إعادة بناء النظام الصحي في السودان بعد الحرب – المساعد الطبي اللبنة الأساسية

د. أمجد إبراهيم سلمان
المساعد الطبي اللبنة الأساسية للرعاية الصحية الأولية المستقبلية
في كتابه تاريخ الطب في السودان منذ مملكة الفونج وحتى استقلال السودان في النسخة الإنجليزية أورد د. طارق الهد استشاري أول أمراض الغدد الصماء والموثق المواظب لتاريخ الطب في السودان الفقرة التالية عن بدايات تأسيس الخدمات الصحية الحديثة في السودان وخاصة الرعاية الصحية الأولية وقد وردت في الكتاب الفقرة أدناها:
” د. فنست هودسون ، نائب مدير الخدمات الطبية العسكرية السودانية (إس. إم. دي.) هو من أوائل الأطباء الذين وصلوا إلى السودان بعد عملية إسترداده من المهديين (إعادة احتلاله حسب تعبير المستعمرين) وهو أول من اقترح فكرة تدريب بعض الموظفين الإداريين في القطاع الصحي على بعض المهام الصحية البسيطة. وقد كانت الفكرة هي تقديم تدريب مكثّف لهؤلاء الموظفين في بعض الأمراض الشائعة وطريقة تشخيصها وعلاجها. وقد كان المسمى الذي أطلق على هؤلاء بعد نهاية التدريب هو (مساعد الطبيب) وقد تم تغيير ذلك المسمى لاحقاً إلى (المساعد الطبي) وكان ذلك قبل العام 1918م”.
ثم في فقرة لاحقة أورد تفاصيل تدريب هؤلاء المساعدين الطبيين
” الدفعة الأولى من هؤلاء المساعدين الطبيين جرى تدريبهم في مستشفى بورتسودان المدني في العام 1918م ولكن الكاتب لم يجد أي أدلة على ذلك في أية مصادر أخرى. بحلول العام 1921م تم إنشاء أول مدرسة لتدريب المساعدين الطبيين في أمدرمان. وقد سميت تلك المدرسة (مدرسة المساعدين الطبيين). في المتوسط كان يتم اختيار 6 موظفين من الرجال لتدريبهم في كل دفعة بداية من العام 1921م . وقد كانت تلك هي نفس السنة التي تمت فيها تأسيس مدرسة القابلات في أمدرمان. وعندما توقفت الخدمات الطبية العسكرية السودانية (إس. إم. دي.) تم استبدالها بتأسيس الـ (إس. إم. إس) الخدمات الصحية السودانية المدنية وكان ذلك في العام 1924م.”
“وقد كان عدد المساعدين الطبيين في العام 1925م حوالي 41 مساعداً ، و في العام 1925م ووصل عددهم إلى 270 مساعداً طبياً في نهاية الثلاثينات وارتفعت نقاط توزيع الأدوية والرعاية الصحية الأولية (ما يعادل مركز صحي حاليا) في نفس تلك الفترة من 146 إلى 327 نقطة أدوية في جميع أنحاء السودان و كان يتم تدريب 15 مساعداً طبياً سنويا وفق برنامج تدريب مكثّف لمدة سنة كاملة ، ويتم اختيار المرشحين وفق ضوابط دقيقة بداية من العمر والاهتمامات والمعارف الأساسية وسنوات الخبرة كموظف في الدوائر الصحية الحكومية”.
منذ استيلاء الجنرال البشير على السلطة حدثت مواجهات نقابية صارمة بين نقابة الأطباء والنظام العسكري أدت إلى حملة اعتقالات واسعة وسط القيادات النقابية أدت في سابقة غير معهودة إلى إصدار حكم بالإعدام على نقيب الأطباء آنذاك الدكتور مأمون محمد حسين عليه الرحمة وقد أدت حملة توقيعات عالمية حينها إلى إيقاف تنفيذ حكم إعدامه ، لكن كانت النتيجة السياسية لإضراب الأطباء أن صاروا من أول أعداء النظام السياسي الجديد الذي اتبع سياسات تجريف ضخمة بإحالة العديد منهم إلى الصالح العام وقتل و اعتقال وتعذيب الجزء الآخر (مثل الاغتيال الموثق للدكتور علي فضل بكسر جمجمته مما فتح الباب على مصراعيه للهجرة والإغتراب مما أفقد البلاد حينها حوالي نصف الأطباء المسجلين في المجلس الطبي السوداني وكان عددهم آنذاك يبلغ حوالي 4800 طبيب تقريباً. ولتعويض تلك الخسارة ولكسر شوكة أي إضرابات مستقبلية للأطباء قامت الحكومة العسكرية ذات المرجعية الأصولية بتأسيس العديد من كليات الطب لزيادة عدد الخريجين (وصلت إلى 104 كلية حاليا من 3 كليات في العام 1989م) ، أيضاً قام نظام البشير بتخفيض الإنفاق على الصحة من 15% في عهد الحكومة الديمقراطية 1985م – 1989م إلى حوالي 1.5% من الموازنة في نهايات الحكم العسكري المؤدلجة دينياً ، ما يعني انخفاضاً بمعدل 90% مما كان ينفق على الصحة في العهد الديمقراطي ، وبالطبع فإن الحال نفسه كان ينطبق على التعليم أيضا. ولوضع القارئ في الصورة فإن ميزانية أخر حكومة للبشير كانت تخصص 1% فقط من الميزانية القومية لصحة المواطنين حيث كانت تلك الميزانية 3.4 مليار دولار للصحة و كانت تعادل 89 سنتاً من الدولار سنوياً على الفرد الواحد ، وللمقارنة فإن متوسط صرف دول الإتحاد الأوروبي على صحة الفرد يبلغ حوالي 5000 دولار سنوياً ، باستثناء بعض الدول الغنية مثل سويسرا والنرويج التي تصل منصرفاتها على صحة مواطنيها 7 و 6 الف دولار سنوياً لكل مواطن بالترتيب.
