مقالات سياسية

لماذا كانت حربنا أسوأ حروب المنطقة على الإطلاق؟ (2)

(ذكريات ومقارنات حروب 67 و 94 و 2023 وما بينهم)

د. محمد عطا مدني

وفى حرب الحوثيين فى اليمن، والتى استمرت ٤ سنوات ولازالت مستعرة حتى الآن. سألت زميل من زملائنا القدامى وهو أستاذ بجامعة صنعاء. كيف حالكم مع هذه الحرب؟ قال: كل شىء تمام، المواد التموينية تملأ المحلات والباقى مفروش خارج الدكاكين، إمدادات الماء والكهرباء مستمرة، ولم تنقطع المدارس والجامعات عن أداء دورها، وتعمل المستشفيات بطاقتها الكاملة، والأمن مستتب تماما، فيما عدا بقع صغيرة تدور حولها المعارك..!

ويمكن أيضا الرجوع إلى المصادر الموثقة فى الإنترنت، عن حرب العراق وإيران، والحرب الأهلية فى لبنان، واجتياح الجيش الإسرائيلى لجنوب لبنان، والحرب الأهلية فى ليبيا بعد سقوط القذافى، وغيرها من الحروب، والتى لم يحدث فيها ماحدث فى الحرب الحالية فى السودان..!

ولأننا فى السودان لسنا استثناءا، ولسنا معزولون عما يحدث فى دول الجوار العربية والأفريقية، ولأن أخلاقياتنا المشهود لها فى الجوار العربى والأفريقى، تعصمنا من الوقوع فيما لم تقع فيه دول الجوار. فكان المفروض أن تكون حربنا – مع معارضتنا لوقوعها أصلا – بغير الصورة المأساوية التى حدثت بها، والتى كان يجب أن تكون أحداثها انعكاسا لأخلاقياتنا المعروفة والمشهودة. اشتباك محددود نتيجة غضب عابر، يعود بعده الجميع إلى مائدة المفاوضات. ولذك نجد عموم الجيران من العرب والأفارقة مصدومون.. وهم يتساءلون: ماذا حدث للسودان.. الشعب الطيب الوديع؟
وأنا مثل غيرى من المتسائلين والمندهشين أيضا، ماذا حدث لنا؟ وهل كانت حربنا ضرورية؟ ولماذا كانت تلك الحرب (مختلفة) و(متخلفة) و(فريدة) بين حروب المنطقة، ولا تعكس أخلاقياتنا ؟ فهل نحن مخدوعون فى أخلاقياتنا ولا ندرى؟ أم نحن متخلفون بشريا ولم نكتشف ذلك، وقد كشفت هذه الحرب عن عوراتنا المخبوءة فى تلافيف الغلاف الطيب الذى يغطى وجوهنا الحقيقية؟ أم أننا طيبون، ولكن عيبنا الوحيد أننا سمحنا لمن لايرحمون بأن يتحكموا فى مصيرنا ؟

أستطيع – بجهد المقل – أن أضع يدى على مشكلتين رئيسيتين، قد تكونا السبب فيما نحن فيه من مشكلات. أولهما قديمة وهى استخدام البندقية لحل المشكلات التى تواجه مكوناتنا السودانية، فنحن بحمد الله لم نواجه عدوانا خارجيا منذ استقلالنا عام 1956م. ومع أن مشكلاتنا جميعها داخلية إلا أننا واجهنا كل اختلافاتنا مع بعضنا باستخدام البندقية، بداية من تمرد أنانيا (one)، ثم أنانيا (two)، ثم الحركة الشعبية بفصائلها المختلفة، وأهمها تمرد فصيل الراحل قرنق، ولا أنسى أيضا المحاولات الإنقلابية التى لوثت تاريخنا السياسى بالدم، وفى كل هذه المواجهات فشلت البندقية فى الحل، أما فى حالة الإنقلابات، فقد سالت فيها الدماء أنهارا، وظن أصحابها أن الأحوال قد هدأت بموت الإنقلابيين الجدد الذين انقلبوا على الإنقلابيين القدامى، وهم لايدركون أن أطياف الموتى تظل فى تاريخنا نارا تحت الرماد، كامنة فى وجدان اليتامى والأرامل وأهالى القتلى ظلما، تنتظر اللحظة التى تنفجر فيها وتحرق الأخضر واليابس..!
وقد أدى استخدام البندقية فى حرب الجنوب إلى انفصاله، كما أدى استخدام البندقية لإخماد حركات المطالبات الشرعية فى دار فور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان وشماله، إلى مزيد من إراقة الدماء ولم تُحل مشكلة واحدة، بل زاد استخدام البندقية المشكلات تعقيدا..! وبعد إزهاق الكثير من الأرواح، كنا نلجأ إلى المفاوضات فى النهاية، والتى كانت تنجح فى كثير من الأحوال.

