا لرسالته قائما بها على وجهها الصحيح غير أن الأمر قد أصابه التعديل والتبديل جيلا بعد جيل وبخاصة أن دخول أمثال هؤلاء العلماء للبلاد لم يكن متصل الحلقات. وكان للمرأة الوطنية أثرها الخطير في تكييف الرسالة التعليمية في نطاق التقاليد والعادات المحلية التي توارثتها عن بيتها، وقد ساعد ذلك على جعل الإفادة من القرآن والعلوم النقلية محدودة وصار طلاب العلم يحفظون عن ظهر قلب ما يرويه مشائخهم دون المعرفة والعمل على تبسيط المعارف ونشرها لتساهم في تقويم المجتمع. وآية ذلك أن مسألة الزواج والطلاق كانت تباشر دون استكمال العدة الشرعية في الوقت الذي كان فيه علماء الدين (الفقهاء) يمارسون نشاطهم.”
إن محمود العركي (راجل القصير) يعتبر في هذه الحالة مصلحاً ومجدداً لتعاليم الدين في تلك المنطقة والتي ضعفت في صراعها مع ما بقي من “.. الكثير من التقاليد والعادات الوثنية، الموروثة عن المدنية المصرية القديمة في صورة أو أخرى حتى اليوم، وقد تركت هذه التقاليد، أثرها في الجماعات الإسلامية التي دخلت البلاد السودانية، فأضعفت تمسكهم بالشريعة.
*********
- الشّيخ محمد الهمّيم ود عبد الصادق وقصة الجميع بين الأختين!!
هذه ترجمة الشّيخ محمد الهمّيم ود عبد الصادق كما جاءت في الطبقات (316 إلى 322):
“(205) الشيخ محمد الهميم بن عبد الصادق بن مالك ابن ماشر الركابي. أخذ الطريق من الشيخ تاج الدين البهاري وسلكه وأرشده ووصله مقامات الأولياء ووكله في مكانه. وقال لتلاميذه مثل ما ابْتَعاينوا لىْ تعاينُوا إليه.
ريحانة في مدح العارفين له: وقال شيخه فيه: التلميذ بيكوس للشيخ، الشيخ ما بيطلب التلميذ. أنا جيتْ من بغداد لأجل هذا الولد. ويقول له: مسبوب، ومحبوب وأمه سمتّته حسان. قال لها: ولدك اسمه عند الله محمد الهميم.”
وفي صفحة 318:” وكان الشيخ محمد رضى الله عنه من الملامتية: طائفة من الصوفية تفعل اللوم وتخالف الشرع فتنكر الخلق عليهم. بعضهم يعطب المنكر عليهم وبعضهم قصدهم إنكار الخلق عليهم هضما للنفس خوف الشهرة كالشيخ إبراهيم الخواص؛ فإنه يسرق لباس الناس وهم في الحمام فيلبسهن تحت جبِتّهُ ويقْدِل حتى يطلع عليه الناس ويضربوه ويأخذها منه. ذكر ذلك سيدي عبد الوهاب الشعراني في طبقات العلماء والأولياء. * (* استدرك عليه المحقق الدكتور يوسف فضل في الهامش “11” بقوله لم اهتد الى موضع هذه القصة في طبقات الشعراني)!!
واللوم الفَعَلو الشيخ محمد رضى الله عنه نسْوانه يَلْحقَن التسعين وغصب خادما هُول ناس اربجي اسمها زريقة حسبها سريِّة واخذ بنات الشيخ بان النقا أبو يعقوب اثنين كلتوم وخادم الله وقال له السيد ما يمنعوه خدمه، وجمع بنات أبو نَدوده في رفاعة اثنين.”
وفي صفحة 319:” واعلم ان الناس انكرت عليه إنكارا شديدا. وأنكر عليه القاضي دشين قاضي أربجي وان الشيخ جاء لصلاة الجمعة في أربجي فلما خرج من الجامع ركب على جواده فمسك القاضي في عنان الفرس فقال له: خَمسّتَ وسدَّسْت وسَبَعْت تجمع بين الاختين تخالف كتاب الله وسنة رسول الله. فقال: الرسول اذن لي والشيخ ادريس بيعلم. فسأل القاضي الشيخ ادريس: هذا الكلام صحيح؟ فقال له: خِلِّ بينه وبين الله تعالى. قال له: ما بَدُور هدياتك بَدُور شهادتك. فقال له: اليعَتِقْ له معتوق برجع في عتقه. الرجل هذا الله عتقه. وقال القاضي: جميع هذه الانكحة فسختها. ودعا عليه، وقال الله يفْسَخْ جلدك. فإن القاضي مرض مرضا شديدا وانفسخ جلده مثل قميص الدبيبة”.
