مقالات سياسية

نحو مخرج يفتح على الوجهة: العودة إلى أصحاب الحق باستفتاء شعبي

هشام عوض

فلنسحب بساط المزايدات من تحت جميع الأقدام: البلابسة يزايدون بدعم الجيش الوطني، الدعامة يزايدون بالحرب على الكيزان، القحاتة يزايدون بمصير البلاد وويلات ومآسي الحرب، والجذريون يزايدون بقيم الثورة النقية. لذلك وجب على الجميع أخذ إجازة من المزايدة على الوطن والإنصات إلى أصحاب الحق. ولأنه لا يمكن عمل حوار مع شعب كامل، تفتقت القريحة الإنسانية الديموقراطية على الاستفتاء ب “لا” أو “نعم”، كأبسط خارطة طريق يمكن طلبها.

• لماذا استفتاء شعبي؟

لأنه لا يوجد لدينا مرجع دستوري، فالداخل والعالم يعاني صعوبة الإجماع على موقف من الحرب بسبب فوضى وضعنا الدستوري، حيث البلاد مختطفة بانقلاب عسكري ، والمؤسسات الدستورية غير مكتملة. إنها حالة من الفوضى لا مثيل لها ظللنا فيها منذ الانقلاب على الوثيقة الدستورية. في مثل هذا الوضع المختلط لم يتجرأ طرف على التفوه بكلمة دستور أو أحد اشتقاقاتها، وهذا الصمت الدستوري هو مكمن البلبلة ، حيث لا طرف لديه حق دستوري في تمثيل الدولة. لذلك نجد أن المواقف الإقليمية والدولية لا تظهر دعما صريحا لأي طرف، ليصبح الموقف الدولي هو الضغط من أجل الاتفاق ، وهو ضغط فاتر لأنه يعاني من تلاعب المتفاوضين وضبابية صورة المنتج التفاوضي النهائي. الدستور في أنظمة الحكم الراقية هو مفهوم الشعب عن دولته. الضغط الشعبي من أجل الاستفتاء يمنح المهتمين بتخليص الشعب السوداني منتجا تفاوضيا جاهزا ويضع ضغطا سياسيا وأخلاقيا على الأطراف المتحاربة ويفند مزايداتها الوطنية عن طريق الدعوة للجوء للشعب.

• استفتاء شعبي على ماذا؟

أعتقد أن الشيء الوحيد الذي يمكن طرحه على الطاولة الآن هو الاتفاق الإطاري، لأنه أحدث منتج دستوري يمكن أن يمثل نواة لدستور ما بعد الحرب. كما أنه تم بمشاركة سياسية واسعة، وبمشاركة المؤسسات الإقليمية والدولية والدول المهتمة والمؤثرة. كما أن أي تفاوض قادم لا بد أن يحتوي على الكثير من الأخذ والرد والمماطلة مما لم تعد البلاد تحتمله. الاتفاق الإطاري يمتاز باشتراك الطرفين المتحاربين فيه وقبولهم المبدئي له، لذلك فلا يمكن اتهامه بالمحاباة الكاملة لطرف لأنه سبق اشتعال الحرب، كما أن تبنيه وهو القائم على توازن ما قبل الحرب يعني عدم الاعتراف بالغنيمة السياسية للحرب وهذا مفهوم للمستقبل، يتبقى تكملة نواقصه التي مثلت الثغرة التي دخلت منها الحرب، وهذه ستكون نزهة تفاوضية مقارنة بالبداية من الصفر. قد يقول بلبوسي أو دعامي لماذا لا نجري استفتاء على شروط الجيش أو شروط الدعم السريع؟ الإجابة أن لا طرف سوف يرضى بسلام يشترط فناءه الفوري. مرة أخرى ببساطة ليس على الطاولة غير الإطاري.

