مقالات سياسية

الحرب الدهشة والصدمة

مولانا عبدالاله عثمان
War, surprise and trauma

حتى وان طال الامد، فهى تبقى فى قيعان العقل الباطنى ، هى الالم المقيم والذكريات القديمة يبنى الزمن رسوبه واطماءه قد يسكن دهرا قليلا ، لكن لا تلبث ان تنكأه الحوادث وتكشفه نوبة الوعى او حالة اللاوعى . نعم هى كذلك ، ربما وقع ذلك لمصطفى سعيد فى تلك الليلة حينما اصر عليه محجوب على البقاء والانضمام اليهم فى مجلس الشُرْب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السكر، طفق ينشد شعراً إنجليزياً بلغةٍ سليمة، من قصيدة انتويرب وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، ماداً رجليه، دافناً قامته في المقعد:

These are the women of Flanders
‏Await the lost
‏Await the lost who never will leave the harbour,
‏They await the lost whom the train never will bring
‏To the embrace of those women with dead faces,
‏They await the lost, who lie dead in the trenches,
‏The barricades and the mud,
‏In the darkness of night,
‏This is Charing Cross Station, the hour past one,
‏There was a faint light,
There was a great pain

هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل،
هذه محطة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،
ثمة ضوء ضئيل،
ثمة ألم عظيم”

هذه ابيات من قصيدة انتويرب يواسي الشاعر نساء فلاندرز بالجبهة الغربية اللائيء كنّ في انتظار عودة الجنود سالمين من جبهة الحرب. إلا أن الجنود الذين فقدوا في الحرب سوف لن يعودوا مرةً أخرى إلى أمهاتهم وزوجاتهم اللائيء ينتظرنهم في خوفٍ وترقب، وبوجوه واجمةٍ كوجوه الموتى، على الأرصفة في تشارنغ كروس بلندن وغيرها من المحطات.

هى الصدمة التى تعتقل الالسن والدهشة التى تقتل الشعور وتعلن ميلاد البلادة وتعيد الانسان القهقرى الى اصوله البدائية ككائن متوحش.

قمة المأساة ان يفقد الانسان انسانيته
قمة المأساة أن يهون الدم الادمى على الادمى
قمة الماساة أن يمارس الانسان القتل بيده كسلوك يومى كأنه يذبح دجاجة دون ان يرمش له جفن
قمة المأساة أن تجمد الكارثة مشاعرنا وتقتل الصدمة قدرتنا على الانفعال وعلى الحزن والبكاء
قمة الماساة ان نعتاد على الجثث الادمية المنتفخة والمهترئة والمتفحمة والمتعفنة دون تهتز لنا شعرة
الحرب هى الماساة الانسانية والتوحش والبربرية والهمجية .

كل ذلك يجرى الان فى الخرطوم وفى غير الخرطوم داخل بلادنا المنكوبة بايدى بعض بنيها والمنهوبة من بعض فلذة أكبادها والمحترقة بسلاح البعض ولا مبالاة الاخرين و بكل تفاصيل الحرب التقليدية التى قراناها فى تاريخ الامم السابقة.

كتب الكثيرون ، وانا واحد منهم، عن مالات الازمة الراهنة والمستقبل والحلول الممكنة ، وكتب آخرون عن المعالجات السياسية للازمة. لكن القليلون تحدثوا عن ويلات الحرب والبعد الانسانى للصراع المتجدد كل يوم فى الخرطوم ودارفور وكردفان.

