مقالات سياسية

ضابط الجيش السويسري- السوداني !

فضيلي جمّاع / لندن

زرت سويسرا أربع أو خمس مرات.. جميعها زيارات قصيرة. لم يطل بقائي في أيّ منها أكثر من خمسة إلى ستة أيام. إثنتان من هذه الزيارات جاءتا بدعوة من تجمع السودانيين هناك لأغراض ثقافية – الزيارة الأخيرة لتدشين روايتي الجديدة ” زغرودة في حوش أبّا الناير” في مدينتي (جنيف) و(لوزان)! وأشهد أنها رغم هطول الأمطار بغزارة – ونحن في فصل الخريف- ورغم حالة الإحباط التي يعيشها السودانيون داخل وخارج السودان بسبب هذه الحرب اللعينة – إلا إنّ المناسبتين في جنيف ولوزان قد لاقتا حفاوة وإقبالاً طيباً ومشاركة فعالة من الحضور. وتلك مناسبة ربما أكتب عنها في سانحة أخرى.

ولعل الزيارة الأخيرة التي دامت ستة أيام (26 إلى 31 أكتوبر الماضي) كانت مدخلاً للتعرف عن كثب إلى جاليتنا هناك. ماذا أضاف السودانيون من سنوات الإغتراب إلى حصيلة ثقافتهم السودانية؟ ثم إنني في كل زياراتي لسويسرا كنت مهتماً – كما هو الحال عندي هنا في مقر إقامتي ببريطانيا- بالتحوّل الجذري في الجيل الذي ولد أو نشأ في اوروبا منذ نعومة أظافرهم. جيل لم ير السودان وطباع السودانيين سوى في زيارات عابرة للوطن الأصل ، أو عبر التربية التي يتلقونها في البيت الذي نشأوا فيه هنا ، في بلادٍ طيرها أعجمي!

الوطن باعتقادي هو ما رأيت الشمس والقمر فيه أول مرة ، وهو ما تمخضت خزانة ذكرياتك فيه بحصيلة حياتك في الصبا والشباب ! لذا فإن كاتب هذه السطور سيظل سودانياً في مسيره ومصيره وإن حمل كل جوازات بلاد العالمين. نعم.. سيظل السودان الذي عشت فيه طفولتي وصباي وشبابي وداعبت عيني فيه أشعة الشمس والقمر وعرفت فيه الحب وتعذبت فيه من الهجران وويلات السفر والمنافي – سيظل هذا السودان هو وطني الأول Home of origin وتبقى كل البلاد التي آوتني ساعة الضيق وأكرمتني بالجنسية وجواز السفر وساوت بيني وبين مواطنيها أهل المكان – تبقي كل هذه البلاد بكل ما أبرتني به وطناً ثانياً.. لأنها لم تزود ذاكرتي بما رفدها به السودان من حصيلة الذكريات والتجاريب. ولو لم أقل هذا لصرت شيخ المنافقين!!

بنفس هذه المعادلة جلست إلى الإبن حمد عبد الباقي – إبن الناشط الحقوقي السوداني بسويسرا الأستاذ عبد الباقي جبريل. ولأنّ منزل عبد الباقي ورفيقة دربه السيدة فاطمة خاطر هو مقر إقامتي في أكثر من زيارة مهما حاولت الزوغان ، فقد صرت أحد أفراد العائلة (امتدت الصداقة بحمد الله لعائلتينا في السودان). جلست إلى حمد الذي تخرّج قبل شهور قلائل من دراسة عامين بالكلية العسكرية لدولة الإتحاد السويسري برتبة ملازم ثاني في الجيش السويسري – قسم الإمدادات الطبية Para-medics. وقد التحق حالياً بالدراسة الجامعية. سألته كيف يجمع بين وظيفته كضابط في الجيش وطالب بالجامعة؟ أجابني بأن وجوده في الجيش حالياً بالإنتساب. فمتى احتاجته سويسرا فإنه سيكون جاهزاً للإلتحاق بسريته فوراً. لذا فإنّ عليه أن يقضي شهراً في الخدمة بالجيش السويسري في عطلته الصيفية الجامعية كل عام.
سألت الملازم ثاني حمد عبد الباقي جبريل عن إحساسه ساعة تخرجه – وأظنه أول ضابط من أصول سودانية بالجيش السويسري – سألته كيف يرى نفسه في الجيش السويسري وهو من أصول سودانية؟ أجابني بهدوء ودون البحث عن مبررات: تعرف يا عمي بأني ولدت في سويسرا. طفولتي وصباي وشبابي الآن في سويسرا. وكل مراحل تعليمي ، من الروضة حتى الجامعة تلقيتها وأتلقاها حالياً في السويسرا. أصدقائي وزملائي في كل المراحل سويسريون (أو سويسريون من أصول سودانية مثلي). طبعاً هذا لا ينفي أنتمائي الآخر لوطني الثاني السودان الذي أزوره من وقت لآخر مع أفراد أسرتي لألتقي جدتي وأعمامي وأخوالي وخالاتي وبقية أفراد الأسرة الممتدة. لكنها كما تعلم فترة من الزمن قصيرة جداً بالمقارنة مع العمر الذي عشته كمواطن سويسري!

