مقالات سياسية

إنها نار الحرب، وما لنا أن نجني من نارها غير الويل

د. حسن حميدة – ألمانيا

(إلى حبيبنا تيراب دفع الله عبد الباقي – دمتم في حفظ الله تعالى ورعايته)

إنها أيام الحرب الصاخبة وحالة من الفوضى العارمة. الناس يخرجون من مخابئهم بعد أيام ليتفقدوا ما تبقى لهم من أرواح ومتاع. يغادرون منازلهم ليتفقدوا حال من كتب له مزيد من العمر، ومن تبقى من أهل الحي. الحي السكني الذي كان قبل أسابيع حي آمن، يمشي على شوارعه الناس ويجلس تحت أشجاره الشيب ويجري في أزقته الأطفال ويلعب في ميادينه الشباب. لقد علقت الآن بالهواء رائحة البارود التي لا يمكن محوها بأقوى أنواع العطور. وعلقت به رائحة نتنة، فاقت في نتانتها رائحة إطارات السيارات المحروقة في أيام الثورة المجيدة. إنها الحرب الضروس، وأنه الهواء الذي يتنفسه الصغار والكبار ومنذ أيام في المدينة، وكأنه حامض كيماوي يزكم الأنوف، ويشق الحلوق ليستقر في رئتي المستنشق كالسم الزعاف. على جدران المنازل وأبوابها ونوافذها وإن وجدت، حطت طبقات من غبار كثيف ومجهول الهوية والتركيب – أهو غبار صحراء أفريقيا الكبيرة، أم هو غبار الطلق الناري والبارود؟ حطام هنا وحطام هناك، مصحوب ببكاء المكلومين من النساء وصراخ المفجوعين من الأطفال. ما كان ذنب هؤلاء في الأيام؟ ولا أحد يدري. هاهم الأطفال الجوعى ينادون بأصوات بطونهم قبل أصوات أفواههم. من يستجيب لمناداة جوعى الحرب، ولا أحد يدري، ولا أحد سمع. ولا أحدثك عن كبار السن والحوامل والمرضعات، ولا أحدثك هنا عن أحوال صبيات وأمهات بلادي المشردات، وهن في أوج أيام الحيض. أين الرجال، أين أهل السياسة، أين المثقفون، وأين مكان حكماء بلادي في أيام الحرب؟ أين الأخوة، أين الجيرة، أين الإنسانية، وأين المجتمع الدولي في أيام العدم؟ أين العروبة، أين الدين، وأين الإسلام في أيام الحرمان؟ ولا أحد يدري، ولا أحد رأى، ولا أحد سمع.

الآن هم الناس خارج المنازل، وهذا على الرغم من خطورة الوضع في الشوارع وأثناء هذا اليوم اللئيم ومع حظ عمر تعيس. هنا رجال مجتمعون ومنشغلون بأمر دفن الموتى، وآخر أمنية يتمناها كل إنسان قبل الرحيل ممن هم على قيد الحياة، هي دفنه وستر جثمانه بعد الموت. وحتى الحيوانات تحمل موتاها إلى مثاويها الأخيرة وتواريها الثرى لتسترها. كان سؤال الناس وهمهم الشاغل وقتها، بأي مكان يكون الدفن؟ وكان وقت الدفن محتوما لجثامين تنادي إشتياقا لباطن الأرض. وهذا بعد أن عجزت أجسادهم عن المشي من فوقها وقت الحرب. بأي ذنب قتلوا، ولما بهذه الطريقة الشنعاء؟ ولا أحد يدري.

عن دور الإعاقة والملاجيء ورياض الأطفال والمدارس والجامعات نرى ولا نتحدث. كلها أغلقت أبوابها وهجرتها حتى الطيور في أغصان الأشجار، ولم يقبل بها حتى البوم كأوكار مهجورة. ربما تحدثنا عن تحول بعضها لمدافن للموتى، بل تحولت على نحوها منازل إلى مقابر ومثاوي أخيرة ومن دون قباب. مقابر ومثاوي أخيرة لمن بناها وأحب السكن فيها بين أهله وأقاربه وجيرانه. وهاهم الأطفال والشباب، كثروة بشرية للبلاد في مهب الرياح في كل اتجاه، تحملها الرياح حيث تشاء. الأطفال والشباب، وقريبا أيضا البنات والنساء في عش الجندية بدلا عن عش الزوجية، إذا لم يأتي السلام (كان أسمهن بالأمس أخواتنا، سموهن اليوم أخوات نسيبة). وصار الشباب (رمز القوة والشهامة والمرؤة والسلمية) على أتم المعرفة بكل أنواع السلاح واستخدامه المميت، للدفاع عن النفس والعرض والشرف، أو لممارسة الترويع والنهب والقتل وفي عقر الديار. وهذا عوضا عن وجود هؤلاء في فصول المدارس ومعامل الكليات وصالات المحاضرات والمكاتب والمؤسسات ومراكز الإنتاج.