قليل من تحدث عن المعاناة النفسية للنازحين من بيوتهم لواذا بذوى قرباهم فى الولايات فى داخل السودان. ولا أحد يلقى بالا للآلام المعنوية لمن لجأ الى البلدان المجاورة يلاقى ما يلاقى ويعانى ما يعانى فى المهاجر البعيدة والملاجىء التى قبلت على مضض بوافدين غير مرحب بهم فلا نزلوا أهلًا ولا حللوا سهلًا..
من المعلوم علما والمالوف واقعا بل والمشاهد بالنظر ، فنحن فى هذه الحرب ، رغم البعد ، ضحايا بالملامسة والمشاعر ، فالاسرة والصديق والقريب حسد واحد يتداعى لالم بعضه بالسهر والحمى، ان الحروب تترك اثارا مدمرة ليس على البنى التحتية والمنشات فحسب . الحرب فساد يدمر البيئة ، حريق للمظاهر الحيوية، هلاك لجمال الحياة وتشويه للبشر وتمزيق للنفس والمعنويات . تظل الحكمة دائما لفصل الخطاب ، كلمات الله التامات:
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً * قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
صدق الله العظيم
فالحروب تتسبب في:
خسائر الارواح، فيموت الكثير من الناس بسبب الحروب
الاصابات والعجز بسبب تعرض الافراد لاصابات بالغة وعجز جسدى نتيجة القتال والتعرض للعنف والقنابل والقصف وقد يتعين على الناجين من الحرب مواجهة العجز الدائم وتأثيرات طويلة الامد على صحتهم العقلية والجسدية
تؤدى الحروب الى نزوح السكان وتشريد العديد من الافراد. يفقد الناس منازلهم وممتلكاتهم ويجدون انفسهم فى حاجة الى اللجوء والمساعدة الانسانية الضرورية
تتسبب الحروب فى دمار البنية التحتية والمنشات الاقتصادية مما يؤدى الى تدهور الاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة والفقر
يعانى الاشخاص الذين يشهدون الحروب من تاثيرات نفسية خطيرة بما فى ذلك الصدمة والقلق والاكتئاب واضطرابات اجهاد ما بعد الصدمة . وهذه الاثار يمكن ان تستمر لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب

يترتب على الحروب تدمير الثقة والتوتر الاجتماعى بين الافراد والمجتمعات . قد يتفاقم التمييز وتظهر التوترات الدينية والثقافية والاجتماعية مما يؤدى لانقسامات وصراعات مستمرة
تتسبب الحروب فى تدمير الحياة الانسانية والتراث الثقافى والاقتصادى وتعيق التنمية المستدامة والسلام فى المجتمعات المتاثرة
كتب جيمس ناشتوى فى مؤلفه “الجحيم ماسى الحرب”:

“من الذي يملك القدرة على النظر في وجه طفل يموت جوعاً أو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب أو تحت نعال العسكر؟ من الذي يملك القدرة على نبش تلال من العظام البشرية من المقابر الجماعية، التي لا يكاد مكان في العالم يخلو منها؟ من الذي يستطيع أن يسمع صرخات العذارى والأمهات وهن يتعرضن لأبشع ما يمكن تصوره من الإذلال تحت تهديد الحربة وفوهة البندقية؟ ليست هناك حرب في العالم لم ترتكب فيها مجازر تقشعر لهولها الأبدان”
المؤسف أن التطور العلمى المذهل والطفرة التكنولوجية غير المسبوقة شهدها ويشهدها العالم فى الربع الاول من هذا القرن ، تزامن مع عودة همجية غير مسبوقة لابشع الحروب تستخدم انواع من الاسلحة الفتاكة لم تشهد لها البشرية مثيلا من الماسى والبشاعة التى فاقت كل خيال.

“وليست الحروب وحدها (والحديث لنفس الكاتب) هي التي تصنع تلك المآسي، بل النتائج الوخيمة التي تنجم عنها، وعلى رأسها الأمراض والمجاعات. فهذه وحدها التهمت من الأرواح البشرية ما يستحيل إحصاؤه. وعندما يشاهد المرء تلك المآسي والمجازر بأم عينه، فمن الطبيعي أن يتحول من مجرد مصور حربي إلى مصور ناشط ضد الحرب.”

ما يجرى فى بلادنا من الماسى منذ الخامس عشر من أبريل 2023 ، امر محزن ، ومحرج فى ذات الوقت للامة السودانية باجمعها التى عُرِفَتْ بين كل الشعوب بالتسامح والتالف والسلام ، لذلك ظل السودانيون محل احترام وتقدير كل الشعوب فى افريقيا والشرق الاوسط على وجه الخصوص وبين سائر شعوب العالم عموماً. كما أن الواجب يفرض علينا فرض عين وليس فرض كفاية التمسك بترابنا الوطنى والمحافظة على نسيجنا الاجتماعى وحماية ارثنا الثقافى ، ومن ثم مضاعفة الجهود لوقف هذه الحرب عاجلا وليس اجلا ، الان وليس قريبا.

