عسكر السودان وسُعار السلطة !

فضيلي جمّاع – الخرطوم
(مضى عامان على كتابة ورفع هذا المقال في المواقع الإليكترونية السودانية. ما جاء في هذا المقال لم يكن نبوءة. بل هو محاولة متواضعة لقراءة عقلية عسكر السودان الذين جعلهم سعار السلطة يحوّلون نهار السودان إلى ليل، في حرب وصفها جنرالاتهم بأنها حرب عبثية!!
المؤسف أنهم ما فتئوا يمارسون مسرح العبث على جثث شعبنا. من الغباء أن أنسب الوطنية لجيش لم يمارس طيلة 68 عاماً سوى الحرب على شعوبه ومواطنيه. ثم إنني ضد الحرب أياً كانت أسبابها، لأن هدفها الأساس هو القتل والإغتصاب وتشريد المواطنين الآمنين. )
================
يؤمن كاتب هذه السطور – مثل سودانيين كثر – بقيام دولة مدنية ديموقراطية ، يساوي دستورها بين المواطنين من كل حدب وصوب. ولن يحدث هذا إن لم تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأعراق والثقافات والمعتقدات والإنتماء العشائري والجهوي. إضافة إلى توظيف الدولة لهذا التباين توظيفاً عادلاً وجيداً يسهم في رتق النسيج الإجتماعي بانسجام يخدم وحدة البلد التي هي الضمان الوحيد للإستقرار والتنمية – قطارنا الذي نعبر به ركام التخلف إلى مرافيء العصر الجديد.
ويؤمن كاتب هذه السطور مثل الكثيرين من أبناء وبنات السودان، أنّ هذا الحلم ممكن التحقيق. لكنه طبعاً لن يتحقق بالأمنيات العذاب ، ولا بجلد الذات ونبش أخطائنا كلما تعثّرنا . أو كلما قام ضابط مغامر أو شلة عسكريين باستلام مقاليد السلطة بقوة السلاح عذرهم في أمرين إثنين:
أولهما مبرر أن الوضع الإقتصادي تردّى ولابد من إصلاحه (وكأنهم حفدة آدم سميث أو كارل ماركس في دراسة معضلات المجتمع عبر ظاهرة الإقتصاد ونمو المجتمعات)!
والأمر الثاني: أنّ البلد يعيش حالة من الفوضى وانفراط الأمن. ولابد للجيش من أن يستلم السلطة ويحفظ أمن البلاد والدستور.
ثلاثٌ وخمسون سنةً هي جملة سنوات حكم العسكر من مجموع سنوات الإستقلال الخمس والستين. وحين تسألهم (أعني العسكر) عن هذا السعار للسلطة ، يقولون بأن الأحزاب السودانية هي التي سلمتهم السلطة بعد أن فشلت في إدارة الدولة (عذر أقبح من الذنب)!!
سأكون أكثر صراحة وأنا أكتب هذا المقال – صراحة لا تخلو من كشف الحساب المر. خرج علينا ضباط عسكريون كثيرون في مناسبات كثيرة وبنبرة فيها من التعالي والمباهاة الجوفاء ما نعجب له غاية العجب ، وذلك حين يقولون بأن القوات المسلحة ضحّت في سبيل البلاد ما ضحت. وأنها دفعت في ميادين الوغى آلاف الشهداء. ويذهب أحدهم (عسكري انقلابي) في تسريب صوتي من عام 2019 بأنهم خاضوا الحروب من أجل الوطن في الجنوب وفي دار فور. لم يذكر الضابط الإنقلابي ميدانين آخرين خاض جيش السودان فيهما حرباً ضروساً ولسنوات: جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق!!
نسيت ذاكرة هذا الضابط أن جميع حروبه التي يتباهى بخوض الجيش السوداني لها إنما هي حروب ضد مواطنيه السودانيين. أتحدى أكبر رتبة في الجيش السوداني منذ أن نلنا استقلالنا من المستعمر في 19 ديسمبر 1955 – والذي أعلنته حكومة مدنية جاءت عن طريق الإنتخاب الحر في الأول من يناير عام 1956 – أن يسمّي لي معركة واحدة خاضها الجيش السوداني ضد عدو أجنبي – وما أكثر سنوات الحسرة على أراضٍ سودانية محتلة حتى يومنا هذا – وهي أراضينا حسب خارطة أطلس العالم، لا يقع الغلاط حولها بين إثنين !! لكن عسكر السودان لا يعرف رصاصهم الأجنبي المحتل، إنما يعرف كيف يخترق صدور مواطنيه !!
