مقالات سياسية

الملك أركماني والدولة المدنية..!

د. محمد عطا مدني*

حكم الملك أركاماني مملكة مروى فيما بين عامى (270 – 260 قبل الميلاد) ، وفى خلال عشر سنوات فقط وهى مدة حكمه لمملكة مروى، كان أول من تحرر من الهيمنة المصرية للمساعدة في بلورة شخصية حضارية نوبية سودانية متميزة تمامًا ومنفصلة عن العادات واللغة والتقاليد المصرية، فقد شرع أركمانى في تمرير سلسلة من القوانين التي من شأنها جعل الثقافة المروية أكثر تميزًا عن الثقافة المصرية ، ففى حوالي عام 265 قبل الميلاد . أقام ممارسات الدفن في مدينة مروي نفسها بدلاً من مراعاة تقاليد دفن الموتى في نبتة وفقًا لبعض التقاليد المشابهة للتقاليد المصرية . وغير فى أسس التصميم المعمارى للمعابد والأهرامات ، كى يعبر التصميم عن حضارة سودانية متفردة.

واستبدل أركمانى حروف الكتابة المصرية القديمة بالحروف المروية ، ومن هنا نشأت وتطورت وخرجت للوجود الكتابة المروية . وأثناء حكم أركمانى اختفت المخطوطات المكتوبة باللغة المصرية القديمة من مروى، واستبدلت بالمخطوطات المروية المميزة ، التى استخدمت 23 رمزا من بينها 5 حروف علة .

كما ساعد أركمانى على استكمال نشرعبادة أبادماك المعبود النوبى القديم والذى يرمز له بالأسد ليقلص عبادة الإله آمون شيئا فشيئا (مع أن تلك العبادة نوبية الأصل وموطنها جبل البركل) وقد انتشرت فى ربوع مصر من أقصاها إلى أدناها، لأنها كانت السبيل أمام كهنة مصر والنوبة للسيطرة على شؤون الحكم . وهنا تتمثل عظمة أركمانى لأنه كان الأول بين ملوك العالم القديم الذى أعلن ثورة على الدولة الدينية ، وركز على بناء الدولة مدنيا مقلصا سيطرة الكهنة على الحكم .

ففى الفترة التى سبقت أركمانى فى الحكم ، جرت فيها التقاليد بأن يقوم كبار كهنة آمون بتحديد من سيكون الملك، وكانوا يحددون فترة ولايته للعرش، ويربطون بين الحالة الصحية للملك وخصوبة الأرض وإنتاجيتها وفيضان النيل من عدمه. فإذا انخفض مستوى الفيضان وكان الملك مريضا بالصدفة، أوعزوا انخفاض فيضان النيل إلى حالته الصحية ، وهكذا كان للكهنة سلطة تحديد ما إذا كان الملك يستطيع الاستمرار فى الحكم من عدمه ، وإذا قرروا أنه لايصلح للإستمرار فى الحكم ، سواء كانت الأسباب حقيقية أو لرغبتهم فى تغيير الملك لأسباب خاصة بهم ، يقومون بإرسال رسالة له ، ويقنعونه بأنها مرسلة من قبل الإله آمون، يخبرونه فيها أن فترة حكمه قد انتهت ، وأنه يجب أن يموت منتحرا (انتحارا طقسيا) ، أو يموت بوعد من الكهنة بقتله قتلا رحيما، مع الاهتمام بتحنيط جسده ودفنه فى موكب مهيب فى هرمه الخاص، وكان الملوك يمتثلون لأوامر الكهنة لاعتقادهم بأنهم يحققون رغبات شعبهم . وكانت هذه العادة قد بدأت فى نبتة عاصمة كوش، وقد اكتسب كهنة آمون في نبتة نفس المستوى من القوة والتأثير مثل كهنة الإله آمون في مصر.

ولما شعر الكهنة فى فترة حكم الملك أركمانى بشخصيته القوية، وأنه لا يستشيرهم فى كثير من شؤون وأن نفوذهم فى الحكم أصبح هامشيا، أرسلوا له رسالة فحواها أن الإله آمون قد أمر بانتهاء فترة حكمه وعليه اختيار طريقة قتله ..! ولكن أركمانى ، الذي تلقى تعليمًا في الفلسفة اليونانية ، كان أول من لفظ هذا التقليد ، وبتصميم جدير بملك، جاء بقوات مسلحة إلى المكان المحظور، حيث كان المعبد الذهبي للنوبيين فى جبل البركل، وقام بقتل جميع الكهنة وألغى هذا التقليد، وأقام ممارسات للحكم وفقًا لتقديره الخاص..!

وما كانت ثورته على الكهنة ثورة على الدين، وإنما كانت ثورة للقضاء على ادعاء الطبقة الكهنوتية احتكار السلطتين الدينية والدنيوية. واحتكار الحق فى تعيين الملوك وإقصائهم وفق ما يدعونه من حق فى تفسير الوحى الإلهى. ولهذا اشتهر أركمانى كمؤسس سلطة الدولة المدنية على حسب ماذكره المؤرخ (ديودورس) فى القرن الأول قبل الميلاد، مخالفا بذلك كل الحضارات المعاصرة التى كانت تنحو دائما نحو نظام الدولة العسكرية المرتكزة على نفوذ الكهنة، وهكذا قام أركمانى بالتخلص من سيطرة مصر على بلاده من جهة، ومن جهة أخرى أسس دولة مدنية متخلصا من الكهنوت المتدثر باسم الدين…!

هل نتوقع أن يظهر فى السودان أركمانى جديد يعيد الأمور إلى نصابها؟
• أستاذ جامعى متقاعد
[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..