كما نلاحظ ان الطرفين المتقاتلين ، وهما (على الاقل من الناحية النظرية ودون الدخول فى تفاصيل) يمثلان المؤسسة العسكرية السودانية منذ عام 2013 ، ونحن لا نتجنى على أحد ولا ننحاز الى فئة بهذا القول ، بل هى حقيقة سياسية (موضوعية كانت أم غير ذلك ) يؤيدها الواقع ويؤكدها القانون وتدعمها اقرارات قادة القوات المسلحة المعززة بافادات وتصريحات قائد قوات الدعم السريع ذاتها ونائبه .

لا مجال للغلاط والجدل فى مسالة هى من قبيل العلم القضائي matter of judicial notice فى ميزان قانون الاثبات (بمعنى انها واقعة لا تحتاج الى اثبات fact needs no proof ) وفى ساحة الحقيقة ، أنكر من أنكر وتنمر من تنمر وارغى وأزبد وأنذر. يجب الا يغيب عن ناظرينا المسؤلية التاريخية والسياسية والاخلاقية لنظام المؤتمر الوطنى الواجهة السياسية لتنظيم الاخوان المسلمين فى السودان ورأس نظامهم المعزول عمر حسن احمد البشير والمجلس العسكرى الانتقالى المنشا فى يوم 11 ابريل 2019 بقيادة الفريق عوض ابن عوف ثم برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان ثم سلطة انقلاب 25 اكتوبر 2021 بزعامة نفس الشخص بمعاونة المكون العسكرى المشترك بين قيادة قوات الدعم السريع وقيادة الجيش السودانى الحالية عن ايجاد هذه القوات ضمن مكونات القوات المسلحة السودانية وعن التغطية السياسية والاعلامية وشرعنة وجودها فى الحياة السياسية فى بلادنا بالادوات القانونية والدستورية والتستر على جرائمها فى دارفور منذ انشائها ، ثم استخدامها فى قمع انتفاضة سبتمبر 2013 وفض اعتصام السادس من ابريل فى الثالث من يونيو 2019 ، لذلك لن تجدى كل الانكارات والحجج والصراخ الحالى والتى تستهدف رمى بعض القوى السياسية التى ظهرت على المسرح السياسى بعد ثورة ديسمبر المجيدة بفرية الاحتضان السياسى لقوات الدعم السريع التى انشأها النظام البائد كماليشيا قبلية التكوين وقبلية القيادة لتنفيذ خططه العسكرية للتخلص من التمرد العسكرى بدارفور، اى لضرب قبائل الاقليم ببعضها البعض .

ولصلة الماضى flashback (رغم ان ذلك ليس الموضوع الاساسى للمقال) نشير بعجالة الى الpanorama المرتبطة بنشأة قوات الدعم السريع RSF والتى جعلت لها وجودا قانونيا وسياسيا فى المشهد السوداني.

نشرت جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 16 يناير 2017 الموافق 18 ربيع الثانى 1438 مقالا تناول اجازة قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017، وجاء فى النشرة التى بثتها الصحيفة الواسعة الانتشار:
‎”أجاز البرلمان السوداني مشروع قانون «قوات الدعم السريع» المثيرة للجدل، وهو قانون يجعل من تلك القوات تابعة للجيش السوداني بعد أن كانت تتبع لجهاز الأمن والمخابرات.
‎وصادق البرلمان أمس على مشروع القانون المقدم من مجلس الوزراء بإجماع نوابه البالغين 426 عضوًا، وحضر الاقتراع وزير الدفاع عوض بن عوف، ونص القانون الذي أجيز على أن تلك القوات «تتبع للقوات المسلحة وتأتمر بأمر القائد الأعلى».

