
تعرفت على الراحل كمال الجزولى فى ستينات القرن الماضى بواسطة الصحفى الراحل ميرغنى حسن على المحرر فى السودان الجديد يومذاك , ربط صداقتنا الأهتمام بالأدب الثورى الشعرالحديث , والقصة القصيرة , والرواية والمسرح , فكنا الأثنان نجرب كتابة الشعر ونحبو فى قوافيه , فسبح كمال متوغلا فى بحوره , بينما اخذتى انا الأمواج الى الصحافة تأكل شيئا فشيئا من الموهبة حتى وصلت الى بر كتابة النقد احيانا وحتى الأن , كنا وكمال ملتصقين حبا ومودة مثل توأمين لانفترق الا ساعة النوم , اذهب معه الى منزلهم فى حى بانت بيوت السلاح الطبى , ويذهب معى فى الأعياد الى مدنى مسقط راسى , نتبادل الكتب ومجلات الاداب لسهيل ادريس , والثقافة الوطنية لكريم , وحسين مروة , والطريق لمهدى العامل , وفى مصر مجلة الطليعة للطفى الخولى, والكاتب لأحمد حمروش , والأهرام الاسبوعى نجد فيه اخر قصص نجيب محفوظ , ويوسف ادريس , وكتابات لويس عوض , وحسين مؤنس , وغالى شكرى , وصلاح عيسى, وتعزز مزاجنا الثقافى لنعانق جيلى عبد الرحمن , وتاج السر الحسن فى “قصائد من السودان”, ومحى الدين فارس “فى الطين والأظافر” والفيتورى فى “اغانى افريقيا , ومحى الدين محمد هذا النوبى المفكر الكبير”ثورة على الفكر العربى المعاصر” الذى سأل عنه كمال مرارا يريده حيا او ميتا ولكنه غادر قبل ان يجد له جوابا , تلك كانت نقطة تحول فى منظورنا الأثنين لقضية الفن , أهو خواطر ذاتية وتزجية للفراغ ام لخدمة الأنسان؟ .
من هذا الباب باب الثقافة دخل كمال الجزولى الى عالم الصحافة فالتقينا لاول مرة محررين عام 1965م فى وكالة انباء افريقيا الجديدة التى اصدرها الصحفى الراحل عمر كرار معنا فاروق حامد , وسبقنا اليها ادريس حسن , ومحمد احمد عجيب وهما صحفيان مشهوران فى جلب ألأخبار الطازجة .
استقال كمال الجزولى مغاضبا وغادرنا سويا عندما نوهت الميدان ما معناه ان هناك جسم صحفى جديد وراءه سفارة اجنبية .
لست ادرى بعد ذلك ما اذا كان قد انضم الى اسرة الميدان ام لا , ولكن ما لمسته ان عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى كان يرى فى كمال مشروع شاعر مجيد ومثقف عضوى لنباهته الفكرية الثورية وطالما ذهبنا اليه ليستقبلنا فى مكتبه , وهو الذى رشحه لمواصلة دراستة الجامعية فى اوكرانيا .
بعد انتقلت انا من صحيفة الأيام الى صحيفة السودان الجديد عام 1966م والتى كان يراس تحريرها الراحل فضل بشير , ويدير ادارتها الراحل يحى عوض , هناك جاءنا كمال مرة اخرى ليحرر صفحة “مشاتل الفيروز” الأسبوعية التى كان يشرف عليها الصحفى كمال دبوره والذى سيغادر السودان الى دبى ليلتحق بوظيفة جديدة فى مجلة البلدية , وهكذا تم اسناد الصفحة الى كمال والذى حوّلها من صفحة تهتم بالوجدانيات الصرفة للطلاب فى جامعة القاهرة الى منبر سياسى وادبى جاد يعكس الصراعات داخل الجامعة وتنقل المناظرات الساخنة بين منير صالح عبدالقادر ومحمد محمد على , ومحى الدين فارس , وحسب الله الحاج يوسف حول الشعر الحديث والشعر التقليدى والندوات التى تقيمها الأحزاب السياسة .
باشر كمال فى تجديد الصفحة فجذب اليها الشعراء عبد العزيز جمال , وادريس عوض الكريم , وسيد احمد الحاردلو , وعوض مالك ومصطفي سند وصلاح احمد ابراهيم , ونشر فيها اولى قصائده الشعرية التى تبشر بقاموس جديد من المفردات والصور شاركنا كمال عندما زحزحنا “السودان الجديد” من المحافظة اليمينية الى خانة اليسار الجديدة , فهاجمنا محاكمة الشهيد محمود محمد طه , وساندنا الدكتور عمر محمد عثمان فى الصراع على ادارة جامعة الخرطوم ضد البروفسور عبد الله الطيب المؤيد من جبهة الميثاق وحزب الأمة.