في الخامس عشر من إبريل 2023م أشعلت ثُلّة من قصيري النظر من العسكريين النظاميين والمرتزقة الرسميين ومتعطشي العودة للسلطة من متنفذي النظام السابق حرباً ضروساً على السلطة المدنية الإنتقالية والتي بسبب حسن النوايا والغفلة التامة وضعف الإرادة السياسية بين مكوناتها وتآمر الحركات المسلحة مع قادة الجنجويد الذين قتلوا جنود تلك الحركات ونكلوا بحواضنهم الاجتماعية وحرقوا قراهم مما أدى إلى قتل 300 ألف مواطن ونزوح الملايين إلى الدول المجاورة ، لكنه السودان مسرح العبث واللا معقول وليس أبلغ على ذلك يصف مشعلو الحرب بأنها عبثية ويستمرون في إذكاء نارها ، إنه حقاً تلاعب باللغة وتفريغ الكلام من معانيه كما وصفه الشاعر القدّال “كلام مغتغت و فاضي وخمج”.
تؤول في الأفق بوادر اتفاق سياسي لأنهاء الحرب بداية إعادة البناء ، وسيكون النظام الصحي من الأعمدة الرئيسية لعودة الناس لمنازلهم ومدنهم ، ولكن من المهم وضع السيناريوهات المثلى لتجاوز قصور النظام الصحي الماضي وبناء نظام جديد مبني على الفعالية والجودة وتقليل التكاليف ، وكما قام المستعمرين الإنجليز بوضع لبنات النظام الصحي في بلادنا مترامية الأطراف عبر تأهيل كوادر محلية مقتدرة فإننا يجب أن نقوم بذلك مع وضع تطورات العصر في الإعتبار . وفي تصوري أن أي نظام صحي قادم يجب أن يبنى على قاعدة بيانات الكترونية متكاملة ، وبما أن الكثير من الدول قد أبدت استعدادها لدعم الخدمات الصحية حتى بتخفيف المعاناة عن المهجرين داخليا والنازحين من الحرب في كل أقاليم السودان فإنني أقترح الآتي :
أولاً : تدريب مساعدين طبيين من قرى ومدن السودان المختلفة خاصة من يملكون أساسيات اللغة الإنجليزية لتسهيل قدرتهم على التوثيق.
ثانياً : تمويل بناء نظام إلكتروني لكل السودان وتكون ملكيته للدولة وتعمل كوادر خبراء تقنيي المعلومات من السودانيين بصورة جماعية على تطويره حتى تتجنب الدولة الوليدة تكاليف تطوير ذلك النظام الباهظة (و هناك دول عديدة تبنت خيار بناء نظام إلكتروني صحي خاص بها لحساسية المعلومات داخله ولتقليل النفقات على المدى البعيد).
ثالثاً : تبني تسجيل بيانات المواطنين المستفيدين من النظام الصحي بصورة دقيقة بحيث يكون الرقم الصحي صنواً للرقم الوطني ومرتبطاً به مما سيسهل عمل الإحصائيات الصحية والسكّانية وتوزيع الأدوية المشتراة مركزياً على الأقاليم حسب الأمراض المنتشرة فيها (فمعظم أدوية محاربة مرض النوم لن يتم تحويلها إلى حلفا مثلاً لانعدام مرض النوم فيها وسيتم تركيز وفرة أدوية مكافحة الملاريا على مناطق إنتشار المرض المعروفة).