ونص القانون على أن «قوات الدعم السريع قوات عسكرية قومية التكوين، تهدف لإعلاء قيم الولاء لله ثم الوطن، وتقوم بدعم ومعاونة القوات المسلحة والقوات النظامية».
وكانت «قوات الدعم السريع» قبل صدور القانون وحدة قتالية تابعة لجهاز الأم والمخابرات، بعد تكوينها قبل ثلاث سنوات لمعاونة الجيش في حربه ضد الحركات المسلحة في ثلاث جبهات، خصوصًا في إقليم دارفور.

ومنذ العام الماضي أضيفت إلى مهام تلك القوات مهمة الحد من الهجرة غير الشرعية على الحدود السودانية الليبية، وهي حدود تصعب السيطرة عليها، وتستغلها عصابات تهريب المهاجرين لتهريب القادمين من القرن الأفريقي إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، مستغلين عدم الاستقرار في ليبيا.
وتحظى هذه القوات بوضعية خاصة عند الأجهزة الأمنية السودانية، وبسببها أدخل الزعيم السياسي والديني الصادق المهدي المعتقل، لاتهامه لتلك القوات بارتكاب تجاوزات ضد المدنيين في دارفور، قبل أكثر من عام.

وترى قوى المعارضة المدنية والمسلحة، أن تلك القوات مكونة على أسس قبلية، وتزعم أنها امتداد لـ«ميليشيا الجنجويد» سيئة الصيت، لكن الحكومة تصر على أنها قوات نظامية تابعة لجهاز الأمن، قبل أن ينسبها القانون إلى الجيش السوداني.”

ومعلوم ، ان قوات الدعم السريع عبارة عن ميليشيا شبه عسكرية مشكلة مما كان يعرف بمليشيات الجنجويد التى تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية فى فترة حكم المؤتمر الوطنى السابق ، ضد الحركات المسلحة المناهضة للحكومة المركزية فى الخرطوم.

الجدير بالذكر أن قوات الدعم السريع قد تم تشكيلها رسميًا في آب/أغسطس 2013 بعدما تمّت إعادة هيكلتها فأصبحت تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني وذلك في أعقاب إعادة تنشيط ميليشيات الجنجويد من أجل محاربة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق في أعقاب الهجمات المشتركة من قبل متمردي الجبهة الثورية السودانية في شمال وجنوب كردفان في أبريل 2013.

لمن اراد التوفر على معلومات ثرة بشان قانون قوات الدعم السريع أحيل الى كتاب استاذنا دكتور سلمان “قوات الدعم السريع .. النشأة والتمدد والطريق الى حرب ابريل ٢٠٢٣” الذى صدر فى فى يونيو 2023 ، يتضمن دراسة وافية وتحليلاً بحثيا ذو قيمة علمية وقانونية سخية ، وله نسخ الكترونية متوفرة ، ويمكن مشاهدة بعض الورش على بعض المواقع ناقشت المؤلف وحاورته وتقديرى أن القارىء العادى سيجد فيها فائدة جمة.

وسنعود لذلك فى مقال اخر ان شاء الله. ولكن ما نحن بصدده هنا هو الوضع الانسانى الذى اوجدته الاشتباكات العسكرية فى العاصمة ودارفور واماكن أخرى . هذا الوضع الماساوى يتناوله البعض على استحياء بكل اسف ، تفرق دمه بين القبائل ليس بين اصوات الرهانات الصفرية العالية التى يعلو صياحها ويصم الاسماع ضحيجها فحسب ، بل حتى المبادرات السياسية تلمس هذه الماسى مسا لا يناسب حجم الماساة الكم الهائل من الاعتداءات على حياة الامنين وانتهاك اعراضهم والتحرشات الجنسية حوادث الاغتصاب التى لم تفرق بين القصر وغير القصر ، بين الفتيات وحتى بعض كبار السن ، طرد السكان المدنيين من مساكنهم والاستيلاء املاكهم وانتهاب اموالهم واحراق بيوتهم وتكسير الاثاث وتدمير الدور والمساكن بلا سبب. ثم المعاناة التى يكابدها النازحون واللاجئون فى مواطن نزوحهم وملاذات لجوئهم ، شظف العيش، فكم اخبت الخلق الى ربهم يستعيذون به من زوال نعمته وتحول عافيته يسالونه عيشة هنية وميتة رضية ومردا غير مخزى وسبحان الله الباقى فكل من عليها فان ودوام الحال من المحال.

