المدنية والعسكرية وأثرهما على نمو وتطور الحضارات (1)

د. محمد عطا مدني
لا يرتبط هذا المقال بعلاقة مباشرة بمأساة السودان الحالية من حرب دمرت الأخضر واليابس، فى بلد (يحبو) نحو التطور بعد أكثر من ستين عاما من استقلاله، بسبب تصرفات بعض بنيه (غير البررة)، وبعض مكوناته الاجتماعية التى اعتمدت على أفكار إرهابية لا علاقة بينها وبين تراث وتاريخ هذا البلد الطيب. فالموضوع المطروح أكبر من ذلك بكثير، وله أصول ترجع لأخطاء فادحة صاحبت ظهور بعض الحضارات والدول، وذلك نتيجة اخفاقات خطيرة فى تقديرات الوعى الإنسانى وقتها. وللأسف الشديد، تكررت الأخطاء التاريخية القديمة عند بناء بعض الدول الحديثة والمعاصرة، التى لم تع دروس التاريخ جيدا، فحصدت الحصرم وتعثرت خطواتها، ووصلت إلى حافة الانهيار.
ومن المهتمين بتاريخ الحضارات البروفيسير العراقى (خزعل الماجدى)، المتخصص فى دراساتها، والذى كتب مؤلفات شملت كل الحضارات القديمة تقريبا، شارحا أسباب نشأة هذه الحضارات، وتاريخ تطورها، وعوامل سقوطها وزوالها، وقد حدد سبعة مكونات مادية، وسبعة مكونات معنوية تؤدى لاستمرارية الحضارات لأزمان طويلة، وبين المكونين وضع عنصرا خامس عشر، وذكر أنه لابد من تواجده وتوافره بنصيب كبير بين المكونين، لأنه يمثل المعيار الدقيق لتقويم مسيرة وتاريخ الحضارات، وذكر أن أى
حضارة تفتقد مكونا واحدا من هذه المكونات لن تدوم لزمن طويل، وفى حالة نقص عدد كبير من هذه المكونات، فسوف يسرع ذلك بانهيار هذه الحضارات.
وتشمل المكونات المادية: المكونات العلمية، الجغرافية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، المادية، والعسكرية. وتحتوى المكونات المعنوية على: الدين، التاريخ، القانون، الأدب، النواحى النفسية السيكولوجية، الفن، والحياة المدنية. أما العنصر الخامس عشر الذى يربط بين المكونين وهوالعنصرالأهم (الأخلاق)، على اعتبار أنه العنصر الذى (يضبط) عملية التطبيق الجيد للمكونين السابقين. وذكر (الماجدى) أن التوازن لا يكون بين المكونين بصفة عامة فقط ، وإنما كل مكون من المكونات الأولى، لابد وأن يتسق ويرتبط ويتكامل مع مايقابله من المكونات الأخرى.
فالعلم يتكامل مع الدين ولا يناقضه، ولا يجب أن يسيطر أحدهما على الآخر، ولا غنى للتطور عنهما معا بشرط التوازن والاتساق بينهما. فمن وجهة نظر إسلامية، يعتبر علم دراسة الطبيعة مرتبطاً بمفهوم التوحيد(وحدانية الله)، كما هو الحال مع جميع فروع المعرفة الأخرى في الإسلام ، حيث لا
يُنظر إلى الطبيعة على أنها كيان منفصل، وإنما كجزء لا يتجزأ من نظرة الإسلام الشاملة للكون والإنسان والحياة. إن النظرة الإسلامية للعلوم والطبيعة تتكامل معا، فالله سبحانه وتعالى خالق الكون وخالق الإنسان، وهو الذى قذف العلم فى قلبه. وهذا الرابط القوى بين الدين والعلم ينطوي على جانب مقدس في السعي إلى المعرفة العلمية، ويؤكد ذلك أن أول ما نزل من القرآن الكريم هو الدعوة إلى العلم وأداته الأساسية القراءة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (1). ولم يتخلف العالم الإسلامى إلا عندما فصل بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية. وفى هذا الشأن يقول الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه (النظرة العلمية): (لقد أعلن معظم أساطين الطبيعة، وعدد كبير من علماء الأحياء البارزين في الأزمنة الحالية، أن تقدم العلم حديثا قد أثبت بطلان المادية القديمة، ومال إلى تأييد حقائق الدين). (2)
وتتكامل الجغرافيا مع التاريخ بحيث لا يسبق أحدهما الآخر ولا يطغى عليه، فاتساع الرقعة الجغرافية لدولة ما إلى مدى كبير، بدون تاريخ موحد يربط بين مكوناتها، وتراث غنى ذو جذور ضاربة فى أعماق تلك الوحدة الجغرافية يعبر عن آمالها وآلامها، لا شك يهدد وجود هذه الوحدة الجغرافية الواسعة. والعكس صحيح، تاريخ عريق وغنى بمكوناته وأدبياته، على رقعة جغرافية ضئيلة الحجم، يهدد أيضا بقاء هذه الحضارة ويعرضها للزوال.