رابعاً : توضيح فكرة مجانية العلاج (لأنها فكرة مضللة) ، ففي كل النظم الصحية العالمية هناك من يدفع تكاليف القساطر والأدوية والتطعيم و في حالة السودان كانت الدولة هي التي تقوم بذلك وبالطبع من ضرائب المواطنين ، ولكن من المهم إشاعة الوعي بتكاليف العلاج وأهميته والتعامل مع الموارد الشحيحة بمسئولية عالية. لأنه حتى في دول الخليج الغنية قامت هذه الدول بتفعيل التأمين الصحي للسيطرة على الإهدار الكبير في المنصرفات الصحية (فعلى سبيل المثال يكلف فحص فايتامين دال 133 دولاراً (480 ريال سعودي) ، و في كثير من الدول التي تتمتع بمجانية العلاج دون ضوابط يطالب المرضى الأطباء بأن يفحصوا لهم هذا الفيتامين دورياً رغم التكاليف العالية مع أنه لا أهمية كبرى للفحص إلا في بعض الحالات النادرة فالجرعة المثالية للمريض البالغ والطفل لتعويض نقص فيتامين دال معروفة ومحددة وثابتة تقريباً.
خامساً : أهمية بناء قاعدة قوية من المساعدين الطبيين سببها الأساسي أنه من العسير إيجاد العدد الكافي من الأطباء لتغطية كل السودان خاصة في ظل المنافسة الشرسة على الكوادر الصحية حول العالم حيث تعاني دولة عظمى كبريطانيا من نقص في عدد أطباء الأسرة يبلغ حوالي 6200 طبيب تقريباً وهو ما يعادل كل أطباء الأسرة المسجلين في دولة مثل بلجيكا البالغ عدد سكانها 11.5 مليون مواطن . وقد ورد في كتاب الدكتور طارق الهد السابق ذكره عن بدايات الخدمات الطبية في السودان في بدايات الألفية الماضية هي معضلة إيجاد أطباء راغبون في العمل في أقاليم السودان المترامية وكان الأطباء السوريون هم أول من تعاقدت معهم الحكومة المصرية البريطانية حيث كان من العسير إيجاد أطباء مصريون يرغبون في العمل في السودان.
سادساً : بالطبع يجب أن يتم توزيع المستشفيات توزيعاً جغرافياً عادلاً حسب الكثافة السكانية للإقليم المعين ، وبالطبع تكون تحت المستشفيات تراتبية هرمية واضحة تتيح للممارسين الصحيين تحويل المرضى حسب تعقيد حالاتهم من مستشفيات صغيرة أو مستشفيات مرجعية في عواصم الأقاليم المختلفة.
بالطبع هذه هي رؤوس أقلام لتحدي كبير وهو إنشاء نظام صحي متوازن يغطي بلادنا التي ستعاني من نتائج الحرب التي حطمت البنى التحتية لنظام صحي كان متهالكاً في الأساس ، ولكن من الأهمية بمكان وضع رؤية وتصور وفلسفة لإعادة بناء نظام صحي حديث يتجاوز أخطاء النظام الصحي الماضي ويقل من عبئه الإداري وفي هذا الصدد لا أجد حرجاً في اقتراح نظام تأمين صحي تتبناه الدولة وتقوم فيه بدعم الفقراء والمعدمين بتسديد الجزء الأكبر من بوليصة التأمين الصحي لهم كما هو الحال في الكثير من الدول الأوروبية حيث يضمن هذا النظام تغطية تكاليف العلاج حتى في القطاع الخاص بعد أن تقوم الدولة بتحديد نظام دقيق لتكلفة الخدمات المقدمة ، فمثلاً يجب أن يكون من المعروف بدقة فاتورة علاج وفحوصات مريض مصاب بالملاريا مقارنة بفحوصات وعلاج مرض مثل بارتفاع ضغط الدم . لضمان تقديم خدمات متشابهة في القطاعين الخاص والعام بنفس كرت التأمين الصحي الموحد إن وضع التكاليف العلاجية الدقيقة لكل الأمراض المعروفة هو أمر مضنٍ وطويل وقد يتطلب تنظيمه عدة سنوات لكنه وبكل تأكيد أمر مفيد جداً في ترتيب النظام الصحي بصورة جيدة ، لأنه ولكي يكون النظام الصحي المبني على التأمين الصحي قادراً على تغطية الخدمات المنوط به تقديمها ، يجب أن تتوفر معلومات دقيقة عن أي خدمة. ومن نافلة القول أن بناء نظاماً كهذا يجب أن يكون تدريجياً بحيث يوفر الخدمات الأساسية مثل التطعيم و علاج الأمراض الشائعة والطارئة ، على أن تفتح صناديق قومية لعلاج الأمراض المكلفة مثل غسيل الكلي وعمليات القلب المفتوح والمخ المعقدة لأن أي نظام صحي وليد لن يستطيع أن يغطي علاج هذه الأمراض وأيضاً الأمراض العالية التكلفة مثل الأمراض المناعية النادرة والتي يصل علاج المريض فيها إلى مئات آلاف الدولارات سنوياً.