اصبح كمال ضمن مجموعتنا يحيى العوض , محمود محمد مدنى , عمر جعفر السّورى يرافقنا بعد نهاية العمل فى الصحيفة فى قضاء امسيات الخرطوم يوم كان للعاصمة امسيات تفيض فيها المطاعم ببرجوازية المدن وافندية الطبقة الوسطى , فهناك فوق سطوح فندق “الليدو” نلتقى مجموعة الميدان الرفاق عمر مصطفى المكى , وعبد الرحمن احمد , وميرغنى حسن على , ومكى عبدالقادر , وعبدالله عبيد , ونحسب انه قد تاثر كثيرا بهذه الوجوه القيادية فى الحزب الشيوعى فى هذه اللقاءات , ولكن مع ذلك لا ادرى ما اذا كان قد جاءنا جاهزا يحمل بذرة الحزب من “فراكشن “حى بانت , حيث حسن شمت , ومحجوب عبدالرحمن “الزعيم ” , وميرغنى حسن على , والمحامى احمد عبدالله المشاوى , ام ان ذلك حدث فى اللقاءات المسائية التى تلم شملنا من وقت لاخر ونلتقى فيها اسرة تحرير الميدان .
يروى الراحل “ظللت ، خلال العامين 1967م ـ 1968م ، كنت أتنقَّل ، كالنَّحلة الشَّغوف بين بعض المؤسَّسات الصَّحفيَّة ، حتى طاب لي المقام ، قبيل سفري إلى كييف للدِّراسة بجريدة «الضِّياء» ، بديلة «الميدان» بعد حظرها في عقابيل حلِّ الحزب الشِّيوعي ، وكان يرأس تحريرها المرحوم عمر مصطفى المكي ، وسكرتير تحريرها المرحوم ميرغني حسن علي , ويشرف عليها سياسيَّاً المرحوم حسن الطاهر زروق . تلك هي الفترة التي بدأت فيها صداقة العمر بيني وبين صدِّيق محيسي ومحمود محمد مدني فضلاً عن صداقات كثر في الوسط الصحفى , ويحكى كمال عن تجاربه فى عالم الصحافة (الواقعة الوحيدة التي كنا صِدِّيق محيسي وشخصي ضمن شهودها المباشرين ، بالمصادفة البحتة ، حدثت يوم دعانا ، ذات خميس من أوائل عام 1968م ، زميل صحفيٌّ لتناول العشاء بمنزله بأم درمان ، بمناسبة «سماية» مولوده الجَّديد وفي طريقنا لتلبية الدَّعوة لم نكن نمنِّي النَّفس بأكثر من سهرة متواضعة ، لعلمنا بإمكانيَّات مضيفنا الماليَّة! غير أننا ، ما أن اقتربنا من «بيت السِّماية»، حتَّى لاحظنا أرتالاً من السَّيَّارات الفارهة حاملة لوحات المرور الدِّبلوماسيَّة! ثمَّ كانت المفاجأة الأكبر بالدَّاخل ، حيث الزِّينات المبهظة ، والثُّريَّات الضِّخام ، قد أحالت ليل بيت أخينا نهاراً ، وأعداد مهولة من المدعوِّين ، أكثرهم صحفيُّون ، يتحلقون حول طاولات نضِّدت بأناقة ، وفرشت بالأغطية الفخمة ، ورُصَّت عليها صِحاف الضِّيافة ، وقواريرها ، وآنيتها ، بسخاء باذخ! . جلسنا ، على استحياء ، إلى أقرب طاولة ، وما لبث مضيفنا أن خفَّ إلينا ، هاشَّاً باشَّاً ، يأمر لنا بالمزيد من الضِّيافة، ونحن بين الدَّهشة والحيرة نكاد لا نصدِّق!
لحظات ، وبدأت ترتفع ، من مكان ما ، أصوات آلات موسيقيَّة يتمُّ ضبطها ، ومكبِّرات صوتٍ يجري تجريبها. التفتنا ، لاإرادياً ، فأبصرنا فرقة موسيقيَّة على منصَّة قبالة الفيراندا المطلة على الحوش حيث نجلس ، ثلة من فتيان إثيوبيِّين بأقمصتهم ، وآلاتهم التَّقليديَّة المميَّزة! لكن ، قبل أن نعِي الحاصل تماماً ، فرقع صوت امرأة مسِنَّة من داخل الفيراندا :
ـ “الرسول يا بنات امِّي جيبوا المرارة لي .. تِرِّيكَن”! .