المتابع للاعمال الحربية فى الاشتباكات التى تجرى فى السودان يسهل عليه تلمس افتقار المتحاربين ، خصوصا قوات الجنجويد لاى ميثاق اخلاق يضبط تحركات المتحاربين على الارض. فمنذ ابريل 2019 كثرت مقرات قوات الدعم السريع فى الخرطوم ، بل وخصصت لها قيادة الجيش مقرا لقيادتها فى الخرطوم بحرى كان فيما مضى هو مركز قيادة سلاح المظلات. ولا شك ان مثل هذه التواجد الكثيف لقوات شبه مستقلة داخل المدن كان يتطلب منذ البداية بحث المخاطر المحتملة لاى حالة انفلات ووضع التدابير المنعية لدرء المخاطر او التقليل منها ضمانا لسلامة المواطنين وسلامة البنى التحتية وتدم أنقطاع الخدمات خصوصا الخدمات العلاجية والطبية فضلا عن التواجد الشرطى والخدمات الامنية. هذا ما كان مرجوا من قيادة عسكرية المفترض انها مسؤولة عن حماية حدود الوطن والمسؤولة عن أمان المواطن عندما خططت وقررت انشاء مثل هذه الماليشيات، ولكن لم يكن ثمة شيىء من ذلك.

يضع القانون الدولى قواعد للاشتباك اثناء الحروب ، منصوص عليها فى بعض العهود والاتفاقيات الدرلية والبروتوكولات الملحقة ببعضها والرامية لضمان أمن الافراد وسلامة المواقع المدنية فتفرض على المتصارعين بذل اقصى جهودهم لحماية المدنيين وعدم تعريض حياتهم للخطر وتوجب عليهم الامتثال بالضوابط المنصوص عليها فى القانون الدولى العام والإنساني. وعلى وجه الخصوص تمثل اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/أغسطس 1949 المرجع الاساسى كأداة من ادوات القانون الدولى الانسانى لضبط سلوك المتحاربين اثناء الحروب وحماية المدنين من الانتهاكات التى تنجم عن العمليات القتالية.

يجدر بالذكر أن السودان قد انضم لاتفاقيات جنيف الاربعة صادق عليها ، وكذلك من المؤكد ان السودان قد انضم إلى بروتوكولي عام 1977 الإضافيين إلى اتفاقيات جنيف فى السابع من مارس 2006 والثالث عشر من يوليو من نفس العام واللتان دخلتا حيز التنفيذ بعد ستة اشهر من تاريخ الانضمام اليهما respectively وبذلك تعتبران جزء لا يتجزأ من القانون السودانى طبقا لقواعد الادراج Incorporation المعمول بها ووفقا للضوابط الدستورية السودانية.

هذان البروتوكولان “يكملان اتفاقيات جنيف الصادرة في 12 أغسطس/آب 1949, على إعادة تأكيد القانون الدولي الإنساني وتطويره في عدة مجالات. فيفرض البروتوكول الأول المطبق في حالات النزاع المسلح الدولي, قيودا على سير العمليات العسكرية. أما البروتوكول الثاني, المطبق في حالات النزاع المسلح غير الدولي, فيعزز كثيرا من الحماية المكفولة للأشخاص غير المشاركين في الأعمال العدائية أو الذين توقفوا عن المشاركة فيها. كما يشتمل على أحكام خصصت لحماية المدنيين من مخاطر العمليات العسكرية.

وينص على وجه الخصوص على وجوب معاملة هؤلاء الأشخاص معاملة إنسانية في جميع الأحوال. كما يضع البروتوكول الثاني قواعد مهمة تحكم معاملة المحتجزين, وضمانات قضائية تنطبق في حالات المقاضاة والمعاقبة على الجرائم التي ترتكب في صلة بالنزاع المسلح”
والجدير بالذكر ان اتفاقيات جنيف تضم اربعة اتفاقيات تعالج موضوعات المفقودين وقضايا الاحتلال واللاجئين والنازحين والتصدى للعنف الجنسى واستخدام الاسلحة الكيميائية والبيولوجية ومكافحة العنف ضد الرعاية الصحية بالاضافة الى تنظيم الزيارة بالنسبة للمحتجزين.

