الخيارات المتاحة قي زمن الحرب!!

قبل الحرب التي تدور رحاها الآن كانت العاصمة الخرطوم تعج بأعداد كبيرة من الناس خاصة من فئة الشباب الذين تكدسوا فيها لسنوات طويلة طلباً للعمل وكسب الرزق حيث كانت العاصمة بمدنها الثلاث تستحوذ على ما يقرب من ثلث سكان البلاد تقريباً.
هؤلاء الذين كانوا يعملون على كسب رزقهم من خلال بعض الأعمال (الهامشية) نظرا لإنعدام أي فرص للعمل في مناطقهم بسبب أخطاء التنمية غير المتوازنة وتركيز كل المصانع (على قلتها) والأعمال التجارية الكبيرة في العاصمة وإنتشار الأسواق التي كانت توفر فرص العمل لهؤلاء الناس وخاصة الشباب منهم.
ولا شك أن هذه الحرب أظهرت الحاجة المُلحة لتصحيح أخطاء السياسات المُتبعة وضرورة إحداث التنمية المطلوبة في جميع أرجاء البلاد والتي لا أقول أنها كانت غائبة عن ذهن المخطط الإقتصادي؛ ولكن لم تتوفر الإرادة السياسية اللازمة لتجسيدها على أرض الواقع؛ هذا بالطبع إذا استثنينا مدني وبورتسوان وبعض المدن الأخرى التي تتوفر فيها بعض المصانع والمرافق الحكومية الخدمية وبعض المشاريع التنموية (مصانع السكر ومحالج القطن وغيرها) التي أنشئت قبل سنوات طويلة وأغلبها متوقف عن العمل ويحتاج لتجديد معداته وإعادة تأهيله بصورة شاملة؛ أما عدا ذلك لم تتوفر في العديد من المناطق ما يجعل منها مناطق قادرة على توفير الخدمات الضرورية (تعليم .. علاج .. إلخ) والأهم فرص عمل للشباب.
وكما هو معلوم فقد عاد الكثيرون بسبب الحرب لمناطقهم الأصلية التي قدموا منها .. كما فضل آخرون النزوح واللجوء لبعض دول الجوار.
وبما أننا بصدد إستعراض “الخيارات المتاحة في زمن الحرب” فسيكون تركيزنا على الذين عادوا لقراهم ومدنهم في مناطق البلاد المختلفة؛ فهؤلاء لابد أنهم بدأوا البحث عن مصدر رزق بعد العودة (الإجبارية)؛ وربما يكون بعضهم قد تمكن من الحصول على عمل تجاري أو زراعي يوفر له متطلبات الحياة .. ولذلك أعتقد أنها فرصة مواتية لهؤلاء الذين عادوا لمناطقهم أو انتقلوا لمناطق أخري داخل البلاد أن يفكروا جدياً في إمكانية الإستقرار والتأقلم مع وضعهم الجديد والمواصلة فيما بدأوه من عمل؛ وآمل أن يكون هؤلاء (العائدون) قد إكتشفوا وتعرفوا على ما تكتنزه مناطقهم من فرص واعدة في كافة المجالات خاصة الزراعة والأعمال الصغيرة.
وقد ذكر لي أحد الأصدقاء الذي كان يعمل موظفاً في إحدى الشركات الخاصة في الخرطوم أنه إضطر بسبب الحرب للعودة لمنطقته بولاية بالنيل الأبيض ونسبة لحوجته لمصدر رزق “توكل على الله” ودخل الموسم الزراعي المطري الذي يشارف الآن على انتهاء مرحلة الحصاد .. مع تمنياتنا الطيبة له ولجميع المزارعين في كافة المناطق بتحقيق إنتاج وفير.
يقيني أن هذا (الصديق العائد لمنطقته) سيواصل في مجال الزراعة حتى لو عاد لوظيفته بعد توقف الحرب بإذن الله .. ولذلك أقول أن أحد الأشياء التي كشفت عنها هذه الحرب هي تلك الفرص الكبيرة الضائعة من الشباب في ربوع بلادنا الحبيبة بسبب إقتناع معظم الناس والشباب على وجه الخصوص وارتباط ذهنيتهم وتفكيرهم بأن فرص العمل وكسب الرزق متوفران فقط في العاصمة وأن التواجد فيها يتيح (لاحقاً) فرصة تحقيق حلم الإغتراب والسفر للعمل في الخارج، وهو الهدف النهائي للغالبية العظمى من الناس الذين يأتون للعمل في الخرطوم.
وبسبب الحرب أيضاً إنتقل بعض كبار الأطباء والاستشاريين بعياداتهم إلى مدن البلاد المختلفة ووفروا بذلك خدمة العلاج بسهولة ويسر للمرضى الذين كانوا يقطعون مسافات طويلة طلباً للعلاج في العاصمة؛ ورغم أنها عودة إضطرارية ومشروطة بزوال حالة الحرب إلا إنها بالتأكيد ستعزز إمكانية انتقالهم مستقبلاً للعمل بمدن البلاد المختلفة.
أيضاً تم إفتتاح العديد من أفرع المطاعم والكافتيريات والخدمات المختلفة بالولايات لتعويض توقف الأعمال في العاصمة؛ وكل ذلك يساعد على تحسين ظروف الحياة في تلك المناطق وكذلك توفير بعض فرص العمل للناس هناك.
هذه بعض من الخيارات التي لجأ لها الناس والمتخصصين والمهنيين والشباب بصفة خاصة من أجل توفيق أوضاعهم ومواءمتها مع الظروف الحالية، خاصة لمن ليس لديهم الإمكانية للنزوح خارج البلاد، أو الذين يودون مواصلة أعمالهم التجارية وفقاً لما تسمح به الظروف الراهنة.
ليس لدي شك أن هذه الحرب ورغم ما أحدثته من دمار وما فرضته من واقع مرير ومؤلم على الكثيرين، إلا إنها ستكون فرصة للشباب لإكتشاف فرص جديدة ومبتكرة لتطويع سبل الحياة وفتح أبواب جديدة للنجاح؛ وكما هو معلوم فإن المشاكل والتحديات تخلق الفرص، وذلك من منطلق أن مواجهة المشاكل والعمل على تجاوزها يتطلب التفكير في الخيارات المتاحة والحلول ومنهما تأتي الفرص لتحقيق النجاح والتغلب على الصعوبات والتحديات.
أقول أن هذا جانب من الجوانب العديدة التي لابد أن هذه الحرب قد لفتت أنظار الجميع إليها .. ورغم ذلك يظل المأمول والمتوقع منا جميعاً (على مستوى الدولة أو الأفراد) أن نستفيد من الدروس والعبر الكثيرة التي أفرزتها هذه الحرب فضلاً عن تكلفتها الباهظة على المستويين العام والخاص.
ختاماً، نصيحتي للشباب الذين عادوا لمناطقهم بسبب الحرب أن يعملوا على إستغلال فرص العمل المتوفرة في كافة المجالات وخاصة المجال الزراعي والذي هو مستقبل البلاد الواعد؛ بالإضافة إلى أنه لا يحتاج لرأس مال كبير، وأيضاً يمكن أن يكون بداية الإنطلاق لمشاريع طموحة في مجال ريادة الأعمال للشباب في كافة المجالات .. التكنلوجيا .. التصنيع .. والاكتشافات.
وكما يقولون “أول الغيث قطرة!!”.🔹
الثلاثاء ١٦ يناير ٢٠٢٤م