جنرالات زمان (متدينون.. وطنيون.. مهنيون..أخلاقيون)..!

جنرالات زمان..
(صفحات من سيرة الملك المحارب الفاتح العظيم بعانخى)
د. محمد عطا مدنى
————————
(إذا بلغتم “واست”- وهى الأقصر الحالية- ووقفتم قبالة مصطفى الأماكن (معبد آمون رع بالكرنك) اغمروا أجسادكم في الماء وتطهروا في النهر، وتبلّلوا بماء هياكله، وقبلوا الأرض بين يديه، وارتدوا الكتان النقي، وقولوا له: أيها الإله المحبوب أرشدنا إلى الطريق الصحيح، فلنحارب في ظل قوتك معارك المجندين الذين بعثت بهم مظفرين، ليستولى الرعب على الجموع عندما تواجهونهم. وبعد النصر، حطوا الأقواس وألقوا السهام جانباً، لا تتباهوا بأنكم أصحاب سلطة في حضرة الذي بدون رضاه ليس للشجاع قدرة، فيجعل الضعيف قوياً، والجموع تتراجع أمام القلة وتعود أدراجها، ويتغلب الفرد منكم على ألف من الذين اغتصبوا البلاد)(1)
بهذه الكلمات المعبرة عن القوة والحزم والثقة العالية فى النفس وفى قادة جيشه وفى جنوده، نصح الملك (الجنرال) بعانخى (747- 716 ق.م) قادة جيشه، حين أمرهم بالتوجه لتحرير مصر من الغزاة الليبيين، استجابة لطلب بعض حكام الأقاليم المصرية وكهنة معابدها، من أجل القضاء على الفوضى التى عمت البلاد نتيجة الحكم الأجنبى لبلادهم، والذى أساء معاملة أهله ومعابده وخيله.
لقد جعل الملك بعانخى مملكة نبتة قوة عظمى فى العالم القديم، وفرض نفوذه وسيطرته على حدود المملكة من أسوان شمالا حتى الشلال السادس جنوبا فى القرن الثامن قبل الميلاد. وفى تلك الكلمة الموجزة حث جنوده وقادة جيشه على الالتزام بطقوس التدين، واحترام الضعيف والمهزوم، وعدم التباهى بالنصر، حيث وجّه جنوده ليكملوا تحرير وادى النيل الشمالى من العناصر الأجنبية التى غزته من خارج الوادى، مؤكدا على الأهمية الإستراتيجية لهذا الوادى منذ قديم الأزل. وعليه، قرر بعانخى ألا يحكم وادى النيل إلا إبن من أبنائه.
وقبل أن تبدأ الحرب، أعطى بعانخى التعليمات لقادة جيشه قائلا: (لا تهاجموا العدو أثناء الليل، ولكن حاربوهم عندما يمكن رؤيتهم، واطلبوا خوض المعركة من بعيد، وحاربوهم عندما يطلب العدو منكم ذلك، وإذا كان له حلفاء فى مدينة أخرى، فاعمل أيها القائد على انتظارهم، وشد على أحسن جواد عندك، وصف الجنود فى المعركة جيدا، ولابد أن تعلم أن آمون هو الذى أرسلنا. (2)
وتتعارض قوانين بعانخى هذه مع كل قوانين الحرب الحديثة الآن. فالهجوم أثناء الليل مهارة تحسب للقائد لأنه اختار الوقت المناسب لمباغتة العدو وهزيمته، كما يفاجىء القادة اليوم عدوهم بالحرب الخاطفة لإيقاع هزيمة ساحقة به وليس انتظارا لطلبه الحرب..! أما قطع خطوط إمدادات العدو حتى لايصله دعم من أى جهة، فتعتبر براعة من قادة الجيوش اليوم..!
وما هذا إلا دليل على عبقرية بعانخى السياسية والعسكرية وفكره الإبداعى المرتب، لأنه عندما اتخذ قرار الحرب – وهو حدث غير عادى- كان لابد وأن يفكر فى متعلقات وآثار الحروب، فابتكر قوانين أخلاقية لتنظيم ذلك قبل أن توجد الاتفاقيات الدولية المنظمة لذلك بآلاف السنين، فقد وضعت تلك القوانين للحرب قبل 28 قرنا من الزمان. مخالفا كل الحضارات المعاصرة له، والتى كانت تضع الانتقام والتبشيع بالمهزوم وتركيعه وإذلاله ومحو حضارته، وتحطيم تماثيله ومعابده، همها الأول. وكمثال على ذلك، غزو(بسماتيك الثانى) فرعون مصر (عام 591 ق.م) لمملكة كرمة عدة مرات وتدمير معابدها وتماثيلها، وممارسة الحكم الأشورى العنف والقسوة مع العدو، حيث كان (آسرحدون) مهووساً بحب إذلال الملوك والشعوب فى البلدان التى يقوم بغزوها، ودمر(أشور بانيبال) مدينة طيبة (الأقصر) تماما أثناء غزو الأشوريين لمصر.