سألت الملازم ثاني – الطالب الجامعي حمد عبد الباقي جبريل – هل تقدم له مؤسسة الجيش السويسري أي مساعدة في دراسته الجامعية مقابل انتسابه لها؟ أجابني بأنه يدفع رسوم وتكلفة المعاش بالجامعة حتى نهاية العام ، وتقوم إدارة الجامعة بإرسال صورة من هذه التكلفة لوحدته بالجيش السويسري التي تقوم بدورها بدفعها له كاملة. أي إن مؤسسة الجيش السويسري في ختام السنة هي التي تدفع منصرفات الجامعة ! إضافة إلى أنّ الشهر الذي يقضيه كل عام مدرباً بفرع الخدمات الطبية (السلاح الطبي) يتقاضي راتبه فيه كاملاً كضابط.

كان سؤالي الأخير له : هل شعرت إبان دراستك بالأكاديمية العسكرية -كطالب من أصول سودانية أفريقية Black African وكمسلم بأي نوع من التفرقة أو المعاملة غير المنصفة من أحد قادتك؟ أجابني مبتسماً: أبداً..أبداً يا أنكل. على العكس. لقد قمت بعد التخرج بتدريب بعض المستجدين. وكلهم تقريباً من زملائي وزميلاتي ذوي الأصول السويسرية البيضاء. لم أشعر بعقدة اللون في الجيش السويسري أبداً.
كدت أحكي له عن جيش بلادنا الذي ظل يشن الحرب على شعوب وطنه لفوق ال67 عاماً، دون أن يوجّه البندقية ولو بالخطأ إلى عدو أجنبي واحد. كدت أحكي له ذلك لكني خجلت !ولذت بالصمت.

تعرف بلاد العالم الصناعي المتقدم كيف تصنع مواطنها المنتمي إليها والحريص على خدمتها وخدمة شعبه. فالمؤسسة التعليمية تنقر على موهبة الطفل أو الطفلة منذ نعومة الأظافر. ثم تقوم بالتعاون
مع الأسرة بتوجيهه/ها إلى المؤسسة التي تنمي وتطور هذه الموهبة.

في مناسبة ثقافية استضافتني فيها مدينة لوزان قبل ثلاث سنوات شاركت فرقة هواة (صبية وصبيات) بفاصل عزف موسيقي منتهى الرفعة. عرفت أن بعض أفراد هذه الفرقة يتلقون دروساً في الموسيقى والعزف من فرقة الكونزرفتوار السويسرية!! وطالما شعرت بالسعادة حين علمت أنّ الإبنة ملاذ نصر الدين عوض الكريم واحدة من عضوات الفرقة. ملاذ حالياً طالبة بالرابعة بكلية الطب لكنها تواصل تلقي تدريبها في الموسيقي. كما لحقت بها في دراسة الموسيقي شقيقتها الصغرى التي تدرس الصيدلة بالجامعة.
وفي كل البيوت السودانية التي تشرفت بزيارتها تجد هذا الجيل الذي وظفت مواهبه بلاد العالم المتقدم الذي يعرف كيف يعد حياة مواطنه منذ نعومة الأظافر حتى يصبح شخصاً يعرف أن كل من حوله من الرجال والنساء مواطنون ومواطنات جديرون بالحياة الكريمة والتقدير والإحترام. وأنّ كل مواطن أو مواطنة يتمتع بنفس المرتبة التي يتمتع بها غيره في الحقوق والواجبات – غض النظر عن لونه أو دينه أو إثنيته أو الإقليم الذي جاء منه.