وترتبط السياسة بالقانون، ويحكم كل منهما الآخر، فالسياسة الحكيمة تنتج قانونا عادلا يساوى بين جميع مكونات المجتمع، كما أن القانون يحمى السياسة من جنوحها، ويضمن عدم انحرافها. والحديث عن المؤسسات السياسية واتساقها مع القانون، هو حديث عن الدولة العصرية وضمان استمرارها..!
ويتكامل الاقتصاد مع الأدب، أى أن غذاء الجسد لا يستغنى عن غذاء النفس والروح من شعر
ونثر ومسرح وتراث.. إلخ، فالأدب بجانب الاستمتاع بما يُكتب ويُقرأ، ينتقد، ويصلح ويعدل ما فسد
من خلال الأعمال النقدية والشعرية والمقالات النثرية والقصص، عاكسا الوضع الاقتصادى فى فترة زمنية معينة. فما كتبه الجاحظ فى (البخلاء) من أدب، يعد شهادة مهمة على الوضع الاقتصادى والاجتماعى الذى كان سائداً فى العصر العباسى الثانى.
كما تندمج النواحى الاجتماعية مع النواحى النفسية فى كيان واحد، لضبط السلوكيات الاجتماعية والنفسية، وذلك للعبور من مظاهر العنف والقسوة والعنصرية وحب الانتقام، إلى التسامح والصفح والمغفرة. (فلا تجد شخصا يشوه جثة قتلها، أو يطلق النارعلى جثة شخص ميت للانتقام منه، أو يذبح بالسكين شخصا يحتضر..!)، لأن هذه السلوكيات تعبر عن قمة الشذوذ المرضى النفسى والاجتماعى، ونقصان الدين والضمير والخلق القويم..!
وتتكامل أيضا النواحى المادية مع الفن، فالإبداع فى الابتكارات المادية لا يتحقق إلا بالمزج بين النواحى المادية والتصميم الفنى. فالإبداع مظهر مهم من مظاهر الحضارة يوضح أن مسيرة هذه الحضارة بخير، والفن عموما بأشكاله المتعددة ترقية للنفس والروح والبدن. وهو مقياس من مقاييس تطورالأمم. وغيابه فى وقت ما (3) يعنى أن تلك الأمة تعيش فترة تدهور لحضارة قد يكون مصيرها إلى زوال.!
وتتسق العسكرية مع المدنية، فالجيش يكونه المدنيون بالشروط التى يتطلبها المجتمع المدنى، وتحكمه العقيدة الوطنية، أما الجيوش التى تنمو عشوائيا فى غيبة عن رقابة المجتمع المدنى، تكون بلا شك وبالا على المجتمع، وتصل فى النهاية إلى أن تتآكل هى نفسها وتذوى وتنهار، ويتآكل معها المجتمع. ولهذا يجب ألا يعتقد الجنرالات أن قوة جيوشهم تعتمد على ما لديهم من أسلحة، بل تعتمد على قوة وإرادة المجتمع المدنى..!
وللأسف، يعتقد كثير من المسؤولين وخاصة العسكر، أن تكوين الجيوش الكبيرة والضخمة، وصرف ميزانيات كبيرة عليها، يساعد فى الحفاظ على الوطن من الأعداء، ويعطي الدولة الهيبة والمهابة، والقيمة العليا بين الدول. ولكن دروس التاريخ المستفادة، تعطينا رأيا معاكسا تماما، فنلاحظ أنه ما من حضارة تمتعت بجيوش جرارة، وقوة باطشة، إلا وصحب ذلك شعورا بالزهو الشخصى والجمعى للقادة والجنود، وما يترتب على ذلك من عنف وقسوة وعنصرية، وكان مصيرهذا النوع من الحضارات الانهيار والزوال. ومثال ذلك حضارات اليونان والرومان، والأشوريين والسومريين والفينيقيين، والتى كان مصيرها الاختفاء من صفحات التاريخ..!
—————————————————-
(1) العلق (1-5)
(2) برتراند راسل(2008):النظرة العلمية، ترجمة عثمان نويه، دار المدى، دمشق، سوريا، ط 1، ص 93 .
(3) فى الثلاثين عاما الماضية، غاب الأدب كما غاب الفن بأشكاله المختلفة.
مقال مفيد وموضوعى وفيه اثراء معرفى رائع