ووسط هذه الصور القاتمة البشعة لبعض ملوك الحضارات المعاصرة للحضارة السودانية القديمة، تبرز شخصية الملك بعانخى المتسامح مع أعدائه، المخالف لكل سلوك معاصريه من الملوك والحكام. وكانت روايته لأحداث فتحه لمصر، وتسجيله لقوانين الحرب التى ابتكرها على لوحه المشهور، وثيقة إنسانية وعالمية بمعنى الكلمة، وبمستوى غير عادى. يقول البروفيسير (وليام آدمز) (William Adams) (إن لوح بعانخى التذكاري، الذى يوضح بالتفصيل، حملات هذا القائد والفاتح النوبى العظيم على مصر، واحدا من القطع الفنية النادرة فى الأدب القديم) (3)
ولا شك أن هذه السلوكيات الراقية، توضح تمسك بعانخى وخلفائه بواجبات التدين، فى وقت لم تكن الرسالة السماوية الكبرى قد تنزلت بعد. وتؤكد الكاتبة الأمريكية (دورسيلا هيوستون) هذا التوجه بقولها: (كان النوبيون جنس شديد التدين، وكانوا يتولون أمور الكهانة فى معابد النوبة ومصر، وهم الذين علموا العالم عبادة الآلهة (4) وأنهم أقوياء، ويمتهنون الزراعة، كما أنهم محاربون مفعمون بالحيوية والنشاط، ويمتازون بالأخلاق الكريمة. (5) وفى الأزمنة القديمة كان المصريون يتبعون القادة النوبيون فى المعارك الحربية، فقد كان النوبيون هم الركيزة الأساسية للجيوش المصرية ، وكانوا هم القادة والرأس المدبر للفتوحات الأجنبية، كما أنهم استنوا القوانين وأقاموا الحكومات وشهرتهم كبيرة فى مجال التقدم المعرفى. (6) وتوجد مسلة فى المتحف البريطانى توضح كيف دمر النوبيون أسطول الملك الفارسى (قمبيز) الذى فكر فى غزو النوبة. (7)
لقد ظلت مآثر الملك بعانخى آخذة بإعجاب الكتاب والمؤرخين – القدماء منهم فى تلك الأزمنة السحيقة والمحدثين أيضا – وهم يتصفحون تلك المآثر باندهاش رائع، متتبعين ابتهاجه بالخيل، وترفعه عن البطش بالأسرى، وعدم متابعة الهارب منهم، والعفو عن كثير من أعدائه وتركهم يرحلون إلى بلادهم، وهى صفات نادرة جدا فى تلك العصور القديمة، مع صفات رفيعة أخرى، أهمها الوعى المنظم والمنضبط لحسه الفكرى والسياسى والعسكرى.
وتعتبر أعماله الحربية فى فتح مصر، وإخضاع كل الأمراء العصاة لحكمه، عمل لايتصوره عقل بشر، فكيف قطع بجيشه حوالى 500 كيلومتر بين عاصمة ملكه فى نبتة حتى وصل مدينة طيبة فى جنوب مصر، وكيف واصل إخضاع المدن المصرية، مدينة بعد أخرى لمسافة ألف كيلومتر عبر وادى النيل مجتازا جميع مدن صعيد مصر، وصولا إلى العاصمة ممفيس (بالقرب من القاهرة الحالية)، ثم هليوبوليس(عين شمس)، ليحاصر آخر الأمراء العصاة (تفنخت) فى دلتا مصر، محررا مدنها سايس وتانيس وأفاريس، وقد توعده بعانخى قائلا: (أقسم بحب “رع” لي وبحظوة “آمون” لي، أني سأذهب بنفسي شمالا حتى أقضي على الذي عمله تفنخت وحتى أجعله يولي الأدبار من الحرب أبديا)(8). ويأتى إليه الأمير تفنخت طائعا مستسلما بين يديه.