ألا يمكن قبل استخدام البندقية أن نستخدم المفاوضات أولا بلا كلل أو ملل عدة مرات لحل مشكلاتنا، حتى نصل إلى حلول مرضية فى النهاية؟ على اعتبار أننا مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى عن كل روح تُزهق ظلما، (فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة.

أما الإنقلابات العسكرية والانقلابات المضادة لها، فسوف تتوقف عندما نستطيع بناء الدولة المدنية ذات السلطات المنفصلة والقضاء المستقل، وسيادة السلطة المدنية على الجيش، وتبادل السلطة سلميا عن طريق انتخابات حرة ونزيهة مثل بلدان العالم المستقرة، والذى ساعد استقرارها على تنكبها طريق التطور والتقدم.

أما المشكة الثانية الأحدث نوعا ما فى مجتمعنا السودانى، فهى وجود بعض الجهويات الحزبية التى انفردت بالحكم مسبقا لثلاثة عقود، وفشلت فى قيادة البلاد نحو النمو والتطور، وقد اتفقت أهدافها وأدبياتها مع أهداف عساكرها، مؤيدة الاستمرار فى استخدام (البندقية) وأيضا (السجن) و(التعذيب) و(التصفيات الجسدية) و(التغييب القسرى) و (التشريد إلى خارج البلاد)، للقضاء على المعارضين المختلفين مع توجهاتهم، ومع ذلك، فشل العنف بكل صوره فى استقرارهم فى الحكم.

وأريد أن أقول فى هذا الشأن لمن يدّعون الإسلام زورا وبهتانا وكذبا على الشعب، بل على الله سبحانه وتعالى، بتأويل آيات القرآن الكريم، وتحويرالفقه الإسلامى حسب أهوائهم ومصالحهم، إن المجتمع السودانى عريق فى إسلامه، وفى اعتقادى، ومن معايشاتنا فى بلدان عربية أخرى خارج السودان لسنوات عديدة – أؤكد كما يؤكد كثيرين غيرى من السودانيين ومن غير السودانيين أيضا، أن إسلام أهل السودان – بحمد الله وشكره على نعمه علينا- فطرى وأصيل، وأفضل من تدين بعض البلدان التى كانت المهد الأول للإسلام، فلدينا خلاوى تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة فى كل قرى السودان الواسع، ولدينا جامعات إسلامية عريقة، كما أن الجامعة الوحيدة فى العالم للقرآن الكريم وعلومه موجودة فى السودان. ولدينا من علماء الإسلام ما يكفى لتجديد الفكر والوعى الإسلامى للشعب باستمرار، ولذلك لا نحتاج لأفكار جماعات اسلامية متعارضة من هنا وهناك، ممن يكفر بعضها البعض، وممن يظن بعضها أن إسلامه أفضل من إسلام الآخر، وهذا مما يوقع المجتمعات فى الفتن والقلاقل المستمرة.