لك الله يا بلدي ، فما يزال فيك من يجأر بأعلى درجات صراخ الحلاقيم حين الخصومة بأن هؤلاء الفلانيين لا يشبهوننا !! أو يجهر البعض دون خجل وهم يصطرعون فوق جسد الوطن الجريح بأنهم يريدون حصتهم من التراب ليبنوا بلدهم الجديد !!

أين نحن من قطار العالم المندفع دون حرب ودون ضجيج صوب الثريا ؟

[email protected]

‫11 تعليقات

  1. انتم المثقفين و المتعلمين السودانيين منذ خروج الأنجليز استخدام كرت الدين و العرق من اجل السلطة و المناصب.
    اليوم انتم منقسمين بين الدعم السريع و الجيش علي حسب المنطقة و لون البشر.

  2. انت تقول ان الجيش يوجه السلاح نحو المواطنين وهذا لعمرى كذب وافتراء وتحامل غريب.
    اى جيش فى هذه الدنيا يحارب المتمردين على سلطة الدولة. والسلطة هى التى توجه الجيش بشن الحرب او ايقافها.
    يعنى لو تمرد بعض العساكر فى بريطانيا حيث تعيش فهل سيقدم لهم الجيش البريطانى الورود ام سيحاربهم.
    يعى مافى ضابط بصحى الصباح وقول ماشى احارب.
    والجيش السودانى حارب المتمردين فى العهد العسكرى كما حارب فى العهد الديمقراطى.
    كل يوم يزداد يقينى بان مصيبة السودان فى مثقفيه

    1. بلا فلسفة معك أيها الجاهل مصطفى محمود , اعطني دولة واحدة ذات حكم رشيد ظل جيشها يحارب ابناء بلده باستمرار مثل الجيش السوداني
      للتمرد أسباب يجب علاجها و الا فلماذا لا يكون هناك تمرد في بريطانيا او سويسرا او مصر او السنغال او جنوب افريقيا

    2. وماذا فعل البرهان وجيشه بالشعب والثوار بعد انقلابه المشؤوم فى 25 اكتوبر وماذا فعل الجيش بالشعب وبالثوار فى فض الاعتصام امام القيادة العامة وداخل ابواب القيادة قتلهم الجيش بكل خسة .
      وانت تقول كذب وافتراء . اتقى الله

  3. أين نحن من قطار العالم المندفع دون حرب ودون ضجيج صوب الثريا ؟
    بدل السرديات الحكائيه لشخوص هاجرت وخلقت قطيعه مع السودان من منظور التطبع الاجتماعى والثقافه فاصبحو فرنجه بلا اندماج وجدانى ولا اشتياق وجدانى فقط ترف وجدانى _______كان لزاما عليك ايها الغردونى _____فضرورى ان تعرف جنجويدك الاستعرابيين بكيف يعيش البشر؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛ كان لزاما عليك بدل الورجقه دى توعيه واخرج جنجويدك الاستعرابييه التى تمارس النهب والسرقه وهوايه القتل والارتزاق والامراض الاجتماعيه من حالتهم البهائميه الى الانسانيه ::::::::::::::::::::::::: التطواف عبر الدول الاوربيه يخلق حاله الوعى ويلزم الواعى بتنوير الاخر الجاهل وليس سرديات حكائيه كونسه وتموضع حول ذات ترهق نفسها فى اثبات الذات