وهنالك نص مشترك يتضمن حكما جامعا بين اتفاقيات جنيف الاربعة وهو نص المادة 3 والذى يجعل النزاع الحالى فى السودان خاضعا لاحكام هذه الاتفاقيات وبروتوكولاتها . وشكل هذا النص تطورا لافتا واحرز تقدمًا وسع من نطاق مظلة القانون الدولى الانسانى حيث شملت لأول مرة حالات النزاعات المسلحة غير الدولية. وهذه الأنواع من النزاعات تتباين تباينا كبيراً حيث تضم الحروب الأهلية التقليدية, والنزاعات المسلحة الداخلية التي تتسرب إلى دول أخرى أو النزاعات الداخلية تتدخل فيها دول ثالثة أو قوات متعددة الجنسيات إلى جانب الحكومة. وتنص المادة 3 المشتركة على القواعد الأساسية التي لا يجوز استثناء أي من أحكامها, حيث يمكن اعتبارها كاتفاقية مصغرة ضمن الاتفاقيات تضم القواعد الأساسية لاتفاقيات جنيف في صيغة مكثفة, وتُطبق على النزاعات غير الدولية:

تطالب بمعاملة إنسانية لجميع الأشخاص المعتقلين عند العدو وعدم التمييز ضدهم أو تعريضهم للأذى وتحرم على وجه التحديد القتل, والتشويه, والتعذيب, والمعاملة القاسية, واللاإنسانية, والمهينة, واحتجاز الرهائن, والمحاكمة غير العادلة.

تقضي بتجميع الجرحى والمرضى والناجين من السفن الغارقة وتوفير العناية لهم.
تمنح اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحق في توفير خدماتها لأطراف النزاع.
تدعو أطراف النزاع إلى وضع جميع اتفاقيات جنيف أو بعضها حيز التنفيذ من خلال ما يسمى “الاتفاقات الخاصة”.
تعترف بأن تطبيق هذه القواعد لا يؤثر في الوضع القانوني لأطراف النزاع.

وبما أن معظم النزاعات المسلحة في الوقت الراهن نزاعات غير دولية, فإن تطبيق المادة 3 المشتركة أمر في غاية الأهمية, ويقتضي احترامها بالكامل.

بكل اسف لا نجد ادنى قدر من الامتثال من قبل اى من الطرفين المتصارعين للقيود التى يضعها القانون الدولى الانسانى ولا حتى للقيم الاخلاقية الاسلامية فى الحروب لا سيما وان الطرفين المتصارعين (نظريا على الاقل) تجمع بينهما هذه القيم . كما نلاحظ ايضا انعدام المصادر المستقلة لتلقى الاخبار عن سير المعارك ، فكلا الطرفين يملكان منصات اعلامية تبث من خلالها مجريات سير العمليات وبطبيعة الحال لا يمكن الوثوق بها. ولكن المؤكد هو تورط الطرفين فى خروقات انسانية خطيرة وجرائم حرب يندى لها الجبين ، وهنالك الكثير من الروايات التى توثق لهذه الجرائم، اقلها احتلال الجنجويد لمساكن المواطنين فى الكثير من احياء العاصمة الخرطوم ، واجبارهم لبعض المواطنين على مغادرة بيوتهم ، بل واخلائهم لاحياء سكانية كاملة بالقوة ، واتخاذهم لهذه المساكن اما مقرات لقيادة عملياتهم او سكنا لذويهم او جعل بعضها مطاعم ومطابخ لبعض كبار قادتهم . كما ان هنالك قصص مؤكدة بشان قتل بعض المواطنين بواسطة ماليشيات الجنجويد واغتصاب الفتيات والنساء وجماعها تمثل انتهاكا صريحا لاحكام المادة 27 من اتفاقية جنيف:

“للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير.

ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولاسيما ضد الاغتصاب، والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن.