هذا من الناحية الدينية، أما من الناحية السياسية، عندما تحاول بعض الفرق الدينية – حتى لو كان إسلامها صحيحا – الاستيلاء على السلطة المدنية وعلى الجيش، وتسخيرهما لتحقيق أغراض بعيده عن آمال وطموحات الشعب السودانى فى الحرية والديموقراطية والعيش الكريم، فتلك المحاولة لابد وأن تبوء بالفشل، وهذا ما آلت إليه الأمور أخيرا، واندلعت الحرب بين هذه الفئة وبين مولودهم غير الشرعى، فى صراع واضح على السلطة وعلى ثروات البلاد.

والسؤال المطروح الآن، لماذا اختلفت هذه الحرب عن حروب السودان السابقة، كما اختلفت عن الحروب التى مرت بالمنطقة العربية وبعض الدول الأفريقية؟ بمعنى، لماذا كان التخريب وتدمير مقدرات الدولة والشعب هدفا من أهداف هذه الحرب؟ أم هى تأديب للشعب السودانى الذى لم يقتنع بأطروحاتهم، ولم يكسره العنف والقتل الممنهج منذ انقلابهم المشؤوم عام 1989 حتى الآن؟

لقد وضح جدا من تهديدات سدنة النظام السابق قبل الحرب، والتى كانت تؤكد دائما على أن وجودهم فى الحكم ضرورى حتى لاينزلق السودان إلى مصير سوريا وليبيا، وكأنهم أوصياء على أمن الوطن والمواطن وبقية جموع الشعب قاصرون، وهذه التهديدات ثابتة بالعديد من المقاطع المسجلة صونا وصورة ، ومنها أن أحد العسكر فى قيادة جيش السودان المختطف، وهو ينتمى إلى سدنة النظام السابق، صرح قائلا فى فيديو متداول (ياسودان بفهمنا.. يا مافى سودان..!).

أعتقد أن سيناريو هذه الحرب، كان مكتوبا مسبقا وبدقة شديدة، وتم إخراجه بواسطة عباقرة أشرار، تخصصوا فى إشعال أكثر الحروب خبثا وفسادا وتدميرا لمقدرات الأوطان والشعوب، وقد تميزت حروبهم وصراعاتهم – حتى مع بعضهم – بانعدام (الشعور الدينى) و(الضمير الإنسانى) كما لم يحدث فى تاريخ البشرية..!

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. المشكلة الاساسية في السودان تقع حسب اعتقادي في أمرين اثنين و ما تبقى يتفرع منهما

    االأمر لاول : الاستعلاء القبلي او العرقي من قبل مكونات معروفة على غيرها ممن تعتبرهم اقل منها و على سبيل المثال المهذب فقط , نحن لدينا مصطلح الهامش الذي لا تجد له مثيلا في دول الجوار الافريقي او العربي . في ليبيا و كذلك اليمن يوجد للقبيلة تأثير و لكن لمحدودية الاستعلاء هناك لم يصل الخراب المستوى الذي وصله في السودان

    الأمر الثاني : تضليل أو تجهيل المجتمع بواسطة النخبة المتعلمة و الارث الخاص بنظرية الشيخ و المريد . هذا التضليل يستخدم كثيرا لقلب الحقائق و السواقة بالخلا
    مثلا : ايام حكومة البشير اثارت المعارضة حينها الاحتجاجات ضد اعلان حكومة معتز ( المؤتمر الوطني) الرغبة في رفع الدعم عن بعض المواد و عندما وصلت المعارضة ( قحت) الى الحكم في الفترة الانتقاية نفذت عمليا نفس رفع الدعم و بطريقة أشد و انكى و اعتبرت ذلك خطوة في التجاه الصحيح . ايضا كان الدعم السريع توأما للجيش و مدافعا عن الوطن و عندما نشبت الحرب قبل ستة اشهر و زيادة , اصبح نفس الدعم السريع محنلا أجنبيا و عصابات و مليشيا مسلحة , بل تم الدعوة الى تصنيفه جماعة ارهابية

  2. الخلل كبير في السودان لكن اكبر خلل موجود في رؤوس النخب السياسية والثقافية ومالم ينصلح حال هذه النخب لن نتقدم للأمام..الاصلاح الذي اقصده يتمحور حول كيفية إدارة الاختلاف والقبول بالآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..