التقيد بالشريعة هو ضابط التربية والتزكية عند المتصوفة
إن السمات التي سادت في البيئة الاجتماعية في سلطنة الفونج، ـــــــ وهي بيئة كانت تهيمن عليها المؤثرات المسيحية والأرواحية قبل التداخل والتماس والالتقاء بالمؤثرات الإسلامية، ــــــ هي الصراع والنزاع والمنافرة والمفاخرة والمباهاة. نزاع وصراع بين أهل الظاهر وأهل الباطن أو بين الفقهاء والمتصوفة من طرف، وفي الطرف الآخر مباهاة وتفاخر بين مشايعي الشيوخ من المتصوفة، ورفعهم لمشايخهم إلى مراتب الكشف عن الغيبيات و الإتيان بالمعجزات وخوارق العادات مثل الطيران وإحياء الموتى والعطب وإلحاق الضرر بالمعتدين وغيرها، هذا المناخ هو الذي أوجد وأشاع وروج للكثير من مثل هذه المرويّات والحكايات والسماعيّات.
نورد فيما يلي بعضاً من أقوال بضع أعلام التصوف عن الضوابط والمعايير التي تحكم السلوك والتصرف للجميع شيوخا ومريدين:
- يحكى عن السري السقطي أنه قال: التصوف اسم لثلاث معان:
- وهو الذي يطفئ نور معرفته نور ورعه.
- ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة.
- ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.” (الرسالة القشيرية ص 17″).
- وعند ابن عربي:
التصوف: الوقوف مع آداب الشريعة ظاهراً وباطناً، وهو الخُلُق الإلهي.
(ص 29 اصطلاحات الصوفية –ابن عربي).
- قال أبو يزيد:
لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة. (الرسالة القشيرية ص 25).
- يقول الجنيد:
“مذهبنا هذا: مقيّد بأصول الكتاب والسنّة”. (الرسالة صفحة 35).
- وذكر الأستاذ الشيخ عبد المحمود بن نور الدائم في كتابه النُّصرَة العِلميَّة لأهل الطّريقة الصُّوفية، ص 128 تحت عنوان تقيُّد المقتدىَ بهم بالشريعة، ما نصه: “وأما العارفون الذين هم قدوة للناس فيجب عليهم حفظ ظاهرهم وإلا عِدم الناس بهم النفع، فعُلِمِ أن الله تعالى لا يحرِّم شئياً أو يوجبه على ألسنة رسله ثم يبيحه لأحد من أوليائه ابداً، لأن الله تعالى قد راعى شرعه الظاهر وجعله مردّاً للناس كلِّهم فلا ينسخ الشريعة إلا من جاء بها من بعده من الرسل، ونبينا آخر الرسل، وليس لشرعنا ناسخ…”
- وتحت عنوان (من خالف الشرَّع اختياراً فليس بوليِّ) ص 129 قوله:” …. وقد اتفق جميع أهل الظاهر والباطن على أن من يخالف الشرع ليس بولي، بل ولا يجوز إطلاق اسم الولاية عليه.”.
- وقد وضع الشريف محمد الأمين الخاتم عدداً من الشروط التي يجب أن تتوفر في الشيخ المرشد، كما جاء في كتاب “الشريف محمد الأمين الخاتم، الكهف الرباني” لمؤلفه الأستاذ مناف الشريف النور، منها:
- أن يكون تابعاً للكتاب والسنة.
- أن يكون واقفاً عند الأمر والنهي.
على ضوء هذه الضوابط سننظر فيما جاء في ترجمة الشيخ محمد الهميم ود عبد الصادق!
من هو الشّيخ محمد الهمّيم في ضوء تلك الضوابط:
- شابٌ مقبلٌ على الحياة شرى نفسه بخياره سلوك طريق القوم!! فأضحى الخليفة الأول للطريقة القادرية بعد رجوع شيخه ومربيه ومرشده الشيخ تاج الدين البهاري للحجاز.