ومع مراعاة الأحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الأشخاص المحميين بواسطة طرف النزاع الذي يخضعون لسلطته، بنفس الاعتبار دون أي تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية. على أن لأطراف النزاع أن تتخذ إزاء الأشخاص المحميين تدابير المراقبة أو الأمن التي تكون ضرورية بسبب الحرب.”

بكل اسف ، ووفقا لبعض الروايات فان الجيش غير بعيد من ارتكاب خروقات للقانون الدولى ، فعلى الرغم من التصريحات بشان تنفيذ الغارات الجوية بدقة متناهية وباقصى قدر من الحذر لعدم تضرر المدنيين ، فقد الكثيرون ارواحهم بسبب القصف الجوى ، فالمدنيون غير مهيأين ولا مدربين على كيفية تفادى الاعمال الحربية الجوية ، أضف الى ذلك لا توجد بالسودان مخابىء آمنة للحماية من الغارات الجوية، فليس ثمة خنادق وسط أحياء المدنيين ، وليس هنالك صفارات انذار تدوى للتنبيه بقرب الغارة ، كلما فى الامر بل وجغم دون اى اعتبار لحياة المواطنين ودون التزام فى الحد الادنى بقواعد السلامة . لقد خلق هذا الواقع المزرى الذى اوجدته الحرب اثاراً نفسية جسيمة وثغرات امنية بالغة التعقيد . وتكشف كثيرا من المشاهد والصور التى طالعناها الى اى حد تصالح المدنيون المتواجدون فى مسارح العمليات مع فكرة الموت وجرائم القتل ، فلقد اعتادوا رؤية الاشلاء المبعثرة والجثث الادمية المنتفخة والروائح النتنة الكريهة، فالموت فى كل مكان والقتل متوقع فى اى لحظة . الدنات تتساقط والمقذوفات تخرق الاجساد وتحرق الاثاث ، وامست المدينة مرتعا للقتلة واللصوص ومنتهكى الأعراض. وسجلت الشرطة السودانية غيابا فاضحا عن مسرح الاحداث وتنصلت كليا عن القيام باوجب واجباتها فى بسط الامن وحماية المواطن وممتلكاته، ربما خوفا من انتهاكات الجنجويد ، فالشرطة فى خاتمة المطاف قوة مدنية وليسا فرقا قتالية . لكن غيابها يحمل علامات أستفهام كبيرة فى ضوء تمترس الجيش بمواقعه العسكرية عوضا عن التقدم لحماية الاحياء المدنية وتفتيش البيوت واخراج المالشيات التى يتهمها بالتمرد منها . كل ذلك جعل المواطن وممتلكاته وحياته تحت رحمة ماليشيات الجنجويد وعصابات النهب المسلح وفلول المنحرفين.

ومن اثار هذه الحرب الكريهة تحول بعض المساكن والساحات العامة بل والمؤسسات العامة الى مقابر للموتى. عجز بعص الناس عن الاقامة فى بيوتهم بعض ان اضحت قبورا لاعز اعزائهم. فلنتخيل الموقف بعد ان ينجلى غبار المعارك ، الخرطوم وقد اصبحت كخرائب برلين وانتويرب عند نهاية الحرب العالمية الثانية، ادركت جدتها سوبا التى قضت على قصورها وضياعها ودولتها الخائنة عجوبة. لنا ان نرى الضحايا من الموتى الأحياء ، الكآبة تسير بين الازقة والخرائب فى مدينة قضى عليها الطاعون او احرقها البركان او دمرها الزلزال. تلك هى الحرب . لكنها حرب ليس فيها مقاتل نبيل ، حرب بلا أخلاق وبلا ضمير ..

فى الافق معارك أخرى ، معارك رد اعتبار المرضى ، معارك نطافة المدن من اثار العدوان وتطهير النفوس من براثن الانتقام ، وتنقية التراب الوطنى من الدواب الخبيثة والجراثيم المؤذية ، وهى معركة أعتى دانات الدبابات وقذائف المدافع . هى معركة السلام وبسط الوئام والنضال ضد الانانية وسلطان الذات.

مقولة:
“القاعدة الوحيدة التى اعرفها للحرب انه لا توجد قواعد للحرب ”

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..