تتناول بعض الأوساط أن هناك تطورات تفاوضية كبيرة داخل الغرف المغلقة في مدن المنطقة والإقليم، ولكنها تبقى في طور السرية الذي قد يصيب وقد يخيب، وقد يمثل تطورا في اتجاه تطلعات الشعب السوداني أو يمثل نكسة عنها، لذك فحتى لو كانت هناك تفاهمات قريبة من النضج لا بد لها أن توضع في الميزان الحقيقي وتعرض على أصحاب الحق. لا نريد أتفاقا على شاكلة الوثيقة الدستورية نحتفل به في الشوارع ثم نحوله مع مرور الوقت إلى لقيط بلا والدين. الدرس الديموقراطي الأول هو أن نتحمل نتائج الحرية، أن نختار ثم نتحمل نتائج اختياراتنا.

• ولكن ألم يكن هذا هو سبب الحرب؟ كيف نعالج الحرب بسببها!!

ربما استعجل الاتفاق الإطاري الحرب، ولكنه لم يكن سببها الجذري، فكل حرب هي وليدة تناقضات المصالح، وفي كل الأحوال، حتى لو كان سبب الحرب، فإن من اختار الحرب بدلاً عن هذا الاتفاق يجب أن يقبل بالاحتكام إلى أصحاب الحق. دور الاتفاق الإطاري في الحرب هو أنه فتح باب التفاوض على الإشكال العسكري الذي لطالما أنكرته القيادات العسكرية، في آخر محاولة لتفكيك لغم الحرب الذي بدأ يظهر للعيان في ذلك الوقت. جريرة الاتفاق الإطاري الأخرى أنه لم يرض الأطراف السياسية القادرة على صناعة الخراب، وهي نفس الأطراف التي بذلنا النفيس للإفلات من قبضتها.

قد يقول البعض أن هذا الاتفاق قد تجاوزته الأحداث، ولكن لماذا لم تتجاوز الأحداث البرهان أو حميدتي أو الكيزان أو الدعم السريع؟ الحقيقة أن ميزان القوى هو ما يثبت الشيء أو يمكن من تجاوزه وليس العبارات العائمة في الهواء، بدلاً من انتظار مائدة السلام لتنزل من السماء، علينا الثقة في قدرتنا على المبادرة واجتراح توازن القوى الذي يأتي بالحلول. أما إن كان ما يعنى بتجاوز الأحداث له هو سقوط شعبيته، فإن الاستفتاء عليه هو خير اختبار.

• أليس من السذاجة أن نتخيل أن الطرفين سيقبلان الاحتكام إلى الشعب؟

ربما، ولكن حتى في هذه الحالة، فمن المفيد أن نعرف من الذي يرفض. مع ذلك فإنه لا يمكن تحقيق تقدم على أي صعيد من دون وجود قوة دافعة باتجاه هذا التقدم، الفكرة أن تبني هذا المخرج سيوفر موضوعا لطاقة سلام مشتتة وحائرة ومرتبكة حالياً، تركيز هذه الطاقة هو فقط ما يجعل الإنجاز ممكنا.

• ألا يجب أن تتوقف الحرب أولاً؟

بالتأكيد ، ولكن أليس الاستفتاء سببا كافيا للحصول على هدنة طويلة؟ ثم احتمال انتقال دستوري؟ وجب على كل من يحارب باسم الشعب السوداني أن يسمح ببعض الهدوء حتى يسمع كلمة من يحارب باسمهم. كل ما نحتاجه هو التأييد الشعبي والدولي لهذه الخطوة. يجب أن تتوفر إرادة دولية لفرض هذه الخطوة وترتيب الواقع على الأرض للسماح بقيامها.

الواضح أن ترتيب الواقع على الأرض يمثل صعوبة كبيرة، وذلك لعدم الثقة في التزام طرفي الحرب برعاية السلام الكافي لنجاح استفتاء حر، وهذه المشكلة لا يمكن تجاوزها بمجرد توقيع اتفاق، فقط يمكن السيطرة عليها بوجود خسارة محتملة حقيقية لكل من الطرفين في حال عدم الالتزام، وهذه عصاة متعددة الرؤوس تصنع خصيصا لهذا الغرض وهي مع الأسف ليست في حوزة جهة داخلية.

