مذكرات الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلنتون بعنوان: حياتي My Life

السفير محمد المرتضى مبارك إسماعيل
في سفر ضخم قارب الالف صفحة جاءت مذكرات الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلنتون وفق تبويب غير تقليدي باقتصاره على اجزاء من الاول الى الخامس والخمسين كانما اراد ان يشير الى ان وقائع الحياة واحداثها تتزامن دون فصل بين الرسمي والشخصي والسياسي والاقتصادي بل تتداخل وتؤثر على بعضها البعض.
اتسمت حياة كلنتون الأسريه بالتقلبات بعد ان ولد يتيما، اذ قضى والده في حادث سير وامه حامل به في شهرها السابع وظلت بعد مولده تكافح لنيل شهادة التمريض والعمل بعيدا عن اهلها في ولايات اخرى مما اضطرها لتركه تحت رعاية والديها ونشأ في بيئة شديدة التنوع بولاية اركنساس رغم غلبة اهله البيض على سكانها ،ولعل تلك التنشئة والبيئة جعلته شديد الحساسية والمناصرة لقضايا الاقليات والمهمشين من سود واسبان ومهاجرين ونساء الامر الذي جعل بعض قادة الافارقة السود يصرحون بانه اول رئيس اسود لامريكا، ونقل عنه قوله ان تلك شهادة يعتبرها أقيم من نيل جائزة نوبل.
ظل كلنتون ثابتا في مواقفه المناصرة للمساواة والعدالة الاجتماعية طوال سني عمله السياسي الطلابي في المدارس العليا وجامعة يل وهارفرد وجامعة اكسفورد التي نال فيها منحة دراسية لعامين مكنته من بناء صلات والتعرف عن قرب على المجتمع السياسي والفكري في بريطانيا وزار خلالها روسيا ومعظم الدول الاوربية، كما اكتسب خبرات واسعة في عمله في حملات العديد من المرشحين الديمقراطيين لمنصب حاكم ولاية اركنساس ومجلس الشيوخ الامريكي، وكانت هذه الخبرات خير معين له للانتقال لمرحلة السياسي الناضج الذي عجمت عوده التجارب ،الشئ الذي مكنه في البدء من الفوز بانتخابات مدعي عام ولاية اركنساس ثم حاكما للولاية والتي استطاع ان يفوز فيها بعدة دورات انتخابية جعلته حاكما عليها لاثنتي عشر عاما. وقد زكته انجازاته في ولاية اركنساس وما ناله من شهرة كاحد افضل حكام الولايات والخبرات الكبيرة التي راكمها على صعيد بناء وادارة الحملات الانتخابية ومجموعات المساعدين الكثر الذين استقطبهم للعمل معه وامنوا بتوجهاته، للترشح والفوز بمنصب الرئيس بعد فوزه على الرئيس بوش الاب في العام 1992.
وبعد رحلة كفاحه في منصب حاكم الولاية التي تمكن خلالها من تطوير التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية وبيئة الاستثمار بتطوير شراكات للولاية مع دول اسيوية، فضلا عن تعزيز حقوق الفئات المهمشة من مراة واقليات ومعاقين، استطاع الرئيس كلنتون خدمة تلك القضايا على المستوى القومي وتوسيع اطارها وبلورة فلسفتها باعتبارها الطريق الثالث الذي يدعو الى تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم الفئات المهمشة لتحقيق التوازن في المجتمع مع المحافظة على مبادئ الاقتصاد الحر. وقد تبنى ذات التوجه انئذ توني بلير في بريطانا وجين كريتيان في كندا وجيرهرد شرودر في المانيا واخرين. وهي فلسفة مؤداها انه في اعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة قد ان الاوان لانهاء الاستقطاب بين تطرف اليسار واليمين واختيار طريق ثالث يحافظ على قيم الدين والاسرة والعدالة الاجتماعية وكفاءة ومبادرة اقتصاد السوق وقيم حقوق الانسان وتمكين المرأة.
وقد ورثت ادارة كلنتون عجزا ضخما في الموازنة من سلفها ادارة بوش الاب بلغ اربعة ترليونات دولار نتيجة للاعفاءت الضريبية الكبيرة التي بذلتها الادارات الجمهورية لصالح كبار رجال الاعمال وفق فلسفة الحزب الجمهوري الذي يؤمن ان ذلك سيؤدي الى ازدهار الاقتصاد مما ينعكس بدوره ( ينداح ) لصالح الفئات المتوسطة والفقيرة، خلافا لفلسفة ادارة كلنتون التي دعت الى فرض ضرائب اكثر على طبقة كبار الاعمال واعفاءات ضريبية لصالح الطبقة الوسطي لتخفيف المعاناة عليها فضلا عن العديد من المبادرات لدعم الفئات الفقيرة والمهمشة ما من شأنه ان يؤدي الى ازدهار الاقتصاد بما يفيد حتى طبقة كبار رجال الاعمال. ولعل الوقائع اثبتت صوابية نهج الحزب الديمقراطي بعد ان استطاعت ادارة كلنتون خفض ذلك العجز الكبير بمتواليات كبيرة وصولا الى بناء فائض ميزانية سنوى على مدى سنواته الثلاث الاخيرة من عمر دورته الثانية. وظل يقاتل لاجل ان توظف تلك الفوائض لصالح التامين الصحي الشامل الذي يوفر التغطية لملايين الامريكان الذين هم بلا تامين صحي من خلال تبسيط وتطوير النظام بما يقلل كلفته ويزيد فعاليته اسوة بالعديد من الدول الاوربية. كما اراد ان تذهب نسبة من تلك الاموال لتكون اعفاءات ضريبية لصالح الطبقة الوسطى والعديد من مبادرات دعم الفئات الضعيفة ومحاربة الجريمة، ولكن الكونغرس باغلبيته الجمهورية اعاق اجازة تلك المشروعات.