أول من سلك طريق القوم القادري في السودان، فعندما اجتمعت الناس عند الشيخ تاج الدين البهاري ليسلكهم طريق الصوفية “قال للناس اسلك وارشد واذبح وتموتوا على الإيمان”، عندها تفرق الناس كهولاً وشيوخاً من حوله، حينذاك تقدم شابٌ يافعٌ، وهو محمد ولد عبد الصادق فتوضأ وصلى ركعتين، وأدخله القطيع، وسال الدم من القطيع وظنوا انه ذبحه… ثم تلاه الشيخ بان النقا. وبعد ذلك خرج الرجلين سالمين وامر كل واحد ان يأكل لحم كبشه وطوى له فيه سرا. وقال هذين الولدين يحْيُوا البلد. (الطبقات 108).
- وقال شيخه فيه: التلميذ بيكوس للشيخ، الشيخ ما بيطلب التلميذ. أنا جيتْ من بغداد لأجل هذا الولد. (الطبقات 316).
- أوصى الشيخ تاج الدين البهاري فقراه بحفظ مقام ومنزلة الشيخ محمد الهميم تماما كحالهم معه هو شيخهم ومربيهم، وذلك بعد أن مكث في التربية والإرشاد مع شيخه سبع سنين. “ويحكى أن الشيخ تاج الدين رضى الله عنه لما أراد السفر إلى الحجاز جمع فقرأه وقال لهم انا جيت من بغداد لأجل هذا الولد مثل ما ابتَعايْنُو لىْ عاينوا له…..
- وانقاد له حيران شيخه مثل شيخهم، فإن الشيخ بان النقا من السنة إلى السنة يجي لزيارته، وإذا دخل في سنار لشفاعة يقوم معهم. والشيخ عجيب اول ما يدخل وعر المندرة يمنع من ضرب النُّقارة فاذا دخل عليه يخلع ثياب الملك ويلبس جبة تاج الدين.. “(ص321).
- توضح قصة “حمل الدليب على الفيّلة” (الترجمة 187) مدى أدبه وحسن إرشاده وإعداده من قبل شيخه الشيخ تاج الدين البهاري، “.. فلما وصلوا المنُدرة الشيخ ما رضى اظهار السر قال لهم: ما ترسلوا لي اجيب لكم الزوّامل“، لم يرض بكشف السر، ففي عُرُف وتربية وتنشئة القوم عدم الركون لإظهار الكرامات بل والعمل على كتمانها وليس المباهاة بها مخافة أن تكون استدراجاً، وكذلك هضماً للنفس ورعوناتها ونفوراً من الرياء والكبر الذي تحدثه مثل هذه الوقائع والكرامات. وبالرغم من ذلك اشتهر بلقب “ود عبد الصادق أدّآب الفيّلة”.
وقفة مع المرويّات في ترجمة الشّيخ محمد الهمّيم:
إن المآخذ التي رويّت وتم تعليلها تحت لافتة الملامتية هي:
- نسْوانه يَلْحقَن التسعين،
- وغصب خادما هُول ناس اربجي اسمها زريقة حسبها سريِّة،
- جمع بين الاختين بنات الشيخ بان النقا أبو يعقوب اثنين كلتوم وخادم الله،
- وتزوج بنات أبو نَدوده الاثنين في رفاعة،
- خَمسّ وسدَّسْ وسَبَعْ.
- فسخ جلد القاضي الذي قام بفسخ الزواج وبيان بطلانه (وانفسخ جلده مثل قميص الدبيبة).
والسمة الجامعة لتلك المآخذ أنها كلها تدور حول المرأة!!!
سنحاول استعراض هذه الروايات لمعرفة مدى صدقها وصحتها والتعقيب عليها:
- لقد (وَهِم) المؤلف في الأنساب بإضافة السليلتين (كلتوم وخادم الله – إن وجدتا؟) لذرية الشيخ بان النقا الضرير!!، فالثابت المشهور والمتداول حسب شجرة النسب عند أحفاد الشيخ بان النقا الضرير أن له كريمتين فقط، وهما “بتول الغبشا” والدة الشيخ هجو ابو قرن (الترجمة 262) و”زينب نقاوة” والدة الشيخ عبد الرازق أبو قرون (الترجمة 188).
- و(وَهِم) ثانياً بقوله إن الشيخ محمد الهميم قد جمع بين بنتي بان النقا الضرير، فالشيخين الجللين لم تربط بينهما أي علاقة مصاهرة إنما أخوة الطريق!
- و(وَهِم) ثالثاً بتطرقه لحكم القاضي وهو فسخ النكاح، والحكم الشرعي في هذه القضية ليس فسخ الزواج، إذ أن زواج الأخت الثانية فوق الأولى باطل أصلاً والحكم هو إقامة حد الزنا في الشيخ محمد الهميم.
