ثورات السودان.. من أكتوبر إلى ديسمبر.. خيبة الساسة أم مكر العسكر؟

بقلم: إبراهيم سليمان
ثورات السودان.. من أكتوبر إلى ديسمبر.. خيبة الساسة أم مكر العسكر؟/ بقلم: إبراهيم سليمان
يتفاخر الشعب السوداني، أنه معّلم الشعوب “الشرق أوسطية” في الانتفاضات، ومناهضة حكم العسكر، وهو توصيف لا يجافي الحقيقة، إذ سبقوا الجميع في 21 أكتوبر 1964م والتي تتكرر ذكراه العبق هذه الأيام، وأسقطوا حكومة الجنرال عبود الدكتاتورية، وقتها، لم يفتح الله على شعوب المنطقة سماع ثورة شعبية أو إدراك مفاهيم مثل الانتفاضة، ناهيك عن التفكير في أساليب ناجحة للتنظيم الجماهيري الفاعل، والاستعداد لتحدي آلة العسكر، والاستبسال بالأرواح من أجل مطالب الشعب.
تكررت ذات التجربة الفريدة في رجب أبريل 1985م، ثم ديسمبر 2018م، نجحت كافة الحراك الشعبي، في إسقاط الأنظمة الشمولية شكليا، بيد أن السودان ظل في مؤخرة شعوب المنطقة، تنميةً، وتسامحاً واستقراراً، ولم ينجح الشعب في تأسيس دولته المدنية ــ الديمقراطية، دولة الحلم، إلى أن أطلّت حرب الهوامش برأسها الكالح في الخرطوم وألحقتها بسوبا خرابا، ولا يزال الحبل على الجرار، فأين تكمن المشكلة؟
نلخص هذه المأساة ثم نفّندها. بلا تردد هي خيبة سياسية متكررة، ومكر عسكر متجذر.
بداية قصة، خيبة السياسي السوداني، بدأت من انهزام أفندية مؤتمر الخريجين أمام النفوذ الشعبي وسطوة الطائفية، في مضمار الممارسة الديمقراطية، وتهّور هؤلاء الأفندية، بسبب قصر نفسهم، وضيق نظرتهم السياسية، الأمر الذي أوقعهم في خطيئة التشفي والانتقام للذات، بمساندة نظام الفريق عبود، وخير مثال لذلك الأستاذ أحمد محمد خير (المحامي) أحد أبرز مؤسسي مؤتمر الخريجين، والذي تولى وزارة الخارجية حكومة انقلاب نوفمبر 58، نكاية في الطائفية. تلك السنة السيئة والمميتة، التي ظللت الرموز السياسية يتأسون بها، إلى يوم الناس هذا.
الخطية السياسية الثانية، تمثلت في حل وطرد الحزب الشيوعي السوداني، من داخل البرلمان بصورة غير دستورية في 9 ديسمبر 1965م، الأمر الذي أدخل البلاد في أزمة دستورية استمرت لمدة طويلة بين شد وجذب أطراف النزاع -الحزب الشيوعي والقوى التقدمية من جهة، والأحزاب التقليدية وجبهة الميثاق الإسلامي من جهة أخرى، ذلكم الحدث كان له ما بعده، إذ مهّد لانقلاب 25 مايو المدعوم من الحزب الشيوعي واليسارين عموماً، انتقاما للذات السياسية، ورد صاع الحل والطرد صاعين.
الخطيئة التي ارتكبتها القوى السياسية، إبان العهد المايوي، تمثّلت في إنشاق قوى المعارضة، وتوقيع ما عرفت بالمصالحة الوطنية في بورتسودان في 7 يوليو 1977م مع جعفر النميري، الأمر الذي مكن الجبهة الإسلامية القومية، في أتون الدولة العميقة ووسط قوات الشعب المسلحة.
وخطيئة المرحلة الديمقراطية الثالثة، التي أعقبت ثورة أبريل رجب، كان تمرير المؤامرة الانتخابية، بابتداع دوائر الخريجين، التي أعطت الجبهة الإسلامية اليومية، أكثر مما تستحق برلمانياً، وهو تواطؤ غير مبرر، مهّد لهم الطريق إلى المشاركة في الحكم، ثم الإنقاض عليه في 30 يونيو 1989م.
وخطيئة ثورة ديسمبر، تمثلت في وثيقة 2019م الدستورية، التي قطع الطريق أمام، كسح العسكر وأعوانهم من حزب المؤتمر الوطني، وقبول الساسة المتعجلين والمريبين (دعاة الهبوط الناهم)، بشراكة اللجنة الأمنية، لنظام عمر البشير، والتنازل عن تولي الفترة الانتقالية الأولى للمكون العسكري، الذي “لعب بهم سياسية”، وأظهر لهم الوجه الحقيقي في 25 أكتوبر، الذي مهّد لحرب ــ المدن وخراب الخرطوم في 15 أبريل 2023م
ومن المعلوم بالضرورة، أنّ انقلاب الجنرال عبود، كان بإيعاز من حزب اللأمة، رغم الإنكار التاريخي المستمر، وأن انقلاب مايو كان بمساندة الشيوعين واليسارين، وأنّ انقلاب 30 يونيو بمؤامرة الإسلاميين، ومساندة الاتحاديين فيما بعد، وأنّ انقلاب 25 اكتوبر 2021م بتحريض ومساندة حركات سلام جوبا.
يمكننا القول، أنّ عدم اتعاظ القوى السياسية السودانية، من أربعة انقلابات عسكرية، وثلاث انتفاضات شعبية، هو أن القوى السياسة ظللت تتكرر على المشهد السياسي، بشخوص رموزها، إلى حدٍ كبير، وبشحوم تنظيماتها، لذلك، ظلت تكرر ذات الفشل، انتفاضة تو الانتفاضة، وأن العسكر ظلوا هم العسكر، في عقليتهم الفاسدة، وطموحات قياداتهم و”رؤياهم” بالحكم، ولن يتغير حال البلد، إلاّ بمبارحة هذه التنظيمات للمشهد، أو خضوعها لتغيير جذري، وكذلك بإنهاء الجيش السوداني، الذي مرد على ممارسة السياسية، والإنقاض على الحكومات المدنية، بصورة تبدو طبيعية، كانقضاض القط البري على الفأر، وبناء جيش وطني وقومي، بمعزل عن جرثومة جيش دولة ــ 56، الشريك الأصيل، في نكبة ونكسة البلاد، وتخلفها عن ركب الأمم.
كان هذا ممكنا قبل الطوفان، أما بعده، فالشهد عصي على التخيّل.
//إقلام متّحدة ــ العدد ــ 121ـــ//