فرنسا هل ستضع النهاية لأكثر من نصف قرن من الوجود الدبلوماسي في السودان؟

المعز الحسن
في 14 يونيو الماضي نظمت وزيرة الخارجية الفرنسية “كاترين كولونا” حفل عشاء بوزارة الخارجية لتكريم المسؤولين من وزارات الخارجية والداخلية والدفاع الفرنسية الذين شاركوا في عملية إجلاء الرعايا الفرنسيين من السودان بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي.
العملية التي أطلقت عليها الحكومة الفرنسية اسم “ساجيتير” وشارك فيها حوالى 150 جندي من القوات الفرنسية الخاصة، كانت الأكبر من بين عمليات الإجلاء التي قامت بها الدول المختلفة لرعاياها في السودان وقام خلالها الجيش الفرنسي، عبر جسر جوي بين قاعدة وادي سيدنا الجوية في أمدرمان وجيبوتي وعبر ميناء بورتسودان و تشاد بإجلاء ما يقارب الألف شخص منهم حوالى مائتي مواطن فرنسي والبقية يتبعون لسبعين جنسية مختلفة.
تزامن ذلك الإجلاء مع إعلان وزارة الخارجية الفرنسية، في 24 أبريل، عن إغلاق السفارة الفرنسية في الخرطوم لأجل غير مسمى وهو الشيء الذي فعلته الكثير من السفارات. لكن يبدو أن إغلاق البعثة الفرنسية في السودان سيكون بشكل دائم. وبالرغم من عدم صدور قرار رسمي حول ذلك، إلا أن التسريبات الواردة من الخارجية الفرنسية تشير لأن الحكومة الفرنسية لن تعيد سفارتها في السودان على الأقل خلال السنوات القادمة حتى في حالة توقف الحرب واستقرار الوضع. وفي نهاية شهر يوليو الماضي أعلنت السفارة الفرنسية كل العاملين لديها من السودانيين بإنهاء عقود خدمتهم ودفع حقوق نهاية الخدمة.
وفي الحقيقة فإن هذا التوجه، إن صح، فإنه ناتج في المقام الأول عن تقديرات المصلحة الاستراتيجية والاقتصادية الفرنسية في السودان. رغم أن السودان يقع على الحدود الشرقية مباشرة لمنطقة أفريقيا الفرانكفونية متشاركاً في حدوده مع اثنتين منهما، إلا أن تطورات الأحداث السياسية في هذا الإقليم وتمدد النفوذ الروسي والصيني في دوله على حساب النفوذ الفرنسي يضطر فرنسا للتركيز على الدفاع عن مصالحها من داخل البيت الفرانكفوني وذلك يجعل العلاقات مع السودان تتراجع في سلم أولوياتها.
وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فرغم أن لفرنسا تاريخ قديم ومهم في مجال التعاون الاقتصادي مع السودان، إلا أن هذا التعاون تراجع كثيراً خلال العشرين عاماً الماضية.
العلاقات الاقتصادية بين السودان وفرنسا تعود إلى حقبة الستينات بفضل تجارة الصمغ العربي السوداني حيث أن فرنسا هي المستورد الأول لهذه السلعة إلى يومنا هذا. ووصلت هذه العلاقات ذروتها خلال ثورة صناعة السكر في السبعينات وبداية الثمانينات في تلك الحقبة ساهمت شركات فرنسية مهمة في بناء أكبر مصانع السكر في السودان، بما في ذلك مصنع سكر كنانة، مثل شركتي سي أم دي CMD المتخصصة في صناعة علب التروس العملاقة وشركة إف سي بي FCB المتخصصة في صناعة مطاحن قصب السكر. إن مطاحن قصب السكر التي تدور الآن في مصنع سكر كنانة هي نفس تلك التي قامت بتركيبها شركة إف سي بي في بداية الثمانينات وظلت تعمل بكفاءة إلى اليوم. وتشتهر فرنسا بخبرتها العالمية في مجال تكنلوجيا صناعة السكر ولها شركات كبيرة متخصصة في بناء مصانع السكر. يعود السبب في ذلك لأن السكر يعتبر العمود الفقري لاقتصاد معظم مقاطعات ما راء البحار الفرنسية مثل قوادالوب، والمارتينيك وريونيون. ويستغرب الكثيرون من حقيقة أن فرنسا هي أكبر دائن للسودان من بين دول نادي باريس. في الحقيقة السبب في ذلك يعود لأن السودان حصل على عدة قروض خلال تلك الفترة من فرنسا، معظمها كان لتمويل بناء مصانع السكر ومشاريع تنموية أخرى. يبلغ أصل تلك القروض ما يقارب المليون دولار ولكن هذا المبلغ تضاعف بفعل تراكم الفوائد ليصل لحوالي خمسة مليار دولار في الوقت الحاضر.