- والسؤال هو كيف خفي على الشيخين المرشدين بمنزلتهما العلمية حرمة هذا الجمع؟
- وكيف ارتضى الشيخ بان النقا أن يجمع بنتيّه في عصمة رجل واحد؟؟
- وكيف رضي الشيخ الهميم أن يجمع تحت عصمته بين أختين؟؟
- وكيف سكت الشيخ إدريس على ذلك وهو ممن جمعوا بين الفقه والتصوف؟؟!!
- ذكر أن القاضي دشين “سمى قاضي العدالة لانه فسخ نكاح الشيخ محمد الهميم. وأن الشيخ دعا عليه بقوله فسخ الله جلدك، فيقال أنه مرض مرضا شديدا حتى تفسخ جلده، وما رجع من امره للشيخ الهميم وما زاده ذلك الا يقينا، فمن اجل هذا “سمى قاضي العدالة” (الطبقات212)، وإذا حدث ذلك فإنها تكون للشيخ الهميم وليس عليه، ولجزم الناس بأن القاضي أصابته دعوة الشيخ وليس ثمة من يدعوه عادلاً بعدها.
- وأما بالنسبة لرواية زواج بنات أبو ندودة الاثنين في رفاعة، فإن الهامش 17 في صفحة 212 نقل عن عبد العزيز عبد المجيد قوله” ولكن تتمة لم ترد في الطبقات وانما على ألسنة الناس. فانه يقال ان النبي ظهر للقاضي دشين في المنام وقال له ان حقيقة الاختين اللتين تزوج بهما الهميم هي ان الاختين كانتا في الواقع من امين مختلفتين وقد حملت احدى هاتين الامين بواحدة من الاختين سفاحا وإذا فلا علاقة بين هاتين الزوجتين.” وهذا التعليل إن وجد فهو ليس أقل سواء من رواية زواجهما!! فقد قذف الأم حين رام التعليل للعثور على مخرج بنفي العلاقة، وما وجد منفذا بل أضاف ما هو أسوأ وهو القذف!! ويبقى الحكم فالولد للفراش وللعاهر الحجر!!
- وتروى قصة (فسخ جلد القاضي دشين) وكأنها كرامة للشيخ الهميم! وهذا لا يستقيم مع المعنى الاصطلاحي للكرامة، فقد ذكر الخليفة الدكتور الشيخ أبو عاقلة الترابي في مؤلفه حمد النحلان ود الترابي ص138 قوله:” والكرامة في معناها الاصطلاحي: هي أمر خارق للعادة يجريها الله تعالى على يد عبد ظاهر الصلاح، ومتبع لشريعة نبي لم تنسخ وغير مقرونة بالتحدي ودعوى النبوة فهي علامة وإشارة على صلاح الأولياء وعلو قدرهم، وهي الجزاء الدنيوي لهم على تقواهم وطاعتهم وإخلاصهم لله تعالى. قال الشيخ إبراهيم البيجوري في شرح الجوهرة:
واثبتن للأوليا الكرامة*** ومن نفاها فانبذن كلامه
أي اعتقد جواز وقوع الكرامة..) فوقوع الكرامة مشروط باتباع شريعة نبي لم تنسخ، وغير مقرونة بالتحدي. والمشهد كما جاء في الرواية أمام جامع أربجي كان يشير إلى عدم التقيد واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ومقرونة بالتحدي ما ينفي عنها صفة الكرامة!!!
وهكذا يتضح أن هذه المرويات والحكايات والسماعيات لا أساس لها من الحقيقة أو الصدق ــــــ أياً كان مصدرها؛ مغرضون متحاملون أو محبون مشايعون للشيخ وللمنهج بصورة عامة ــــــ وتبقى مجرد مرويّات ومحكيّات وسرديّات شعبية فلكلورية لا غير!!
*********
- ادعاء الشّيخ حمد ود الترابي للمهدية في الحرم المكي!! (1053هـ 1116هـ – 1704م)
نورد أولاً ترجمة حمد النّحلان بن محمد* البديري المشهور بابن الترابي كما جاءت في الطبقات الصفحات 160-173:
” (79) حمد النّحْلان بن محمد البديري المشهور بابن الترابي. وأمه اسمها غاية. قرأ (خليل) على الفقيه محمد ولد التنقاري في مويس وبرع فيه. فاخذ فيه عشر ختمات. ثم اتخذ مذهب التصوف وانقطع إلى الله تعالى، وتزهد. وسلك على الشيخ دفع الله وأرشده. واجتمع بالسيد الخضر وأخذ عليه.