ولا شك أن هذه العمليات الحربية الممتدة لمسافة ألف وخمسمائة كيلومتر، من حشد للقوات، والتدريب المستمرلها، وتوفير الإمدادات الغذائية، والمعدات العسكرية والأسلحة، وتوفيرالسفن لنقل الجنود على النيل، وترتيب وإدارة المعارك البرية والنيلية المتوالية فى المدن التى يمر بها الجيش، ثم يتكلل ذلك كله بالنصر، يعتبر حتى بمقاييس العصر الحالى، معجزة عسكرية حقيقية..!
وتشير الكاتبة الأمريكية (هيوستون) إلى أسس التنظيم والتخطيط الذى سارت على نهجه الحضارة السودانية القديمة فى عهد المؤسس بعانخى ومن جاء بعده بقولها: ( لقد استفادت العصور المتأخرة من إرث الكوشيين القدامى مبادىء أساسية مهمة عن كيفية تأسيس الدول، فقد كان حجر الزاوية فى التفكير السياسى لممالك النوبة القديمة، المساواة والعدالة، والتفكر والتدبر، والاعتدال والمثابرة، مما ساهم فى استمرارية هذه الحضارة وسيادتها من عام 3500 قبل الميلاد حتى عام 350 ميلادية حيث كانت توصف بأرقى حضارة فى زمانها، وقد استمدت مكانتها وديمومتها فى أكثر وأكبر تجمع للحضارات فى العالم القديم). (9)
ومما ذكره د.سليم حسن فى موسوعته دليلا على أخلاقيات الملك بعانخى وتدينه، تضرع الأميرة (نستن محونت) زوجة الأمير (نمروت) إلى أزواج وأخوات المللك بعانخي لأجل أن يصفح عن الأمير (نمروت) أحد الأمراء الليبيين الهاربين، وفى متن اللوح جاء مايفيد أن زوجات الأمير وأخواته قد انبطحن على الأرض أمام الملك بعانخي لطلب العفو عن (نمروت) أمير (حت ورت) ولكن جلالته صافحهن من بعيد رافعا يده معطيهن الأمان والعفو. ويعلق المؤرخ د. سليم حسن فى موسوعته على هذا الموقف بقوله: ( ولكن جلالته لم ينظر لواحدة منهن وجها لوجه تعففا واستحياءا وصلاحا، وهذا ما لم نسمع به من قبل فى النقوش المصرية القديمة). (10)
وأهدى الأمراء إلى بعانخى كثيرا من الذهب والفضة واللازورد والفيروز والبرونز وكل الأحجار الثمينة. وفى كل مدينة كان يدخلها بعانخى هازما الأعداء، كان يضع كل الهدايا والأموال والمجوهرات التى تصله من الأمراء فى خزينة القصر للصرف على الشعب، أما الحبوب والمواد التموينية والملابس وغيرها، فكان يهديها إلى معابد آمون فى كل مدينة حتى يستفيد بها الفقراء.
ولما زار بعانخى حظيرة خيل نمروت، ووجد أنها جائعة وهزيلة – وكان الليبيون يجوّعون الخيل لظنهم أن قوة مصر فى الحرب معتمدة على الخيل- قال لنمروت : (إننى أقسم بحب رع لى، أنه لأكثر إيلاما لقلبى أن تكون هذه الجياد قد تألمت جوعا أكثر من تألمى لأى عمل مسىء قد عملته). وأمر بالعناية بالجياد وإطعامها. وتم التصرف في متاع نمروت فسُلمت أمواله وأملاكه للخزانة، ومخازن غلاله للقربان المقدس الخاص بالإله آمون في معبد الكرنك. (11)
ويعترف د. سليم حسن فى موسوعته تحت عنوان (الفتح السودانى لمصر)، بالأعمال الجليلة التى قام بها بعانخى وأسلافه فى مصر قائلا: (والواقع أن ملوك كوش الذين أسسوا لأنفسهم ملكا عظيما في بلادهم، قاموا بنهضة قومية شاملة في مصر وكوش، كان لها الأثر البعيد في إحياء وادي النيل ثانية وإعادة مجده القديم، بعد أن ظل خاملا عدة قرون في أعقاب سقوط الدولة المصرية الحديثة، وقد تناول هذا الإحياء النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والفنية جميعا. والواقع أن ملوك كوش الذين يتألف منهم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين قاموا جميعا على رأس تلك النهضة التي تعد بحق آخر محاولة في الأزمان القديمة لاسترداد عزة مصر وكرامتها، فنجد أن بعانخي قد اهتم بإحياء عبادة آمون بصورة تذكرنا بعصر تحتمس الثالث، كما أحيا اللغة الهيروغليفية بصورة ممتازة فأعاد لها ما امتازت به من رصانة وبهجة في عهد ملوك الدولة الوسطى حينما كانت في عصرها الذهبي، وأكبر دليل على ذلك لغة اللوحة التي نقش عليها بعانخي حروبه فى مصر، وفضلا عن ذلك أبرز لنا في متن هذه اللوحة ما كان يتصف به من رحمة وتدين، هذا إلى جانب مهارته في فنون الحرب) (12)
