مقالات وآراء

الطير المهاجر” …. إلياذةُ أحزانِنا الكُبرى!!!

مهدي يوسف ابراهيم

مدخل

مرّة طربان شلتَ صوتِك شان أغنّي
” بشرى الفاضل ”
………………….
أشفقُ كثيراً على المستمعِ الذي يحكمُ على جودةِ أغنيةٍ ما بموازين كلماتِها ولحنِها وصوتِ مغنيها ، مختزلاً بذلك فضاءاتِها التأملية العراض في هذا الثالوث الفقير ، ساقطاً في فخِ (الأغنية الخارجية) التي هي (ظل الأغنية الحقيقية) …
الأغنيةُ الحقيقيةُ تسرقُك من أغنيةٍ كتبَها ولحّنَها غيرُك لتصبحَ أغنيتك أنت : تلوّنُ صُورَك وذكرياتِك ومواقفَك الخاصة ، تيقظُ فيك وجوهَ أصدقائك القدامَى ورائحةَ قهوةِ أمّك النهارية ودفءَ عناق أبيك ونداوة صباك الأول وعطرَ تراب أزقةٍ تعرّى بينها تقاك وفُحشُك … الأغنيةُ الحقيقيةُ تعيدُ إليك حريرَ يدي أول صبيةٍ أحببتَها ورعشاتِ أول موعدٍ لكما ، وطعمَ ولونَ وعبقَ أولِ قبلةٍ اعتقلت شفاهكما من وراء ظهرِ السيّاف مسرور .. الأغنية الحقيقية تزمّلُك بصوتِ لم يروّضه عساكرُ بلادك تدثرُك بيقين أنك طينةٌ حيّة من طمي الإنسانية العريض ، وتذكّرُك أنك تقطنُ مدينةُ ” لا ” الخاصة بك …
الأغنيةُ الحقيقيةُ تحوّلك أنت نفسَك إلى ثالوث الكلمة واللحن وصوت المغنّي ، تصيرُ وطنَك بنيلِه وترابِه واسمرارِ أهله … تصيرُ وجودَك طرّاً بسخونة صيوفِه ودفء رِباعِه ولذعة شتاءاته وغمائم خُرُفِه … بل إنها تتحوّل إلى مكان في داخلك لا يطاله حزنُ المدينة ولا سياط قمع جلاديها ولا قبح زنازينها … مكانُ تلوذ به كلما صفعتك دمامةُ الدنيا …
الأغنيةُ الحقيقيةُ هي التي تبدّل جلدَها باستمرار لتواكب كرور لياليك … فهي في حالة ثورة دائمة على الجمود ولا تعترفُ بالتجاعيد وسطوة الزمان ، ولا تجلسُ في مكانٍ واحدٍ كما مقعدٍ إسمنتي في حديقة ما … لكنها تتجدّدُ كما المطر ، وتحافظُ على نضارةِ شبابِها كما الشمس ، وتتدحرجُ فوق جباه العصور … شامخةً بفروعها خارج تعرية النسيان…

