مقالات سياسية

السودان ومصر: علاقة شائكة..! (1)

الاعتماد على تحليلات التاريخ الصحيح بين البلدين يمكن أن يؤسس لعلاقة ناجحة..!

د. محمد عطا مدني

سيظل لمصر- شئنا أوأبينا- علاقة بما يحدث فى السودان من تطورات سياسية تفرضها علاقة الجيران والتاريخ المشترك وصلة الدم، (بسلبيات هذه العلاقة أوإيجابياتها)، مثلها مثل العلاقة مع الجيران الشرقيين أثيوبيا وإريتريا، والغربيين –تشاد- أساسا، وبنسب أقل ليبيا وأفريقيا الوسطى، وبنسبة أعظم مع إخواننا الأعزاء فى جنوب السودان.
وعلى مر السنين كانت تؤرقنى طبيعة العلاقة بين موطنى السودان وأقرب جيراننا مصر، والتى لم تكن فى أحسن أحوالها دائما، حيث كانت تمر بسنوات من الصفاء، وأخرى من التكدر وسوء التفاهم، ويشوبها فى غالب الأحوال عدم الثقة المتبادلة، ولم يصلح أحوالهما ماكان يتردد فى اللقاءات المتباعدة بين الزعماء والمسؤولين من عبارات على شاكلة (الصلات التاريخية والأزلية)، لأن المشكلة التى يتهرب من مناقشتها الجانبان هى تلك (العلاقات) التى تُفهم فى مصر، بطريقة تختلف تماما فى درجة فهمها واستيعابها ومدلولاتها عنها فى السودان. ولا يغيب عن البال حساسية الموضوع من الجانبين، وعدم السماح بنشر مايتعلق بمناقشة هذه العلاقات بصراحة، حرصا من كل طرف على مشاعر الطرف الآخر، ولكن لمصلحة هذه العلاقة أرجو أن أتخلى عن حذرى وأتحدث فيما كان ممنوعا التطرق إليه بخصوص هذه العلاقة، وذلك بغرض تصحيحها لمصلحة الشعبين.

فمن جانب مصر، يعتبر السودان بالنسبة لها (حقا ضائعا) أبعدته عنها السياسة البريطانية فى السودان، كما تعتبرمصرالسودان امتدادا طبيعيا لشعبها الذى ضاقت عليه رقعته الزراعية، كما أن له جانبا مهما فى إطار الأمن القومى المصرى، ومن ناحية اقتصادية يعتبر السودان مصدرا مهما جدا لأمنها الغذائى، ومعينا لاينضب لكثير من المواد الخام التى تتطلبه صناعاتها المختلفة، وفى نفس الوقت منفذا مهما لتصدير الفائض من انتاجها الصناعى والزراعى، خاصة أن استيراد وتصدير هذه المنتجات يتم بالعملة المحلية، والأهم من ذلك كله، تحرص مصر(الرسمية) على أن يكون نظام الحكم فى السودان متسقا مع سياساتها، للمحافظة على أهم ملف لديها، وهو ملف مياه النيل..!

أما من جهة السودان وشعبه، فالعلاقة تبدو متناقضة إلى حد كبير، حيث ينظر شعب السودان لمصر فى إطار أخوة لايمكن الإستغناء عنها، لأن الشعب المصرى أقرب الشعوب العربية إليه، كما يراها مصدرعلم وثقافة لأجيال متوالية من شعبه، ولكنه ينظر إلى مصر فى نفس الوقت – تاريخيا – بصفتها منفذا أتى منه الاستعمار زحفا على بلاده، من استعمار تركى إلى احتلال بريطانى سارت فى ركابهما جيوشا مصرية، شاركت مع المستعمرين فى إراقة دماء آلاف السودانيين عبر تاريخ طويل من المقاومة الشرسة من شعب السودان لهذين النوعين من الاستعمار.
وقد نسى أو تناسى السودانيون هذا التاريخ الدامى المشترك، لأن جيش مصر كان محكوما بقوانين وأوامر المحتل الأجنبى، ورغم محاولة الشعب السودانى نسيان هذا التاريخ، (بعفو الضحية عن الجلاد وإيجاد العذر له)، إلا أن بعض الصحفيين المصريين يصرون على أنهم كانوا جلادين، وأن السودان كان مملوكا لمصر، ويحتجون بمقولة (فاروق الأول ملك مصر والسودان)..! اعتمادا على قرارأصدرته مصر (بطريقة منفردة عن بريطانيا) برقم 176 فى 15أكتوبر عام 1951م بتغيير لقب الملك فاروق من (ملك مصر) إلى (فاروق الأول ملك مصر والسودان)، كمحاولة يائسة منها لإيجاد موطىء قدم لها فى السودان، لأنها لم تكن راضية عن اتفاقية عام 1899م، والتى أطلقت يد بريطانيا فى السودان مقلصة أى نفوذ مصرى هناك.