ولفرنسا أيضاً دور رائد في بدء الاستغلال التجاري لمعدن الذهب في السودان إذ كانت هيئة الأبحاث الجيوليوجية الفرنسية، BRGM، هي من وضع حجر الأساس لصناعة تعدين الذهب في بداية الثمانينات في حقل هساي وأسست بالشراكة مع حكومة السودان شركة أرياب للتعدين في نهاية الثمانينات.
إلا أن هذا التعاون الاقتصادي لم يتطور كثيراً خلال السنوات التالية نسبة لتدهور الوضع الاقتصادي والأمني في السودان خلال حقبة التسعينات وعجز السودان عن سداد القروض الفرنسية، بالإضافة لأن لوائح نادي باريس تلزم الدول الأعضاء بعدم تقديم أي قروض للدول التي تتوقف عن سداد ما عليها من ديون. اقتصر التمويل الفرنسي بعد ذلك على تقديم بعض المنح المحدودة التي خصصت للدعم الفني في مختلف المجالات مثل الكهرباء والغابات والإنتاج الزراعي والحيواني والقطاع المصرفي. وفي الوقت الحاضر فإن التبادل التجاري بين فرنسا والسودان يعتبر ضئيلاً جداً وتتراوح قيمته بين 100 إلى 150 مليون دولار. الصادرات السودانية تتكون بصورة أساسية من الصمغ العربي بما قيمته حوالي 50 مليون دولار سنوياً في المتوسط. أما الواردات الفرنسية فهي تتكون من الأدوية والكيماويات بالإضافة للآليات الصناعية والزراعية وبعض المنتجات المصنعة.
وقد حملت ثورة 19 ديسمبر2019 آمالاً كبيرة فيما يتعلق بانتعاش العلاقات الفرنسية السودانية حيث كانت فرنسا من أكثر الدول التي دعمت حكومة حمدوك سياسياً واقتصادياً وقامت في مايو 2021 باستضافة مؤتمر اقتصادي دولي من أجل الترويج للاستثمار في السودان.
وفي أكتوبر 2021، قبل أيام من انقلاب البرهان على السلطة الانتقالية، كانت السفارة الفرنسية بالخرطوم تستعد للترتيب لزيارة وزير التجارة الفرنسية للسودان بصحبة وفد كبير من اتحاد الشركات الفرنسي MEDEF. الغرض من تلك الزيارة، كان تشجيع الشركات الفرنسية على الاستثمار في السودان وخلق علاقات بين اتحاد الشركات الفرنسية واتحاد أصحاب العمل السوداني. في نفس الوقت كانت الحكومة الفرنسية ترتب للتوقيع رسمياً على اتفاقية إلغاء الدين الفرنسي على السودان والبالغ حوالي 5 مليار دولار، كما ذكرنا سابقاً، في نوفمبر من نفس العام وفقاً لما أعلنه الرئيس ماكرون خلال المؤتمر الاقتصادي في مايو. كان ذلك الإعفاء في إطار مبادرة الهيبيك لإعفاء ديون السودان.
وما لبثت أن أتت رياح الخامس والعشرين من أكتوبر بما لا يشتهي أنصار الانتقال الديمقراطي في السودان. بسبب الانقلاب ألغيت زيارة الوزير الفرنسي وتم تأجيل التوقيع على اتفاقية إلغاء الديون حتى إشعار آخر.
لم تكن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي قررت تجميد علاقات التعاون مع السودان بل فعلت ذلك معظم الدول المانحة والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
كان صندوق النقد الدولي قد أجاز في يونيو 2021 تقرير برنامج مراجعة الأداء الاقتصادي في السودان والذي أوصى بمنح السودان تمويل متوسط الأجل بمبلغ 2.5 مليار دولار على مدى 39 شهر. تم تجميد التنفيذ عقب الانقلاب.
قام البنك الدولي أيضاً بتجميد برنامج الإنعاش الاقتصادي ودعم الأسر الفقيرة في السودان المعروف ب “ثمرات” والذي يتضمن مجموعة منح بقيمة 2 مليار دولار خلال الفترة من 2021 و 2023.
في نفس يوم الخامس والعشرين من أكتوبر، أمرت الحكومة الأمريكية يإيقاف تحميل السفن التي كانت تستعد لنقل القمح للسودان وفقاً لمنحة مقدمة من الحكومة الأمريكية مقدارها 1.6 مليون طن من القمح على مدى أربع سنوات (استهلاك السودان من القمح يبلغ حوالي 3 مليون طن سنوياً).
إذا كان انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر قد قضى على أحلام السودانيين في مشروع الانتقال الديمقراطي وجعل المجتمع الدولي والمانحين يتراجعون عن وعودهم في دعم السودان، فإن أسوأ ما في الحرب الدائرة الآن هو أنها قضت تماماً على ما تبقى من ثقة لدى المجتمع الدولي في حدوث استقرار في هذا البلد على الأقل في المدى القصير وسيكون من العسير جداً استعادة هذه الثقة حتى في حالة توقف الحرب واستتباب الأمن. فهل نحن على أعتاب حقبة جديدة من العزلة الدولية؟