هل أضرب مثلاً للضابط الإنقلابي ومن هم على شاكلته بآخر معارك الجيش وأجنحته التي تحت إمرته والتي حشدوا لها ستة آلاف مقاتل في الليلة الأخيرة لشهر رمضان المعظم من العام 2019؟ هل أحتاج لأنعش ذاكرة ضباط الجيش الإنقلابيين بمطر الرصاص الذي حصد أبناءنا وبناتنا وهم يعتصمون أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في أجمل وأرقى ألوان التعبير السلمي الحضاري مطالبين بقيام الدولة المدنية الديموقراطية – دولة العصر؟
حدث في تلك الليلة قتل وسحل واغتصاب لحرائرنا أمام مبنى القيادة العامة، والجيش يخوّل لأجنحته التي تحت إمرته (الدعم السريع وأجهزة الأمن بمختلف مسمياتها وكتائب الإسلامويين المسلحة داخل الجيش) يخوّل لها ، استخدام آلة الموت ضد من افترشوا الأرض أمام بوابته من أبنائنا وبناتنا – ظناً منهم أنّ هذا الجيش هو جيشنا ، ودرعنا.. وإن خضع عبر ثلاثين سنة لاستخدام الأخوان المسلمين له مطية لتقسيم البلاد وسرقة مواردها وإبادة مئات الآلاف من إخوتنا وأخواتنا وأمهاتنا في الجنوب (سابقاً) وفي دار فور وفي جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق وفي الشرق.
نقول رغم ذلك إنه جيشنا .. فليس من عاقل يعطي قفاه لجيش بلاده. وليس من عاقل يرفع بطاقة التخوين في جملة العسكريين من طرف. هنالك ضباط وصف ضباط وجنود كثيرون تجري محبة هذا الوطن في عروقهم. وليس اكثر دلالة من حامد الجامد وآخرين من أشراف جيشنا ممن تصدوا لكتائب أمن النظام المباد وهي تمطر المعتصمين بالرصاص في بداية الإعتصام الشهير أمام بوابات القوات المسلحة. لكن رغم ذلك أبت شهوة سعار السلطة إلا أن تعمي من هم على رأس الهرم العسكري.. وتعلن “أم المعارك ” على أبنائنا وبناتنا العزل – في مجزرة ستظل وصمة عار على العقيدة العسكرية السودانية ما عاش هذا البلد الذي قهر كل الغزاة!
قلت في رأس هذا المقال بأني قصدت الصراحة المرة. ولأني- غصباً عني كمواطن يحرص على إكمال هذه المرحلة الإنتقالية آملاً في قيام النظام الديموقراطي وبناء مؤسساته الدستورية – لابد لي من قبول الشراكة مع العسكر ، تلك الشراكة التي فرضها واقع خارج عن إرادة الكثيرين. ولأن السياسة هي فعل الممكن ، فإن كاتب هذه السطور وملايين السودانيين رضوا بالشراكة لحكومة الفترة الإنتقالية.. لكن أعيننا وأعين أبنائنا وبناتنا التي صنعت المستحيل في إحدى أروع ثورات العصر – ستظل صاحية مثلما حدث في فجر يوم 21 سبتمبر حين شهدنا مسرحية إنقلابية سيئة السيناريو والإخراج !
كل شيء جائز الحدوث في السودان – بما في ذلك بيضة الديك أو أن يطير النعام. لكنّ انقلاباً يعيد عجلة هذه البلاد إلى الوراء ويفرض علينا حكماً شمولياً أياً كانت مبرراته وشكله – هو سابع المستحيلات. ومن يكذبني فليختبر وعي الشعب السوداني، والشارع الذي يحرسه شباب قلبوا الطاولة بصدور عارية على آلة الموت التي عجز سدنة النظام المباد أن يوقفوا بها نهر التاريخ من جريانه إلى الأمام !!