  4. الاستعلاء الذي يمارسه السودانيون بالخارج على من بالداخل أصبح موضة ، الغريب أنهم لم يتقدموا عقليا وفكريا قط وكل ما يفعلوه هو ما يغعله الأغبياء وهو حغظ المقررات المدرسية ليعطونا وهم أنهم ينافسون الأوروبيين ، هل يجب علينا أن نستمع لكل أحمق يظن نفسه مميزا لمجرد أنه يعيش في دولة أوروبية؟ والغريب أكثر أن الكثير منهم كان يهلل للحكم الديني المستبد وكأنه يحسد الشعب السوداني أن ينعم بالحرية ، أفضل ما يفعله هؤلاء أن يتركوننا وشأننا هذه البلد لن تنصلح الا اذا حكمها من هم بالداخل فقط

  5. اصلا مشاكل السودان كلها من النخب الثقافية والسياسية خاصة من خريجي جامعة الخرطوم قبل التسعينات فهم بحق وحقيقة ورثوا المستعمر حتى في لبس الكرفته.. والان بعد الحرب دي كلهم هربوا خارج السودان ولم ينزحوا للداخل ماهم اصلا كان رجل بره ورجل جوه.. هم الوزراء ورجال الأعمال وكبار المحامين والمهندسين والأطباء الاداريين..هو اصلو وجودهم كان لزوموا شنو اذا ده حال البلد.. ضيعوا وقتهم ووقت البلد في انت كوز وانا شيوعي انت إسلامي وانا علماني او جمهوري او طايفي وهم شايفين الخواجات حتى المتطرفين استطاعوا استيعابهم في النظام السياسي لكن عندنا لازم واحد يحكم والباقين يكونوا في السجن او المنافى وطبعا البروح المنفى من هناك يشتغل مع كل استخبارات العالم عشان يرجع للحكم الا من رحم ربي.

  6. نحن فعلا مشكلتنا مثقفينا ومن يدعون درجات العلم من دول الفرنجة ولا اقول الدول المتحضرة كما يزعم الكاتب ومن لف لفه..
    انتم مندهشون من ما ترون امام عينيكم من تقدم ولا اقول تحضر تحفظا واحتراما للكلمة…
    يا عزيزي انت مجرد إحصائيات في هذه الدول وكل من سكن بها او نال اقامة او حتي مجنس وفي احيان كثيره حتي ان ولدت بها.. إحصائيات تبرزها هذه الدول للتباهي وخداع الراي العام والتشدق امام الدول الفقيرة.. انت وانتم من درجة رابعه فما فوق… انتم لم تفهموا الغرب الذي انبهرتوا به ولكن الغرب فهمكم جيدا وطوعكم لما يشاء…
    انتم ورعيلكم من فرطتم في السودان وضيعتموه… ماذا قدمتم للسودان… هولاء من تشتمهم مثلكم … لو ادرتم البلاد منذ ٥٠ او ٦٠ سنه بالشكل الصحيح لما وصلنا ما وصلنا اليه الان… انتم نفدتم بجلدتكم عند اول اختبار او شده ولم تضحوا بل سارعتم للغرب وكلتم من المديح ما يقذذ لارباب نعمتكم.. ما نراه اليوم في السودان هو نتيجه لجهل الجيل الاول بعد الاستغلال وليس الاستقلال..
    اما هذه الاجيال التي ولدت خارج رحم السودان فلهم عظيم الاحترام ولعل الطيب يكمن في الخبيث.

  7. خالص التحية والتقدير لك استاذنا فضيلي جماع. فأنت مسكون بالوطن تحمله في دواخلك الطيبة حيثما حللت. ومن بين جميع المبدعين في بلادي تظل استاذنا علامة فارقة وستظل اسهاماتك الثقافية والادبية باقية ما بقي السودان. ورغم قتامة الصورة وحجم الكارثة التي المت بالوطن المنكوب لكني متفائل بأن السلام سوف يتحقق وسوف يبنى السودان بسواعد ابناؤه الخلص ويتعافى من الجراحات التي تسبب فيها مرضى النفوس من الكيزان والفلول والبلابسة. اما من يحلمون بتمزيق السودان وتفكيكه على اسس عنصرية ومناطقية فسوف ينتظرون كثيرا.

    سيعود ابناء السودان من كل ارجاء المعمورة لتعميره وبنائه على اسس متينة من العدالة والمساواة والحرية والكرامة وسوف ينهض السودان رغم انف الموتورين من اصحاب العاهات العقلية والنفسية واوهام التفوق العرقي والديني والايام بيننا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..