سرت رعدة بين الطاولات ، وقفَّ شعر رؤوس كثيرة في المكان! التفتنا ، لاإرادياً أيضاً ، إلى مصدر الصَّوت ، فإذا بـ «سفير جهنم» ذاته ، بلحمه وشحمه ، وقد أحاط به خلقٌ كثيرون ، رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار ، كأنه كبير الأسرة ، يسامر هذا ، ويداعب ذاك ، وأمامه طاولة خاصَّة مُدَّت ، وصحاف منتقاة رُصَّت ، وبدا ، جليَّاً ، أنه ضيف الشَّرف الرَّفيع والمحظى لكلِّ ذلك البذخ ! .
ما حدث ، بعد ذلك ، كان «كوميديا سوداء»، إذ ألفيتنا ، صِدِّيق وشخصِي ، نتدافع ، ضمن آخرين ، دون سابق اتِّفاق ، عند باب الخروج! وفي الشَّارع استغرقتنا موجة من الضحك الهستيريِّ عندما رأينا بعض الأصدقاء ما كادوا يتخارجون حتى أطلقوا سيقانهم للرِّيح! ولم نكفَّ عن التَّندُّر بذلك طوال يوم الجُّمعة! لكننا فوجئنا ، صباح السَّبت ، ونحن نستقلُّ التاكسي إلى الخرطوم ، بالخط الرَّئيس لجريدة «الضِّياء» يَدْوِي كما القنبلة : «الملحق العسكري الأثيوبي يقيم حفل علاقات عامَّة لتجنيد عملاء جُدُد من الوسط الصَّحفي» .. أو نحو ذلك! وهمس لي صِدِّيق ، الذي ساءته كثيراً تلك الصِّياغة ، بأنها تمسُّ صحفيين شرفاء كلُّ ذنبهم أنهم لبوا ، ببراءة ، دعوة عاديَّة من زميل لهم ، على العشاء ، دون أن يعلموا بأنها كانت مصيدة! وفور وصولي إلى الصَّحيفة نقلت ذلك إلى المرحوم حسن الطاهر زروق ، ورويت له تفاصيل ما حدث. وكان مِمَّا قال «أبو علي» بلهجته المصريَّة المميَّزة :
ـ “أيوه يا كمال يابني كلام صِدِّيق صح ، وأكيد راح نطيِّب الخواطر ، بس كمان أخوانا دول لازم يتفهَّموا إنِّ مَكانش ممكن نِهدر القيمة التَّحذيريَّة الأساسيَّة في الصِّياغة”! وحول صحن الفول الذي دعاني إليه راح يقهقه لمَّا رويت له حكاية الفزع الذي انتاب الكثيرين حين علموا بعلاقة تِرِّيكَن بالحفل ، وأنه موجود فيه! وفي اليوم التالي نشرت الصَّحيفة تنويهاً مهذباً في ذات المعنى الذي وعدني به ، فطابت خواطر كثر .
اللهم أظله تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك . اللهم بيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، اللهم يمن كتابه. اللهم ثبت قدمه يوم تزل فيها الأقدام. اللهم اكتبه عندك من الصالحين والصديقين والشهداء والأخيار والأبرار.
شىءٌ من نحوٍ
كبوةُ فرسٍ
“فكنا الأثنين نجرب كتابة الشعر ”
و ليس
“فكنا الأثنان نجرب كتابة الشعر ”
ف “الإثنين” منصوبة على الاختصاص و نصبها ليست
لأنها خبر كنا حيث أنّ خبر كنا هو الجملة الفعلية “نجرب”
و هذا بالطبع مما لا يفوت على أستاذنا صديق محيسي
صاحب القلم الرشيق و العبارة الجزلة المعبرة و مؤكد
أن هذا قد وقع سهواً
شىءٌ من نحوٍ
كبوةُ فرسٍ
“فكنا الأثنين نجرب كتابة الشعر ”
و ليس
“فكنا الأثنان نجرب كتابة الشعر ”
ف “الإثنين” منصوبة على الاختصاص و نصبها ليست
لأنها خبر كنا حيث أنّ خبر كنا هو الجملة الفعلية “نجرب”
و هذا بالطبع مما لا يفوت على أستاذنا صديق محيسي
صاحب القلم الرشيق و العبارة الجزلة المعبرة و مؤكد
أن هذا قد وقع سهواً .
كما و ان هناك وجه للصحة في “فكنا الأثنان نجرب كتابة الشعر ”
على أنّ (الإثنان) بدلٌ من الضمير (نا) – بدل بعض من كل -حيث
أنّ الضمير (نا) في محل رفعٍ إسم كنا
شكرا على الملاحظة النحوية