… لا يقبل الهدية. ولا له جاه ولا شفاعة عند السلطنة ولا له حرفة من زراعة وتجارة ولا يكتب الحُجُب كعادة الاولياء….
ثم انه امر حيرانه بالسفر الى الحج ولزيارة قبره عليه الصلاة والسلام فقامت معه سبعين منطقة. وهو راكب حمار وزوجته الحاجة على حمار وعناقريبهما الاثنين شايلنهن الفقرا على رءوسهم لا زاد ولا ما معهم. وطلعوا من عيدي ولد عشيب بالنهار صايمين وباليل ينزلوا عربانا يفطرونهم. وهكذا الى ان وصلوا سواكن. لا يدرى هل من باب الكرامة او انهم في زمن العمارة. ثم لما وصل في مكة قال: انا المهدي. فضربوه هو وحيرانه. قالت الحاجة ساقونا حبسونا، ثم طلقَّونا. فيها رجل شريف اسمه السيد محمد خليل معتقدا في الشيخ جاب للفقرا ثلاثة غراير دقيق. قال له الشيخ: يا سيدي امتعتك ارفعها فوق جبيل أبو قُبيَسْ، مكة ينزل عليها الطوفان. فاصابهم مطر حزم البيوت وهدم بعضها، يعرف في ذلك الوقت بمطر البري. فأرسل حواره وقال له امشى في سنار قول المهدي نزل. فامر المك بادى أبو دقن يقتله وجره. فارتعدت السماء وابرقت، واصابهم مطر شديد هدم البيوت، وسالت السيول في غير الوقت. وخور ام خنيجر الموجود مجر جنازة ميرف. وفي تلك الأيام قُتل الملك، ضربه المكادى بحربة. فقال الشيخ حمد في المشرق: انا اخو بادى اب آيا، تاَرَك يا ميرف ولدي.
ثم قال لأصحابه: أنا سيدي رفع لي الطبق واوراني التِّحْتُه سافراكم الى بلدنا المضوى يضوى في بلده. فقدم البلد قال: هذا مكان خلوتي وهذا مكان قبري، وتكلم بالمغيبات وبما يكون في العالم وما سيكون.”
وقفة مع المرويّات في ترجمة ود الترابي:
هذه بعض الملاحظات على المرويّات التي رواها ود ضيف الله في إطار ترجمته للشيخ حمد ود الترابي:
- لقد وَهِم المؤلف في إيراد الاسم الصحيح لوالد المترجم له، حيث ذكر “(79) حمد النّحْلان بن محمد البديري المشهور بابن الترابي..”، والثابت المشهور والمتداول حسب شجرة النسب عند أحفاد الشيخ أنه حمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حمد بن عبد الله الخمال*(* الطبقات ص128 “…وقيل سافر على تقلي وسلك فيها عبد الله الحمال جد الشيخ حمد ولد الترابي مع جماعة..”).
- كما وَهِم ثانياً وقد يكون تصحيفا في ذكر أسماء أولاده، حيث ذكر ص166 “…وأولاده الثلاثة، نعمان والهميم ورقية..” والصحيح أنهم النعيم ورقية ولقمان!
- ووَهِم ثالثاً في تاريخ واقعة ادعاء المهدية، فقد روى ود ضيف الله أنها حدثت في عهد بادي أبو دقن، والمك بادي توفي عام 1088هـ (1677م) وعمر الشيخ حمد حينها 33 عاماً فهو من مواليد 1053هـ (ص99 كتاب حمد النحلان ود الترابي) وحسب مخطوطة كاتب الشونة فإن ذلك حدث في عهد الملك بادي الأحمر، حيث جاء في ص39-40:” ثم ملك بعده ابنه بادي الأحمر… وهو الذي ظهرت في زمنه كرامات الوالي الصالح الشيخ حمد ولد الترابي، قيل: أنه بمكة المشرفة أرسل تلميذه ميرف، وقال له قل: المهدي نزل؛ فجاء في مدة الملك المذكور وفعل ما أمر به شيخه، فقبضه الملك وقتله فأنزل الله عليهم مطرا شديدا من غير أوانه، وجرت السيول وانهدمت البيوت، وظهر من أثر المطر خور أم خنيجر المعروف الآن لأنهم جروا فيه جنازة ميرف وأرادوا به مثلته، فأرسل الله تلك الأمطار فحالت بينهم وبينه، ومنه كرامته المشهورة مع ولد التهامي والمقادير ومن معهم من الحراب، فظهرت فيهم خوارق العادات حتى إن المك المذكور ارسل إليهم وحبسهم أن لا يدخلوا سنار إلا بعد أن يأخذ الشيخ منهم حقه، فمنهم من مات في البلادات من البرد ومنهم من حاض كالنساء، وأما ولد التهامي فمات ولم يوجد له رأس.