ولشرح خلفية هذا القرار(للأخوة الصحفيين بمصر) والذى وافقت عليه بريطانيا، أو على الأصح أوحت به ترضية لمصر ولحاجة فى نفس بريطانيا، فقد كانت الدول الإستعمارية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تلحق المستعمرات بتيجان ملوكها، فكانت الهند درة التاج البريطانى، وكان الكونغو درة التاج البلجيكى، والسبب فى إلحاق المستعمرات بتيجان الملوك هو أن ملوك أوروبا كانوا ينفقون على حملات استكشاف المستعمرات من أموالهم الخاصة. وعليه، كانت المستعمرات ملكية خاصة بالملك حتى لا تستفيد الشعوب الأوروبية من خيرات هذه المستعمرات. وفى حالة السودان نصحت المخابرات البريطانية حكومتها بإلحاق السودان بالتاج المصرى وليس بالتاج البريطانى، لأن الشعوب البريطانية كانت فى ذلك الوقت أكثر الشعوب الأوروبية وعيا بالسياسة، وكانت برلماناتهم تطالب بحقوق شعوبها فى خيرات الهند. ولهذا تم الإيحاء لمصر بإصدار قانون يلحق السودان بالتاج المصرى، وهذا القانون من ناحية يعتبر إرضاءا لمصر ولتطلعاتها فى السيادة على السودان ولو إسميا، وفى نفس الوقت يعتبر حلا مناسبا بإبعاد السودان عن أطماع الشعوب البريطانية فى خيراته.

وإذا سلمنا – جدلا- بأحقية التاج المصرى بملكية السودان، مع أنه لا توجد مبررات لذلك، لأن دور مصر فى السودان كان مساعدا للأتراك ثم الإنجليز فى احتلال السودان، ولم يكن دورها أساسيا فى هذا الشأن، ولكن اذا سلمنا جدلا بذلك، فانتهاء الحكم الملكى فى مصر عام 1952م يعنى سقوط ادعاءات تلك الملكية إلى الأبد، ولا حق لأى جهة مصرية أن تدعيها أو حتى تتحدث عنها مجرد حديث، فالسودان مما خلقه الله سبحانه وتعالى كان ولا يزال وسيبقى ملكا لأهله.

وقد تكللت جهود شعب السودان ورغبته الطبيعية فى ممارسة حياته بحرية كاملة على أرضه بالاستقلال عام 1956م، وبتطبيق نظام ديموقراطى تمثل فى تأسيس جمهورية برلمانية، ومجلس شعب منتخب. ولم يكن ذلك ماتتمناه مصر تحت حكم عسكر يوليو من الضباط الأحرار، وكانت تتمنى أن يتحد السودان معها فى وحدة اندماجية، وقد بذلت فى ذلك جهودا مضنية قام بها الصاغ صلاح سالم فى السودان، كما حاربت بكل إمكاناتها السياسية ألا ينضم السودان للكومنولث البريطانى، كفكرة عرضها الإمام عبد الرحمن المهدى. وقد حددت مصرهدفها وقتذاك بكل بدقة، أن يتحد السودان معها، أو يستقل على احتمال أن يحكمه عسكر حتى يسهل التفاهم معهم، ولهذا شجعت تولى الجنرال ابراهيم عبود الحكم فى السودان فى 17 نوفمبرعام 1958م، كما شجعت انقلاب نميرى فى 1969م، وانقلاب البشير فى 1989م، ولم ترحب بحكم الصادق المهدى كرئيس وزراء منتخب عام 1986م.