• كيف يمكن القيام باستفتاء في مثل هذه الظروف؟ بلا تعداد سكاني ولا تسجيل ناخبين وبدون رقابة أحزاب ومنظمات؟

نعم هناك تحديات، ولكن يمكن تبسيط العملية بدون الإخلال بمصداقية مخرجاتها. يمكننا الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية حيث أصبح العالم يعتمد على التحقق الرقمي من بصمات الأصابع والعين والوجه بحيث يمكن ضمان عدم التزوير بتكرار التصويت، فيصبح التحقق الوحيد الضروري هو التحقق من الجنسية السودانية عند عدم توفر الأوراق الثبوتية والذي يمكن عمل استجواب بسيط بشأنه وتسجيله في حال الحاجة للمراجعة، أيضا يلزم بعض العمل على باقي الضمانات مثل سرية التصويت وعدم التأثير على القدرة للوصول لمراكز الاقتراع وعدم التخويف من الاقتراع. وبالطبع لا يمكن قفل جميع الثغرات ولكن يمكن ضمان عدم تأثيرها على النتيجة النهائية. يمكن أن يكون الاعتماد على الأغلبية النسبية، أي النسبة من العدد الكلي للمقترعين، وذلك مراعاة للظروف الحرجة للبلاد.

لا جدال أن عملية كهذه تحتاج لمجهودات جبارة من حيث التمويل والأجهزة والموارد البشرية، ولكنها كل هذا نقطة من بحر خسائر الحرب البشرية والاقتصادية.

• لماذا استفتاء وليس انتخابات؟

أولاً ، ما زلنا نفتقر للإطار الدستوري الذي يمكن أن تقوم عليه أي انتخابات، فنحن لا نعرف إن كان نظامنا رئاسيا أم برلماني، مركزيا أم فيدراليا وما هي تفاصيل فيدراليته ، إلى آخره. وحتى لو توفر هذا الإطار الدستوري، فإن أي انتخابات هي مهرجان سياسي بطول البلاد وعرضها لا يحتمله الوضع الأمني، دع عنك هموم الإعلام والتمويل وأموال الفساد إلى آخره، غاية كل الحلول هو تهيئة الواقع لهذه الانتخابات المرتجاة، ولكن بالتأكيد ليس الآن.

• ثم ماذا بعد الاستفتاء؟

إن كانت النتيجة نعم للاتفاق الإطاري، تتحول المسؤولية لأطرافه لتكملته وتنفيذه، وتكملته تفاوض جديد ولكن هذه المرة بتكليف شعبي صريح وعلى نقاط محدده، يمكن أن يتم وضع سقف زمني للاتفاق النهائي يتبعه استفتاء ثان على خيارين في حال عدم الاتفاق. النقطة الأهم أنه يجب أن تكون هناك ضمانات دولية للأطراف العسكرية بالحماية من الانقلاب، أي أن يكون هناك تعهد دولي بمساندة الطرف الدستوري في حال تجدد العنف. أما إن كانت النتيجة “لا”، تعود الأمور لما هي عليه قبل الاستفتاء، ليتواصل القتال أو يصل الطرفان لاتفاق ثنائي فيما بينهما أو كيفما تتفتق الأحداث.

الفكرة في هذا الحل هي العودة إلى الأصل، وهو الشعب الذي لم يوكل طرفا للحرب باسمه. وما أجمل أن نبتدئ انتقالنا بعرس ديمقراطي ولو كان مبسطا.

[email protected]

تعليق واحد

  1. الخطأ الكبير للقوي المدنية هو سماحها بوقوع الحرب عن وعي او عن جهل.. الان نحن أمام خيارين فقط اما ان ينتصر احد الأطراف على الآخر او يتوافق الطرفين على تسوية ما لا مكان فيها للمدنيين الا مجرد ديكور ذلك أن الأطراف المتحاربة لن تسمح بسلطة مدنية تفتح باب المسائلة القانونية خلال الحرب على مصراعيه..والله يكضب الشينة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..