ثم أرسل الشيخ إلى المك وقال له: قل لولد أودية عصرتني حتى وضعت السر في شراريب المريسة، والله إن لم ترجع لأكسرن رأسك بسر الله. وملك المذكور لغاية سنة 1127 (1715) فمدته 27 سنة”.
وود ضيف الله نفسه يورد في الترجمة اسم المك بادي الأحمر:( فقال الشيخ حمد في المشرق: انا اخو بادى اب آيا، تاَرَك يا ميرف ولدي.)!!!
- كما وَهِم رابعاً في الترجمة (258) للشيخ نَنَّة بن الترابي، شقيق الشيخ حمد، فقد حسب أن (نَنَّة) هو اسم علم للشيخ، والصحيح أنه لقب له مثل ساير الألقاب التي أوردها للكثيرين ممن ترجم لهم واسمه الصحيح هو (محمد)، وهذا الوهم قاد الدكتور يوسف فضل ليعلق في الهامش ص 365 قائلا:” والاسم غير عربي ولا يعرف حفدته تفسيرا له”.
وسبب تسميته كما أورده الخليفة الدكتور الشيخ أبو عاقلة الترابي في صفحة 209 من كتاب حمد النحلان ود الترابي:” وسبب تسميته ب(ننه) أنه كان من رجال الضحوة [الضحوي] (الذكر) عند الشيخ دفع الله المصوبن، وكل الذين في الضحوة قد سقطوا عدا ننه ومعه-آخر- وكان الشيخ محمد يصدر صوت الأنين وهو قمة التجلي في ذكر الله، سأل عنه الشيخ دفع الله فقالوا له هو ذاك الذي يئن فصار لقبه وأصبح الشيخ ننه”.
- باتت ترجمة ود الترابي وبرغم ما شابها من أوهامٍ حقيقة تاريخية سليمة يستدل بها عند التأريخ لفكرة المهدي ومن ادعاها في التاريخ الاسلامي:
- فقد استند الشاطر البصيلي على ما جاء في هذه الترجمة واستدل بها مرتين ففي صفحة 57 كتب:” (وهناك حادثة أخرى حدثت في النصف الثامن من القرن السابع عشر الميلادي وذلك عندما ذهب الشيخ حمد النحلان ابن محمد البديري المشهور “بود الترابي” إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج وهناك في مكة نادى بنفسه “المهدي المنتظر” فمسك الحجاج بتلابيبه وأوسعوه ضربا وحبس من صحبه ثم أطلق سراحه. وقد أرسل هذا الشيخ تلميذه “ميرف” إلى سنار لاعلان دعوته بأنه “المهدي المنتظر” فأمر الملك بادى أبو دقن بقتله وهكذا قضى على هذه الدعوة. ولما عاد الشيخ محمد النحلان إلى السودان كان قد تخلى عن دعوته وكرس حياته في العبادة.) وأشار في الهامش إلى أنه مرجعه هو كتاب الطبقات ص 60.
- وقد أشار المؤلف مرة أخرى للقصة في صفحة 82 عند حديثه عن الأحداث التي وقعت في عصر السلطان بادي أبو دقن.
- كما ظلت تردد في كتابات السودانيين بحسبانها واقعة ثابتة وفقاً لما ورد في الطبقات، فمثلا دكتور حسن مكي في كتابه الثقافة السنارية: المغزى والتحدي يؤكده?
كتاب الطبقات لود ضيف الله مؤلفه هو الشيطان وهو اس كل بلاء ضرب السودان فقد أسهم بقدر كبير في نشر الطرق الصوفية والشرك بالله وكل من تقع فى يده نسخة من كتاب الطبقات عليه ان بحرقه وتبقى المصيبة فى النسخ التى على الإنترنت فنسأل الله تعالى ان يزيلها
دراسة ممتعة من كاتب المقال و ظاهر المجهود المبذول