وكن هناك نساء مجتمعات، يحاولن أن يتماسكن ليمسحن دموعهن ودموع بعضهن. هل كان هذا هو يوم عرسهن، يوم زفافهن من الرجال، أم كان يوم لقاء حتفهن، يوم دفنهن أحياء؟ ولا أحد يدري. وبينهن بنات لا تفصلهن أعوام كثيرة من بلوغ عمر الزوجية وسن الأمومة إذا تزوجن وولدن. ماذا تبقى لهن لأن يكتشفن من رجولة تكمن وجودا في خزن ومخازن الرجال؟ هل هناك اعتماد على الرجل (رجل الحرب) – الكائن الحرباء الذي يجيد التلون والمراوغة؟ هل يوفر الرجل لهن الأمان حتى يحملن منه كزوج ودود وأب رحيم بعد أن يلدن منه ويرضعن صغارهن الأطفال؟ هل بإمكان الرجل أن يتقاسم معهن عناء الحياة الشاق، أم أن الرجل هو الكائن الحي الميت في ذات الوقت، الذي يدير الحروب، ويأتي بالخراب والدمار في عقر الديار، ليشردهن ويبكيهن ويجعلهن معدمات؟ وكان هناك بينهم أنصاص الرجال الذين يطيب لهم المقام بعد تشريدهن من ديارهن ليسكنوها أنفسهم. ويجعلون من المرأة “ست أبوها” آلة تستخدم، ومخلوق مستعار، معروض في العراء للأغتصاب من مجموعات شوارع منحطة الأخلاق، وعديمة دين وعرض وشرف وإنسانية وجذور. وصدق القول بأن الرجال خشوم بيوت، أين موقع دعمنا السريع من كل هذا، وهل هناك من عصابات تسمى تسعة طويلة أو مجموعات أنصاص الرجال في وسط الحلقة، وأين موقع جيشنا المغوار من كل هذا؟

وأخير لقد تقرر أمر الدفن لا محالة، ولا مجال لتأخير موعده تحت كل الظروف. هاهي اللحظات تمر، وفي كل لحظة يكتشف أهل الحى، ضحية حرب أخرى وميت آخر بين الحطام. تعجل الناس، خصوصا الشباب منهم في حفر القبور، لحمل ضحايا الحرب لمثواهم الأخير. وهاهو الظلام الدامس يداهمهم وهلة، ويعلو الجو الغبار، والشباب يتصببون عرقا تحت حر شمس ليل غائبة عن الظهور. وهاهي طائرات القتال تعتلي الجو مدوية، وتحلق مرة أخرى في الفضاء مستكشفة عن الأهداف. ومن على البعد تسمع ضربات السلاح من بنادق ومدافع، جعلت الأرض تهتز من تحت الموتى والأحياء. ويزداد الجو قتامة، ويستنشق الناس مرة أخرى مزيد من رائحة البارود الطاعنة في الحلوق والأجواف والأفئدة.

تفقد الناس يومها حصيلة الموتى وعدد الضحايا الذي فاق في يومه تصور كل من كان بمكان التجمع الحزين. وكان من بينهم نبلاء وأدباء وعلماء وكرماء وظرفاء ومبدعي ورياضيي وزاهدي ومتقشفي الحي السكني. وتساءل الناس وقتها عن إمام المسجد العتيق، كيف حاله وأين مكانه الآن؟ وهذا بعد أن صمت كغير عادته صوت الأذان المنادي بمكبرات الصوت للصلاة. الصوت المنادي للصلاة خمس مرات في كل يوم ما وجد الحي السكني، وغاب عن مسامع الناس في الحي صوت الإمام الوقور. فجأة عم السكون مكان تجمع أهل الحي، نساءا ورجالا، كبارا وصغارا. لقد لقي الإمام الوقور حتفه يومها بسبب قنبلة، إما طائشة وإما موجهة إلى منزله المتواضع في قلب الحي، وصار الإمام في عداد ضحايا الحرب اللئيمة. وعليه توجب على أهل الحي المنكوب كغيره من أحياء المدينة المغتصبة، الصلاة على ضحايا حيهم، بما فيهم الإمام الوقور الذي رحل. وكان في مثل هذا اليوم، يؤم المصلين ويؤدي الصلاة ويواسي أهل الموتى ويطمئن قلوب الناس بأحاديث شريفة وآيات من الذكر الحكيم.
توكل أهل الحي على ربهم وواروا جثامين موتاهم الطيبين الثرى، بما فيهم إمام المسجد الوقور، وكان الحزن يطعن في أحشائهم. وهذا بفراقهم لمن أحبوا من الناس وفقدوا أهل كريمين وعطوفين بين ليلة وضحاها. ولكنهم لا يدرون لمن من الناس في الحي السكني يكون الموت، بولوج نور صباح جديد وبإشراق شمس يوم باكر.