ولما تقاعد بعانخى بما يحمل من شرف ومجد، وفكّر فى العودة إلى النوبة، فضل ألا يحكم مصر شخصياً بصورة مباشرة، فلجأ إلى إتباع سياسة منح الحكم الذاتي للمصريين، عن طريق ترك السلطات الإدارية بأيدي الحكام المحليين، الذين أدوا له قسم الطاعة والولاء ، مكتفياً بالإشراف الفعلي على منطقة طيبة ومعابدها المقدسة والطرق الغربية حتى الواحة الداخلة. (13)
وبعد أن انتهى بعانخي من فتحه العظيم وإخضاع كل البلاد المصرية وتوحيدها مع بلاده كوش، شحن سفنًا ببضائع الشمال، وما تصبو إليه نفسه من محاصيل سوريا وكل الأخشاب الحلوة المجلوبة من أرض الإله (أي من بلاد بونت -الصومال حاليا)، وأقلع بعانخي إلى النوبة جنوبا بقلب منشرح، وكان الناس على كلا شاطئي النيل يرحبون به ويهللون لطلعته، وكان القوم القاطنون على النهر يقيمون الأفراح في حضرة جلالته، ويغنون ويصفقون وهم يقولون: يا بعانخي العظيم، إنك تعود وقد حققت الاستقرار فى بلادنا وفى الأرض الشمالية، فما أسعد قلب المرأة التي حملتك والرجل الذي أنجبك، وإنك ستبقى مخلدا وقوتك سرمدية يأيها الحاكم المحبوب من طيبة. (14)

ويربط كثير من المؤرخين بين وفاة بعانخى، والزى الأسود (الجرجار) المنتشر في المناطق النوبية التي تقع شمال السودان وجنوب مصر، حيث تذهب الروايات المتداولة إلى أن هذا الزى الأسود الذى ارتدته النسوة حين وفاة بعانخى، كان بسبب حزن الناس لموت الملك حزناً شديداً، وقد رفض النسوة أن يغيرن أو يخلعن ذلك السواد مدى العمر، حتى صار زياً قومياً في تلك المناطق. والأمر- بلاشك – له دلالة قوية على عظمة وهيبة الملك بعانخى وحب الشعب النوبى له .
هكذا كان الملك القائد (الجنرال) بعانخى، المحارب الخلوق المتدين، الذى يحمل بين جنباته وفى ثنايا روحه، طاقة لا حدود لها من التفكير الإبداعى السياسى والعسكرى والإنسانى، مما صعب تكراره فى حضارات العصر القديم، بل ويندر وجوده فى عصرنا الحاضر. (15)
[email protected]
———————————————–
(1) موسوعة حضارة العالم، وبعانخى، الموسوعة الانجليزية. موسوعة مصر القديمة، الجزء 11، ص 23
(2) د.سليم حسن (1948): موسوعة مصر القديمة، الجزء 11، مؤسسة هنداوي بمصر(طبعة 2018) ص 23 .
(3) وليام آدمز: النوبة رواق أفريقيا (2004)، ترجمة: محجوب التيجانى ، الطبعة الأولى، مطبعة الفاطيما القاهرة ، ص 338.
(4) دورسيلا هيوستون (1926): النوبيون العظماء (طبعة 1985) مطبعة رفيقى، جوبا. ص 50
(5) المرجع السابق، ص 32 (6) المرجع الأسبق، ص 33-35 (7) المرجع الأسبق، ص 44
(8) موسوعة مصر القديمة، الجزء 11، ص (9) دورسيلا هيوستون: النوبيون العظماء، ص 21-25
(10) موسوعة مصر القديمة، الجزء 11، ص 47 (11) موسوعة مصر القديمة، الجزء 11، ص28
(12) المرجع السابق، ص8 (13) وليام آدمز: النوبة رواق أفريقيا، ص 251
(14) المرجع الأسبق، ص 59-60
(15) لتتبع التفاصيل الدقيقة لغزو بعانخى لمصر، طالع موسوعة المؤرخ المصرى د. سليم حسن (موسوعة مصر القديمة)
الجزء11 المنشورعام 1948م.
رابط الصور للنشر مع المقال:
https://we.tl/t-b6AGpzp6zx