الأزمة سياسية والحل سياسي. *الحلقة الخامسة

كما ذكرنا في الحلقات السابقة، التي نشرت الرابعة منها في الراكوبة في منتصف مايو الماضي، أن ما يمر به السودان، منذالإستقلال وحتي يومنا هذا، هو أزمة سياسية تفاقمت إلي مستوي سحيق وغير مسبوق بالحرب المدمرة الحالية. لا يختلف اثنان في أننا في السودان قد فشلنا فشلاً ذريعاً في إدارة خلافاتنا السياسية. كما أننا لم نتوافق حتي اليوم علي الحد الادني المطلوب لمشروع البناء الوطني، الذي يصاغ في دستور دائم للبلاد. وليس هناك أدني شك في أن الحكومات التي جثمت علي صدر شعبنا، عسكرية كانت أم حزبية، لم يك من أولوياتها إدارة إقتصاد يهدف الي تنمية مستدامة تحقق رفاه الناس في السودان، الذي لا تنقصه الموارد اللازمة. وهنا لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن من انتفع خلال السبعة عقود الماضية، هم قلة أدمنت الثراء بكل السبل، علي حساب الاكثرية المنتجة سواء في الريف ام الحضر.
ليس صحيحاً كما جاء في “رؤية الدعم السريع” التي تم طرحها مؤخراً بأن الفشل الذي لازم البلاد هو بقاء أو استمرار “دولة 56”! هذا المصطلح المقصود به “دولة الشريط النيلي”، أي سيطرة أهل الشريط النيلي علي حكم البلاد! هذا بلا شك ضعف نظر أو انعدام رؤية من قبل الذين صاغوا وثيقة “رؤية الدعم السريع” التي لم يحالفها الصواب. لدحض هذة الفرية، نذكر بأن أغلب نواب البرلمان خلال فترات الديمقراطية، القصيرة، (1956-1958)، (1965- 1969)، (1986-1989)، خلال هذة الفترات، كانوا نواب حزب الامة، الشعب الديمقراطي والحزب الاتحادي الديمقراطي لاحقاً، من دوائر الولاء الطائفي في غرب وشرق وبعض مناطق شمال السودان، ولم يكونوا في غالبيتهم من الشريط النيلي. أما خلال أطول فترة دكتاتورية (1989- 2019)، فقد كانت فترة قهر للأغلبية العظمي من السكان، سواء علي الشريط النيلي أو في المناطق الاخري من البلاد. إضافة إلي ذلك، شاركت مليشيا الجنجويد، ولاحقاً الدعم السريع، شاركت في أكبر قهر وتنكيل بسكان دارفور وشباب ساحة القيادة العامة “ساحة الاعتصام”!
إن أزمة السودان، أزمة سياسية وتفسيرها سياسي كما اسلفنا في الحلقات الماضية، ولا يمكن تفسيرها بطريقة مختزلة علي أسس مناطقيه أو جهوية أو اثنية. هي أزمة سياسية معقدة ذات طابع وجذور اجتماعية، اقتصادية، طبقية ..مستمدة من الحقبة الاستعمارية التي افرزت الهوة بين القطاعين الحضري الحديث والريفي القليدي. ولأن غرض الاستعمار البرطاني كان مركزاً في مشروعات انتاج القطن لتزويد صناعات النسيج في لانكشير بانجلترا، وما صاحب ذلك من مد لخطوط السكة الحديدية تجاه البحر الاحمر، واقامة نظام تعليم محدود لانتاج الكادر الاداري المطلوب، نشأ قطاع حديث في وسط البلاد علي حساب بقية المناطق ليس فقط في الغرب وانما في الشرق والشمال والجنوب. لذلك، يمكن القول بأن مفهوم الشريط النيلي هنا او دولة 56 يفتقر للدقة والواقعية. وهذا شأن شائك بعيد عن الرؤية الفطيرة المطروحة من قبل المنظرين المستجدين المنتمين إلي جهوية وإثنية الدعم السريع.
من الناحية الأخري، برز إلي السطح، مرة أخري وهم التشبث بالسلطة من قبل جماعة الاخوان المسلمين مدعومة بالنفعيين التقليديين والجدد. نسميه “وهم” ليقيننا بأن جذوة ثورة ديسمبر المجيدة ما زالت متقدة. ولأن ذاكرة شعب السودان ما زالت قويةً؛ لان ما تم من قمع للشعب ونهب للموارد والثروات خلال حقبة الثلاثين عاماً من حكم الأخوان المسلمين، لم يك مسبوقاً، طيلة الفترة التي تلت الاستقلال. هذة الإنتهاكات وهذا النهب والفساد لا يمكن مواراته بتأجيج الحرب وضرب طبولها باسم مساندة القوات المسلحة ضد المليشيا التي خلقوها بأنفسهم. والطامة الكبري، انهم يؤججون الحرب رغم معاناة الشعب غير المحدودة. رغم انعدام الغذاء والدواء والمأوي. رغم الموت والمسغبة التي تحيق بأغلبية السكان العزل في العاصمة وغربي البلاد ، حيث القتل الجماعي والإغتصاب مما أدي إلي إجبار الملايين علي النزوح واللجوء.
يتبع
د. الحسن النذير
مقال يؤسس لفهم طبيعه المشكلة والصراع