ومن هنا بدأ تناقض أهداف مصر فى السودان مع أهداف الشعب السودانى ونظرته إلى مستقبله السياسى الذى رسمه لنفسه، وباتت العلاقة بينهما (مأزومة) كما وصفتها الدكتورة أمانى الطويل فى كتابها بعنوان (العلاقات المصرية السودانية، جذور المشكلات وتحديات المصالح) وتعتبر مؤلفة هذا الكتاب خبيرة فى العلاقات السودانبة المصرية، وهى باحثة مجتهدة وأيضا صحفية، وعضو مجلس إدارة مركز الدراسات السودانية بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية في جامعة القاهرة ، وقد عملت كاستشارية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان بين عامي (2005 و2006) ، وسوف أحاول وضع أفكارى الخاصة بمحاولة تصحيح العلاقة بين الدولتين من خلال تعليقى على كتاب الدكتورة الفاضلة، وما ورد فى كتابها من معلومات مهمة لنا كسودانيين، وما تضمنه من تحليل صادق للمشكلات العالقة بين الدولتين كنا نفتقده فى كتابات الطرفين.

وقد وصفت الكاتبة المحترمة الدكتورة أمانى الطويل العلاقات بين السودان ومصر، بأنها (مأزومة) بقولها: (إن علاقة مصر بالسودان، ولاعتباراتٍ متعلّقة بالتاريخ والجغرافيا وثوابت الأمن القومي والمصالح المشتركة بينهما، لم تخرج من نفق الوضع (المأزوم) طوال تاريخها، لتقدّم نموذجًا فريدًا من المدّ والجزر في حركةٍ دائرية تأبى أن تتقدّم إلى الأمام). (1)
وهى صادقة فيما ذكرته وقد عبرت عنه بدقة شديدة، وسوف أحاول – فى هذا المقال- تحليل هذه العلاقة منذ بداية التاريخ لتوضيح أسباب هذه العلّة، التي لم تُخرج العلاقات بين الدولتين من نفق الوضع المأزوم طوال تاريخها – حسب وصف الدكتورة – ومحاولة اقتراح بعض الحلول، لأن الكاتبة شخصت الأزمة بحيادية تحسب لها بوجه عام، ولكنها لم تضع الحلول لها. وإنما ركزت فى نهاية الكتاب على أسباب (فشل) مصر فى مهمتها فى ضم السودان أو الوحدة معه (وهذا هو الأهم بالنسبة لمصرفى رأيها)، متجاهلة تماما كفاح الشعب السودانى فى سبيل نيل حريته.. وسيادة بلده !

وأساس العلاقات (المأزومة) – حسب وصف مؤلفة الكتاب – هو الإدعاء المصرى الذى – كان ولا يزال- يعتقد بأن السودان ضمن أملاك مصر، ولقد أفادتنا الدكتورة الفاضلة – بشفافية نشكرها عليها- بمعلومات كنا نجهلها كسودانيين -عن عقلية وعقيدة ومنطق بعض النخب من السياسيين المصريين والكتّاب بأجيالهم المتعاقبة عن (ملكية مصر للسودان)، وسأورد هنا بعض مما نشرته فى كتابها المشار إليه و(المهم جدا لنا)، لنعرف وندرك ونفهم طريقة تفكيرالصفوة من السياسيين والكتّاب المصريين تجاه وطننا السودان ، وعلى أساس هذا الإدراك والفهم نستطيع تكوين طريقتنا الخاصة للتعامل مع مصر، لأن المهم معرفة نيات كل طرف تجاه الآخر، والمختفية وراء عبارات الأخوة والعلاقات الأزلية، ونتيجة غموض هذه النيات، كان الإمام عبد الرحمن المهدى دائما يقول (أتمنى أن تفصح مصر عن أهدافها فى السودان حتى نستطع أن نفعل شيئا من أجلها). وقد أوضحت لنا الدكتورة الفاضلة أمانى الطويل فى كتابها قسما من هذه النيات التى كنا ندرك بعضها على وجه العموم، ولكن كتابها أوضح لنا من التفاصيل ما يفيدنا عند صياغة رسالتنا السياسية والتفاوضية مع جارتنا (القدرية) والأقرب لنا مصر.

