مقالات سياسية

أزمة السـودان،، الفرصة السانحة

الدعوة إلى المفاوضات بين طرفي الحرب في السودان ليست دعوة للخذلان ولا للاستسلام، وإنما هي دعوة للانحياز للحكمة وللتعامل مع الواقع بدلاً من الإصرار على سحق الآخر في معركة نخسر فيها جميعاً الماضي والحاضر والمستقبل.

الذهاب إلى المفاوضات وما يتبعها من وقف لإطلاق النار لا يعني الخضوع ولا يعني الموافقة على أفعال الطرف الآخر وتجاوزاته، وإنما يأتي في سياق الإدراك لما ستؤول إليه الأوضاع إذا ما استمر القصف والقصف المضاد بالمدافع الرشاشة والصواريخ مع ما يرافق ذلك من خطابات التخوين والعمالة والارتزاق.. ولن يكون مآل الأوضاع مفرحاً للمواطن وهو يشاهد تساقط الحاميات العسكرية والمدن في يدي قوات التمرد.

لا عيب اطلاقاً في الجلوس والتفاوض مع الطرف الآخر لإيجاد نقطة مشتركة للانطلاق نحو السلام باعتباره مطلباً لما يقرب من ٤٠ مليون مواطن سوداني لا دور لهم في إشعال هذه الحرب (العبثية) كما سماها رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان، ولكنهم هم المكتوون بشرر هذه الحرب وشرورها، حيث قُتل أكثر من اثني عشر ألفاً من المدنيين، وهُجِّر الملايين إلى مناطق أخرى داخل البلاد وخارجها، ونُهبت المنازل والممتلكات والمركبات من قِبل منسوبي الدعم السريع أو من قِبل (المتفلتين) حسب رواية قادة الدعم السريع متناسين أن قواتهم هي من وفّرت المظلّة لارتكاب هذه الجرائم المروعة في حق المدنيين. إن ذهاب قائد الجيش الى طاولة المفاوضات في جدة أو في غيرها ليس دليلاً على الجبن وإنما دليلٌ على الشجاعة وعلى الثقة وعلى الانحياز لمصلحة أبناء شعبه العظيم الذي سيكون عند حسن الظن به وسيرد التحية بأحسن منها لِكل مَن سعى لحقن الدماء بدلاً من سفكها، ولِكل مَن ضحّى بالمكاسب الضيقة والطموحات الشخصية وبريق السلطة وصولجانها لصالح المكاسب الكبرى في سلامة الوطن وسلامة المواطن في نفسه وعرضه وماله.

التفاوض مع الطرف الآخر لا يجب أن يُنظر إليه من زاوية مَن المخطئ؟ ومَن المصيب؟ ولا من منطلق الربح والخسارة، لأن الرابح هنا خاسر في ميزان الوطن والوطنية، وإنما ينبغي أن يكون التفاوض هو مدخل أطراف النزاع للسلام وعودة الشورى والديمقراطية والحكم الرشيد. ولأن درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح، فإن السواد الأعظم من الشعب السوداني يتطلعون إلى رؤية مبادرات شجاعة من الفريق البرهان وأركان حربه يُعلن من خلالها وقف الحرب وبسط الامن وتنفيذ المطالب وإعادة الحكم للقوى المدنية وفق المقترحات المطروحة في منابر التفاوض. أمير المؤمنين علي بن ابي طالب وهو الحاكم الشرعي للأمة بتأييد أهل والحل والعقد، وافق على الدخول في مفاوضات مع جيش الشام بقيادة معاوية بن ابي سفيان الذي نازعه الحكم وطالبه بتسليمه قتلة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وحشد الحشود العسكرية الضخمة في معركة صفِّين (٣٧ هجرية) والتي قُتل فيها الآلاف من الطرفين. نعم وافق الخليفة الرابع على التحكيم والتفاوض والدخول في هدنة طويلة مع الطرف الآخر نزولاً على رغبة الأكثرية في جيشه، رغم إيمانه القوي بأنه على الحق، إلا أنه أدرك أن الواقع الماثل على الأرض استلزم تعاملاً جديداً وتجاوباً مختلفاً مع حالة الاستقطاب والاصطفاف التي أصابت الأمة فآثر أمير المؤمنين إنقاذ الأرواح وتحقيق السلام بدلاً من الاستمرار في حرب استنزافية يتولّد عنها تقسيم البلاد وانكشافها امام الأعداء.

فهذا أمير المؤمنين المسنود بالشريعة والشرعية يذهب إلى التحكيم حقناً للدماء وحفظاً لكيان الأمة، فما بال جنرالات الحرب لدينا يصرون على الاستمرار في المواجهة وهم يدركون إدراكاً تاماً بأن أصل هذه الفتنة هو انقلاب اكتوبر ٢٠٢١ المنفَّذ من قِبل الجيش والدعم السريع؟ وبالرغم من كل تلك التجاوزات والأخطاء الكارثية التي أعقبت انقلاب أكتوبر ٢٠٢١م، صبر الشعب وانتظر طويلاً تحقّق وعود قادة الجيش بأن الحسم بات وشيكاً وأن سكان الخرطوم سيعودون ويحتفلون بالعيد السعيد في منازلهم، ولكن طال انتظارهم، وفشل الجيش في تحقيق أي شيء من تلكم الوعود الهوائية، فمرّت أعياد الفطر والأضحى والميلاد والاستقلال دونما احتفال.

الآن توشك الحرب أن تكمل سنتها الأولى دون انتصار عسكري للقوات المسلحة، مع وجود انتشار واسع للدعم السريع على الأرض مقابل تكثيف الجيش لضرباته الجوية، لتكون المحصّلة النهائية آلاف القتلى من المدنيين وآلاف الجرحى والمفقودين والمحتجزين في غياهب السجون بجانب سلسلة من الأزمات التي تحيط بالمواطن من كل جانب: مِن حالات الكوليرا في ولاية سنّار، إلى شح مياه الشرب في امدرمان، إلى نقص الأدوية المنقذة للحياة، إلى نقص الوقود والكهرباء والأكسجين في مستشفيات الأبيّض،، الخ.. وبرغم كل هذه المآسي لا زالت أصوات المتطرفين وأصحاب الأهواء ترتفع بوجوب استمرار الحرب حتى النهاية! الشعب السوداني الذي نجح في اسقاط النظام البائد بثورة ديسمبر البيضاء ينادي الآن بلسان الحال والمقال بالوقف الفوري لهذه الحرب.. فهل من مجيب لهذا النداء؟ نختم بهذا الدعاء المأثور (اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودُنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي).

التحية،،

15/1/2024

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..