مقالات سياسية

سنمسح  دمع حبيبتنا أمدرمان

عندما كنت أعود إلي بلادنا الدافئة من  بلاد الشمال الباردة، تمر دقائقي كالسنوات إلي حين وصولي الجسر الذي يعبر بي طرف النيل الأبيض عند اقترانه بالأزرق إلي صدر  أمدرمان؛ ماراً بشريان عنقها الشهير بطريق “الموردة”، المرفأ التاريخي للقوارب الشراعية، منذ قرنين، عند بداية النيل . وتتفرس عيناي ذلك العنق الموشح بورود اول حديقة في المدينة،  متربعة عليه كماسة مدببة، تلمع يميناً علي ثغر النيل الجميل، ويساراً علي حيها العريق “الموردة” الذي يحتضن كل أعراق السودان الحبيب.

كنت دائماً أفضل يمين الحديقة المطل علي النهر، لكي انحني إجلالاً، عند المدخل التاريخي للمدينة الحبيبة، “عروس البلاد”؛ بوابتهاالوقورة، وقار حارسها “عبد القيوم”، الذي حملت اسمه منذ قرن ونصف. قلت عروس البلاد، أسوةً، بمقولة شيخ من شيوخ الطريق الآخر، عندما كنت أحزم أمري للسفر إلي البلاد الباردة؛ “أنت ماشي لي باريس؟” قلت نعم. قال مبتسما ، مبروكة عليك “عروس الدنيا”!

حقيقة، بعبوري تلك البوابة، قبلت يدي عروس بلادي أمدر الجميلة.  لمحت يمنةً، ثانوية  البنات الأولي في السودان، التي رأيتها أول مرة عند السادسة من عمري..مع شقيقتي الكبري في امسيات جمعيتها الأدبية. تلك المدرسة التي أشعلت منها شموع وعي المرأة السودانية – شموع اتحاد نسائنا – عند منتصف القرن الماضي. من بعد مرت عيني علي حافة كلية المعلمات، الأولي في السودان  فتذكرت وتخيلت أمي علي بابها في ثلاثينات القرن الماضي. أجل، تلك البقعة، أضائت طريق نساء بلادنا. لكن للحق، “رفاعة” أيضاً رفعت أولي شمعاتها.  ويميناً أيضاً، عالي ذلك الطريق، آثار هامة تزين معصم المدينة؛ بيت الخليفة وقبة الإمام المهدي.  ويميناً ماسة أخري، داكنة اللون، “سجن الساير”، والساير حارسه الأول قبل قرابة قرن وثلاثين سنة. السجن الشهير الآن بسجن النساء، المخصص لصانعات الوعي المناضلات، في زمن الظلم والظلام، وصانعات “الخمور البلدية”، الهاربات من الفاقة!

بعد مسافة قصيرة مروراً بحي “الملازمين” الأنيق، ندلف الي مثلث باضلاع لا يتعدي أطولها نحو مائتي متر. علي أركانه، توجد بيوت أول رئيسين للوزارة في تاريخ السودان، وبيت رائد من أهم رواد الإستنارة في البلاد. .. صدفة أم ميعاد؟ لا أدري ، لكنها أمر مدهش بلا شك.

ولحظات ، نصل الطريق “الشاقيه الترام”  -قبل ان يموت الترام- في منتصف القرن العشرين –

حينها أمد يميني شرقاً تجاه النيل مروراً بأحياء ود البنا وبيت المال وابروف ويساري نحو السوق التاريخي الكبير مروراً بأحياء القلعة، مكي ود عروسة ،المسالمة الأولي  “مسالمة اليهود” والركابية. أمدد ساعدي لاحتضن مسقط رأسي، حي ود أرو، المعتق بآذان جامع الشيخ الصديق أورو وميكروفون راديو هنا أمدرمان من بوفيه وداورو الراقي، أول كافتريا حديثة وسط المدينة بعد “سوق الموية” وسط السوق الكبير.   

ولم انس كالعادة، ان أمسح، بكفي رأس البيت الذي رأيت فيه النور، وألوح بيدي الأخري لباب البيت المقابل، حيث أقراني أصدقاء الطفولة.

وتستمر الرحلة الي الحي الذي به بيتنا الذي بنيناه في بداية خمسينات القرن الماضي، مروراً بصينية “الهجرة” وغرباً تاركين يميننا ويسارنا حي ودنوباوي الشهير، حتي شارع كرري، ثم  حي العمدة شمال.

بعد أن قبلت يدى والدي وعانقت إخوتي،  ارتميت في أحضان حبيبتي، أمي، مسحت دموعها بوجهي وقبلت رأسها  وملأت رئتي من عطره  الصندلي الأريج، وانحنيت أقبل كفيها الطاهرين.

في تلك اللحظات، يجري دمي سريعاً يشتد دق قلبي.

رحم الله حبيبتي امي وأبي الغالي ورحم كل من رحلوا من حولنا في حبيبتنا أمدرمان. ورحم الله أمدرمان نفسها بعد الأذي الذي لحق بها بغدر هولاكو وهولاكو مغولا زماننا  الأشرار.

عند العودة،  إن عدنا، سنسلك طريقاً  آخراً. !!

الحسن النذير

‫2 تعليقات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..