وهذه الأيام تذبحُني من الوريدِ إلى الوريدِ إلياذة ” الطير المهاجر “.. وقد ازداد مذاقُها في أعماقي عمقاً وعنفاً بفعل الرحيل القسري عن الديار ولواعج فراق الأحباب والصحاب وظنون تساؤلات مواقيت العودة ، بل ومخاطر تشظّي وطني العظيم..
في المرحلة الثانوية استمعتُ إلى “الطير المهاجر” للمرةِ الأولى … كان ذلك في يومٍ شاتٍ في الثمانينات … كنتُ حينها طالباً في المرحلة الثانوية بالمناقل … عثرتُ على الأغنية في شريط كاسيت في غرفة أخي وأستاذي “الأمين يوسف” … جلستُ على كرسي صغير … دقائق وبدأت عصافيرُ الموسيقي تنقّرُ في حقول الروح … وسرعان ما تسللت المقدمةُ الموسيقية الباذخة إلى أعماقي كما يتسللُ ضوءُ الشمس عبر نافذة كوخٍ ريفي … تبادلت الكمنجات الحوار في إلفةٍ خليقةٍ بجارتين لا تعرفان العالم خارج حدود ثرثرتهما البريئة … نقرت الكمنجات علي شراييني كما أقدام حصانٍ يعدو حراً في براري مشمسة … ثم أطلت كمنجةٌ مغناج – لعلها للعظيم محمديّة – وقدمت صولو رقيق … قبل أن يتغير إيقاعُ اللحن … دقيقتان ثم توقفت الكمنجات كأنما لتستجم من فيض لهثها الوسيم ليخرج صوتُ “وردي” من بين أمواجها مغتسلاً بالفجر … بدأ الصوتُ خفيضاً وهو يردّد في لوعة قيسيةِ المذاق :
غريب وحيد في غربتو
حيران يكفكف دمعتو
ثم انبجس من صوت الفرعون نبعان وهو يرتفعُ في وسامته الفريدة مع :
حزنان يغالب لوعتو
قبل أن يخفض جناح حنينه من الوجد مردّداً:
يتمنّى بس لي أوبتو
وبعد ثواني صمت ردّدَ صوتُ “وردي” المعتّق الجمال :
طال بيهو الحنين
فاض بيهو الشجن
واقف يردّد من زمن
مع نهاية المقطع أعلاه انبثقت الموسيقى عناقيد من رطب … بدا لي اللحنُ في هذه الجزئية مصطفقاً كما أمواج النيل حتى أوشكتُ أن ألمح نوارس تطير فوق النغمات … ثم هتف صوت “وردي” متوسلاً متضرعاً :
بالله يا الطير المهاجر
للوطن زمن الخريف
تطير بسراع
تطير ما تضيّع زمن
أوعك تقيف
وتواصل الليل بالصباح
تحت المطر وسط الريح
ثم فرد صوتُ “وردي” قامته الفارعة حتى سدّ مكامن القبح في الكون صادحاً :
وكان تِعِب منك جناح
في السرعة زيد
في بلادنا ترتاح
ضل الدليب أريح سكن
في ” الطير المهاجر” مزج ” صلاح أحمد إبراهيم” بين حبه لمحبوبته وحبه لبلاده … فها هو يحتفي بالأخيرة مخاطباً الطائر:
سيب بلاد
فوت بلاد
وإن جيت بلادي
وتلقى فيها النيل بيلمع في الظلام
زي سيف “مجوهر” بي النجوم من غير نظام
تنزل هناك وتحيّي يا طير باحترام
لا أرى تشبيه النيل بسيف مجوهر بالنجوم ملمحاً جمالياً فحسب ، بل إشارةً ذكيةً إلى عنفوان النيل وقدرته على ابتلاع الطغاة … كما لا يمكن تجاوز هذه المفردة الأنيقة “مجوهَر” وهي فصيحة ونادرة الورود في الغناء العربي عموماً ، وتشيرُ إلى مكانة النيل عندنا…

حين حزمت حقائبي قبل قرابة عشرين عاماً وجئتُ إلى “جدة” … ظلت “الطير المهاجر ” خبز الروح الجائعة لجبين أمي ومسبحة أبي وأحضان أهلي … كانت تذكرني بكل تفاصيل صباي وشبابي في قريةٍ أظلُ أختزنُ تفاصيل شوارعها وبيوتها في بؤبؤ العين … ومن فرط عبقرية هذا الأغنية ما كنت أقدرُ أستمعُ إليها دفقةً واحدة … بل كنتُ أجزئها ، ثم أحاولُ التنصل من سطوة كل جزءٍ بالاستغراق في تفاصيل مدينةٍ هي المكان المثالي إن قررت أن تهرق عمرك … وحين يستبدُّ بي الحنينُ إلى بلادي أجلسُ عند صخرة منسيةٍ قرب قدمي البحر الأحمر واستمع إلى “الطير المهاجر” … كنتُ أحسُ حينها بالبحر وقد تحوّل إلى يابسة أخرى … يابسة في منتهى الجمال …
عثُر “وردي” على نص هذه الإلياذة في مجلةٍ في كشك صغيرٍ وهو عائدٌ من رحلةٍ فنيةٍ من مدينة كوستي في ستينات القرن الماضي … لم يستأذن “وردي” من “صلاح أحمد إبراهيم” وقتها بل شرع في تلحينها … وفي ذات الوقت كان البروف “علي المك” قد بعث بالقصيدة إلى “عثمان حسين” … ولكن لحن “وردي” كان قد خرج إلى الوجود فلم يجد “علي المك” بداً من التسليم بعبقريته وتفرده  … بل إن “عبدالخالق محجوب” -وكان وقتها في أوج عداوته مع شاعرها- قال بعد استماعه إلى الأغنية  “هكذا فليكن الغناء السوداني”…
وتبقي هذه الأغنية الخالدة بمثابة معلّقة أشجاننا الكبرى!! .

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. أجدت الوصف لهذه الحالة الإبداعية ، فهي ليست أغنية و حسب ، بل حالة يركن إليها و يستكين كل ذو قلب مملؤ بحب الوطن و اهله ،، شكراً لك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..