مقالات سياسية

الجراح العميقة للحرب: المشاركة الشعبية الطارئة كطريق وحيد للتعافي

هشام عوض

أسلفنا في مقال سابق أن الحروب ترد المجتمعات إلى مراحلها البدائية، ينعكس الارتقاء القيمي المتراكم على مدى أجيال، ويعود القهقرى، فتصحو شياطين القيم القبلية الشرسة التواقة للفتك بالآخر كرد فعل على المخاوف الوجودية التي يوقظها عنف الحرب وعسفها. تصبح القيم الاجتماعية عندها فريسة سهلة للدعاية الجاهلية المستندة على الاستقطاب العنصري.

نشهد اليوم تحولات فارقة في خطاب الحرب وانحطاطه إلى أسوأ الكوابيس، وهو الخطاب الذي يحول العداء إلى عنصري- جهوي بدلاً عن العداء السياسي، وهذه مرحلة ما قبل الكارثة، حيث أن هذا الخطاب هو أم الخبائث السياسية، وهو الممهد المجرب لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم التطهير العرقي. هذا الخطاب لم يعد خطابا في الجلسات الخاصة أو الغرف المغلقة ، بل أصبح له مكان في الوسائط الاجتماعية يشي بظهور قاعدة اجتماعية معتبرة ترحب به. ما يزيد الطين بلة أن هناك طرف سياسي منعدم السقف الأخلاقي الأدنى يعمل على الاستثمار الاجتماعي للحرب وإذكاء الفتنة العنصرية يغض النظر عن كلفتها الإنسانية الكارثية.

كما يبدو أن هذا الطرف الخبيث يريد أن يصنع مخالبا للفتنة، يفرض بها نفسه على أرض الواقع العسكري، بحيث يقوم من خلالها بفك ارتباطه مع المؤسسة العسكرية الرسمية عند الحاجة، ويمتلك القدرة على استمرار الحرب، والقدرة على تهديد أي أطراف خارجية قد تتدخل للفصل بين القوات أو المراقبة وحفظ السلام، لذلك فليس من المستغرب ارتباط دعاية الفتنة العنصرية مع بداية التسليح العشوائي للمدنيين، ولكن المصائب تدخل من باب الشبهات كعادتها: يتم استغلال الخوف الوجودي المبرر لصناعة فوضى السلاح وانتاج المزيد من الخوف الوجودي، دائرة شريرة لا يعلم الشيطان كيف يمكن كسرها!

هذا الوضع لا يدع مجالا للتفاؤل، فالأمور الآن في طور الانفلات من كل الأطراف السياسية- العسكرية، نحن الآن نتجه بخطى حثيثة إلى دولة العصابات، أو إلى دويلات حواكير قبلية مسلحة، مع تصدعات اجتماعية تزداد عمقا يومًا بعد يوم. ولن يلبث انتشار السلاح أن يصنع المزيد من التصدعات المجهرية في مناطق ينظر إليها ككتل صماء الآن.

مع سيناريو الجحيم هذا، لن تفلح الحلول الفوقية في استئصال المرض الاجتماعي، لا اتفاقات بين القادة يمكن أن تمتص الغبن الجماعي وشعور التهديد القبلي، سوف تستمر حالة الهياج القابلة للتجييش، وسوف تمثل هذه الحرب تجربة قبلية مبددة للثقة في استمرار التعايش السلمي، لتملي تكتيكات بقاء متوجسة، عنيفة وغير متسامحة، ما لم يتم اتخاذ اجراءات تعافي أكثر جذرية.

تمثل الديموقراطية ذروة سنام التعايش المجتمعي والذوبان في الهوية الوطنية، بمساواتها بين المكونات بغض النظر عن قدراتها العسكرية أو حظوتها التاريخية، وبتحويلها مجال الاستقطاب من الاختلافات البدائية إلى الاختلافات البرامجية. الدولة الديموقراطية هي مجتمعات متحدة لدرجة الثقة والتسليم لخيارتها الجماعية. لذلك، أعتقد أننا أحوج ما نكون في هذه اللحظة المصيرية من تاريخنا إلى استدعاء فن العلاج الديموقراطي: استفتاء شعبي على تنفيذ الاتفاق الإطاري، كما اقترحت في مقال سابق تجدون رابطه أسفل هذا المقال، وفيه تنفيد لبعض ما يطرأ للذهن من حجج مضادة.

يمثل الاتفاق الإطاري آخر ما كان للمدنيين فيه يد، آخر ظهور للإرادة الشعبية السلمية، أي اتفاق جديد في ظل هذه الحرب سوف يحمل جيناتها، سوف يكون “هضربة” حمى الحرب، ومن غير المرجح أن تكون له النجاعة لمعالجة آثارها العميقة.

الفائدة الأخرى لمثل هذا التوجه أنه سوف يحسم جميع الأوهام، فكل الأطراف في الساحة الآن تدعي الحديث باسم الشعب من أجل الشعب، عمل هذا الاستفتاء سوف يوفر خارطة طريق واضحة لكل الوطنيين، ويوحد الجميع حول الخيار الشعبي.

نحو مخرج يفتح على الوجهة: العودة إلى أصحاب الحق باستفتاء شعبي

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..