نيالا.. الناس والأشياء

نيالا.. الناس والأشياء
بقلم : محمود الشين
إستوقفني الطيف المسافر للبن المقلي وانا أتسكع بأحد أزقة حي الوادي ، في واحدة من ليالي نيالا الرائعات. ويأتي صوت خافت لدندنة دق البن على الطريقة التقليدية.. جلست على تل رمل أفرغه على ما يبدو سائق قلاب لصالح منزل مجاور يجري تحديثه لمواجهة مطلوبات السكن في المدينة المليونية.
.
إنه الفضول اللحظي يا سادة والذي عادة ما يستجيب لسطوة السائل السحري.. القهوة إمبراطورية الكيف والمزاج . حين تستلقي على الرمل وتتأمل أضواء المدينة في لحظات لم تفسدها يومئذ الهواتف النقالة – تتجلى نيالا في صمت الليل الطويل.
إن الفنان أحمد شارف أطرب هذه المدينة في تسعينيات القرن الماضي وتغني يومها : (البن.. البن تنتنو يلا يا شباب أرقصوا) ورقص ذاك الجيل على أنغام أشرطة الكاسيت المنتجة بأستديو طبع الزمن على شارع البلدية العريق وسط المدينة.
كان بالنا مشغول بالتفكير والتأمل ، ولم تظهر بعد تكنولوجيا المعلومات والإتصالات على ما هي عليه الآن. إن الناس ليس على عجلة من أمرهم ، يستمتعون بالأشياء من حولهم بلا هواجس أو ظنون. تلك هي سمة نيالا القديمة التي يجسدها حي الوادي.
(إسكود) الذي أمتعنا بالأقاشي وعزيز الشواء لم يحرص أن تكون بجانبه إحدي ملكات الكيف وهو ما جعلنا أسرى لطيف البن وماضي الذكريات. إن المزاج العام في نيالا ينحو بإتجاه الحياة الهادئة. حين يتعلق الأمر بالأحياء القديمة.
أسكود هو خريج مدرسة زنقو – القريب نسبياً من هذا المكان ، وعلى مدى تاريخ نيالا – تميز أهلنا الهوسا في زنقاهم بإعداد وإتقان هذا النوع من أنواع الطعام. ولهم خلطاتهم السحرية التي تجعل الطعام شهياً ويتصدر قائمة الأكل في كل الموائد.
أسعد الناس من أسعفته الأيام لحضور فعاليات المولد النبوي الشريف أو إحتفال أهل حي الوادي بعيد الإستقلال على خشبة مسرح مدرسة يوسف كوكو الأساسية. هم فئة من الناس جمعت بينهم قيم راسخة ووجدان مشترك. وهذا ما يعطي كل مبادراتهم الحيوية والخلود.
تلاشت رائحة البن تدريجياً وتركوني وحدي مثل السيف ، لكن لا جريرة لهم بهذا الفضول المقيم في المدينة الراقية. حكيت ما جري لصديقنا مصطفى حسين وهو مدمن قهوة بإمتياز..ضحك وهو يقول : (تعرف معاي شلة ، وقهوتنا مدورة لنص الليل).
مصطفي هذا – مكتشف ماهر لأجمل أماكن إعداد القهوة ، فما أن أبدأ التخطيط لزيارة نيالا ، إلا ويتصدر مصطفى قائمة أولويات الرحلة. حتى لا تضيع أوقاتنا بالتجريب. إن معظم البن الذي يأتي إلى نيالا هو من نوع ردئ بغض النظر عن كيفية إعداده وسحنه. ليس كما هو الحال عند ناتاليا جهة الخرطوم(٢) ، حيث تكون الجودة هي الأساس.
ربما الإستثناء الوحيد هو عند خليفة في صباح قهوة دقوش. لا أدري من أين يأتي بصنفهم الجيد وكيف حافظوا على نسق الجودة طيلة هذه السنوات. لكن خليفة مثل شهر زاد – يسكت عن الكلام المباح – ولا يتحدث ليكشف أوراقه الرابحة لعامة الناس.