تقول الدكتورة فى كتابها: (إن التفريط المصرى بالسودان، كان محلا للمزايدات بين الأحزاب السياسية المصرية فيما قبل يوليو 1952م ، كما أنه ارتبط – أى التفريط – بمصالح كبار المُلاك من
المصريين الذين رأوا فى السودان إمكانية لامتداد نشاطهم الرأسمالى). وهذا لاغضاضة فيه، ولكن المأساة الأكبر (بالنسبة لنا كسودانيين) كان موقف الحقوقيين المصريين (الذين جذروا ما اعتبروه حقوقا ومصالح مصرية فى السودان على أسس وأسانيد قانونية)..! وتستطرد الدكتورة قائلة: (وبطبيعة الحال كانت أحزاب نظام ماقبل ثورة يوليو لم تستطع أن تعلن عن تفريطها فى السيادة المصرية على السودان، وما يستتبع ذلك من تفريط فى الحقوق الملكيّة للتاج المصرى، أحد أهم أضلاع النظام السياسى المصرى وقتذاك. فقد أيدت أحزاب المعارضة وهى أحزاب الإسلام السياسى مثل جماعة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة الحفاظ على السيادة المصرية فى السودان باعتبارها مجالا حيويا مصريا لهم، أما أحزاب الحكم مثل غالبية الوفد وأقلية السعديين والأحرار الدستوريين والتى انطلقت من قاعدة السيادة المصرية على السودان، فكانت ترفض بإصرار أى تغييرات ترتبت على الثورة المهدية – أى تحرر السودان من الإنجليز- أو ترتبت على اتفاقية 1899م التى رسخت حكما منفردا للإنجليز فى السودان..!) (2)

وفي هذا السياق يُنسب للزعيم المصرى الوطنى مصطفى كامل قوله : (يامعشر المصريين، يجب أن تعتقدوا أن حقوقكم فى السودان ثابتة، وعلموا أبناءكم صغارا معنى هذه الحقوق المقدسة ليطالبوا بها كبارا ويحافظوا عليها)..! (3)

كما وجه (عميد الأدب العربى) الدكتور طه حسين اتهاما لمحمد صلاح الدين وزير خارجية مصر وقتذاك، بسبب طرحه فكرة تقرير مصيرالسودانيين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة فى باريس فى نوفمبر 1951م. أما الجهة الوحيدة فى مصر التى كانت تؤيد إعطاء حق تقرير المصير للسودانيين هى أحزاب اليسار، حيث تبنت الحركة المصرية للتحرر الوطنى (حدتو) الكفاح المشترك للشعبين المصرى والسودانى ضد الاستعمار البريطانى. (4)

هكذا كان المشهد السياسى المصرى قبيل ثورة يوليو 1952م، يعتمد إجمالا على الإيمان بسيادة مصر على السودان إلى الحد الذى أسقط حكومة إسماعيل صدقى عام 1946م، وجعل محمود فهمى النقراشى فى كتاب تأليف وزارته أمام مجلس النواب يتعهد بالعمل على وحدة وادى النيل تحت التاج المصرى، ويقدم شكوى أمام مجلس الأمن الدولى فى سبتمبر عام 1947م للحصول على جلاء بريطانيا عن مصر، ومتهما إياها بمحاولة (فصل) السودان عن مصر. (5)

وسوف أفند الإدعاءات المصرية بملكية السودان – بإذن الله تعالى- فى المقال التالى.

[email protected]
———————————–
(1)أمانى الطويل (2012): العلاقات المصرية السودانية ، جذور المشكلات وتحديات المصالح – قراءة وثائقية، المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات. القاهرة. ص 9
(2) العلاقات المصرية السودانية ، ص 15
(3) المرجع السابق، ص 16
(4) المرجع الأسبق، نفس الصفحة
(5) المرجع الأسبق ، ص17

تعليق واحد

  1. اذا اردنا الحديث عن العلاقات بين السودان و مصر فينبغي ان تكون نقاط الحديث الرئيسة نابعة من واقعنا و متطلباتنا و مصالحنا و مشاكلنا .
    هكذا تبنى العلاقات بين الدول و الا فليفتحوا الحدود من الطرفين .

    لا يمكن ان نخدع انفسنا بشعارات ثبت كذبها و نفاق من يطلقونها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..