امتدت انجازات ادارة كلنتون لتشمل حراكا ونجاحات واسعة على الصعيد الخارجي من خلال التدخل والتمكن من اخضاع ميلوسوفيتش والصرب رغم ما صاحب تدخله من تاخر ادى لمذابح مروعة ساهم فيه تواطوء وعدم حماسة العديد من القوى الاوربية، وقد افاد من ذلك في تدخله الوقائي والفعال في كوسفو، كما كانت ادارته عنصرا هاما في احلال السلام في ايرلندا وبورندي وبذل جهودا كبيرة في دعم التحول الديمقراطي في روسيا في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وفي دعم انضمام الصين الى منظمة التجارة العالمية. وكانت فلسفته وسجل انجازه مقنعا على صعيد دعم العولمة والاعتماد المتبادل ، ولكن دون اضرار بالدول النامية والفقيرة لذلك كان من اهم واوائل الداعين لمبادرة الغاء ديون الدول الفقيرة.
وقد حدثت اخفاقات محدودة في سياسته الخارجية منها تدخله الفاشل في الصومال تحت راية الامم المتحدة وقصف مصنع الشفاء للأدوية في السودان والتي اشار الى ان ثمة ادلة بضلوعه في تصنيع اسلحة كيمائية وان البعض اتهمه بان القصف الذي شمل اهدافا في أفغانستان كان المقصود منه صرف الانظار عن تورطه في قضية مونيكا لوينسكي. ولا شك ان التعويض المالي الذي ناله مالك المصنع لاحقا من الحكومة الأمريكية إقرار بخطأ تقدير ادارة كلنتون.
مكنت تلك الانجازات الكبيرة والتموضع الذكي في الفلسفة والممارسة ادارة كلنتون من توقع التحديات الجديدة التي ستشكل تهديدات وجودية على البشرية كقضايا البيئة والمناخ واسلحة الدمار الشامل والارهاب الذي دعا لعدم الاكتفاء بمعالجة مظاهره وانما مخاطبة جذوره في القهر والظلم والفقر وانسداد الافق. وقد حققت ادارته انجازات كبيرة داخلية وخارجية على اصعدة تلك القضايا الدولية والتي تعد مشكلات البيئة وتغير المناخ من اهمها. ومن آيات اهتمامه بها انها كانت العامل الحاسم في اختيار آل قور كنائب له نظرا لخبرته الكبيرة في ذلك المجال ، مما اتاح له تحقيق فتوحات اكبر في ذلك المجال بعد خسارته معركة التنافس للرئاسة لصالح بوش الابن، كان من أبرزها فوزه بجائزة نوبل للبيئة.
لكل ما تقدم لم يكن بدعا ان يتمكن كلنتون من الفوز بدورة رئاسية ثانية وهو انجاز لم يحققه اي رئيس ديمقراطي خلال ستين عاما منذ العام 1969، رغم الفضائح الجنسية التي تورط فيها واستغلها الجمهوريون بصور مستميتة لاجل عزله عن الرئاسة ولكنه افلح بالصبر والمثابرة وعدم التدخل في الإجراءات العدلية رغم تحيزها الفاضح، من هزيمة قرار العزل في بداية دورته الثانية ولم ينصرف للانتقام والثار وانما كان متسامحا وركز على تحقيق اكبر معدلات ممكنة من الإنجاز الداخلي وفي السياسة الخارجية مما اكسبه تعاطفا شعبيا جارفا وجعله احد اكثر الرؤوساء الامريكان شعبية وهو يغادر مقعد الرئاسة بشعبية قاربت السبعين بالمائة.
واختم هذا العرض بالتساؤل التالي : هل لنا في سودان الغد، بعد انتهاء هذه الحرب وعودة الامن والنظام واستدامة السلام، ان نطمح الى صراع سياسي نزيه منتج وبناء بين احزاب على اسس فكرية وسياسية في اطار دستور جامع يعبر عن القيم الاساسية للشعب. دعونا نامل ذلك.