عشية 21 سبتمبر 2021
[email protected]
يا فضيل جماع ما هكذا تورد الأبل؟
اذكر لنا دولة واحدة في كل هذا العالم الفسيح (وقفت على مسافة واحدة من دين الأغلبية وأديان الأقليات في بلدها) ولم تتبع دين أغلبية سكانها في تشريعاتها وقوانينها وقضائها واحوالها الشخصية وفي تحليلها وتحريمها وتربية وتعليم ناشئتها وفي منظومة قيمها وثوابتها وعاداتها وتقاليدها؟
هي وجدتَ ذلك في الهند أم في بورما أم في امريكا أم في بريطانيا أم في روسيا أم الصين؟
لن تجد دولةً واحدة في العالم كله لتستشهد بها في هذه المزعومية المنافية لطبائع المجتمعات البشرية والدول.
أما نحن المسلمون (الذين يوجد بيننا أقلية عالمانية مبتوتة تبغض إسلامها) فتريد لنا يا فضيلي أن نخالف هذا النظام البشري الكوني (ونقف على مسافة واحدة من جميع الأديان) في قوانيننا وتشريعاتنا وقضائنا وأحوالنا الشخصية ومثلنا وعاداتنا وتقاليدنا ونظمنا التعليمية والتربوية، لكي نرضي الأقلية المبتوتة! أين تعلمت هذا يا فضيلي؟
هل الديمقراطية التي تطلقونها وتريدون غيرها تقول أنه يجب على الأغلبية أن تنصاع لشهوات ورغبات وأديان ومعتقدات الأقلية؟
أ) نعم حينما يصل المدنيون بالديمقراطية إلى الدرك الذي يقول فيه مسؤول كبير: “لو سقطت الكرمك يعني شنو ما سقطت باريس!”.
ب) وحين يقاتلنا ويزحف ويحتل مدننا جيشٌ عنصريٌ عقائديٌ أيديولوجيٌ يسمي نفسه (جيش تحرير السودان)، مدعوم من الدول الصليبية والشيوعية معا بلا حدود من أجل (تحرير السودان من عقيدته وعروبة وجدانه ولسانه وخلاسيته وتنوعه العرقي ولغته السائدة)، جيشٌ يقاتلنا بعقيدة شيوعية صليبية كنسية إستبدادية، ويرى مبتوتونا العالمانيون أن ردهم بالسلاح جريمة لا تغتفر (لأنهم سودانيون يطالبون بحقهم عن طريق السلاح) ، وكان ينبغي للجيش السوداني أن يقابلهم بالورود والماء البارد وإدارة الخد الآخر ليضربوه عليه كف، ولا يقابلهم بالسلاح!
ت) وحين يفرط الحكام المدنيون في دعم الجيش السوداني وتوفير معيناته لدرجة أن يقاتلوا عدوهم، المدجج بسلاح الشرق الشيوعي والغرب الكولونيالي الصليبي، حفاةً عراةً وبذخيرة غرلاء (فشنك!).
ث) وحين يصل المدنيون الحاكمون بالديمقراطية إلى الدرك الذي ييئس منها زعيم حزبي كبير ويقول: ” ديمقراطيتكم دي لو شالا كلب مابنقول ليه جر!”.
ج) وحين يوجد من بيننا مسلمون من ذوي الدياثة الدينية يفرون من الإسلام إلى العالمانية ويفضلوا (تفكيك أو تفكك بلدهم طوبة طوبة) إذا كان غالبية سكانها سيقررون، ديمقراطيا، أن يُحكموا بالإسلام لا العلمانية!
حينما يكون حالنا كذلك، يكون مثل هذا المطلب الذي لحمته وسداته الدونية والإستخذاء مطلبا يناسب الحال. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومثلما ترفض الحكمو الشمولي العسكري ونرفضه، نرفض أيضا، وينبغي عليك أن ترفض أيضا الحكم المدني الشمولي المستبد الذي تصل فيه مجموعة من الناس أو الأحزاب أو اليافطات إلى السلطة من غير طريقها المعروف وتقصي الآخرين وتستبد بالسلطة .
فالإستبداد والشمولية ليس حصرا على الكاكي فقط، فاستبداد الجلابية وشموليتها لا تختلف عن إستبداد الكاكي، الإستبداد هو الإستبداد، واستبداد قحط المدني لم يسبق له مثيل في السودان قط.