ومن هنا: أي تقدم إنساني نحن فيه الآن، وأي إزدهار ننشد نحن لأنفسنا؟ وحنبنيهو كيف الوطن البنحلم بيه؟ العالم يناطح الآن السحاب، وعندنا يتناطح جنرالين يتمتعون بمكانة نحتت على رأس المواطن وعلى رأس الدولة. لقد كانا أخوين وفيين لبعضهما البعض، بل كانا توأمين سياميين يتنفسون ويعطسون بأنف واحد، والآن صارا عدوين لدودين لبعضهما البعض. ونقول للأثنين بكل أمانة ومسؤولية: ليس هذه هي النتيجة التي كان ينتظرها شعب السودان منكم بعد صبر سنين عجاف على الظلم والطغيان. ولا كثمرة من ثمار المرحلة الإنتقالية للتحول الديمقراطي المنشود، في وطن هو وطنكم الكريم “السودان”. يجب اليوم وقبل باكر أحلال سلام عاجل ودائم وشامل لشعب كريم أنتم منه ووأنتم إليه. وسوف يكون بالتأكيد سلام في الوقت الضائع، ولكنه سوف يكون حتما أحسن من عدمه “أحسن من الحرب”. والاعتذار للشعب السوداني شيء واجب، خصوصا الاعتذار للضحايا من مصابين ومعاقين، وأهل الضحايا والمشردين والمنهوبين والمتضررين، والمواطنين الذين دمرت منازلهم ومؤسساتهم ونهبت ممتلكاتهم. هذه هي مسؤوليتكم أنتم كقادة في تعويضهم تعويض كامل وغير ناقص. وعلى الدول الغنية التي صنعت الحرب والتي مولت الحرب ليتطاحن السودانيون فيما بينهم أن تتحزم وتشد حيلها لدفع تعويضات الضحايا ودفع الخسائر الفادحة التي نتجت عن الحرب. الموضوع هنا يا ناس الحرب موضوع حياة إنسان، وموضوع مستقبل أجيال، وموضوع كيان قطر أفريقي لا يستهان. والتضرر من جراء الحرب لا يحوي التضرر المادي فقط، بل أيضا التضرر النفسي الذي يلاحق حتى الأطفال كناتج عن صدمات الحرب أو كناتج عن صدمات ما بعد الحرب (ذا وور تراوما آند ذا بوست وور تراوما). تعويضات الحرب تبني على منهاج التعويضات التي توجب على السودان دفعها للولايات المتحدة الأمريكية(مئات الملايين من الدولارات)، تعويضات على أساسما تمت تسميته “تعويضات السودان لأسر ضحايا الإرهاب الدولي”. وهنا يقدر ما سفكته هذه الدول المعنية من أرواح في السودان، وما دمرته من منازل ومؤسسات وبنية تحتية واقتصاد في السودان بمئات مليارات الدولارات، وما يزيد عن ذلك بكثير. إنه حق لكل متضرر أو لأسرته. ويجب أن يأمن ويحكم وصول هذه التعويضات مباشرة ومن دون وسيط للمواطن السوداني المتضرر من جراء رحى الحرب الدائرة. الحرب المفتعلة لمآرب محلية وأقليمية، للأخذ من سيادة وثروات البلاد المادية والبشرية.

E-Mail: [email protected]

‫2 تعليقات

  1. أولا تحياتي الحارة أخ د.حسن لك ,اسرتك وفاقدنك.
    شكرا لك علي هذا التناول والتصوير الشييق لمأساة السودان والسودانيين والتي تحكي عن فشل وخيبات الساسة والحكام والمثقفون في بناء دولة تصد عن شعبها مثل هذه المالات المدمرة. الله ندعو أن يجعل للسودان حسن المخرج.

    1. وعليكم السلام الأخ العزيز، الأستاذ عثمان. أتمنى من المولى عز وجل أن جميعا تكونوا بألف خير وعافية. سائلين عنكم كثير في كل اتصال، ودائما أنتم على البال. نسأل الله تعالى أن تنتهي هذه الحرب المصطنعة للأخذ من السودان وللنيل إنسانه. ونتمنى من الله تعالى أن يعود السلام العاجل ف لكل ربوع السودان. تحياتي موصولة لكم جميعا، ولكل أهلنا في ربوع الوطن الحبيب وبواديه.
      أخوك حسن.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..