هل والفنا الموت؟!

البراق النذير الوراق
في زمن مضى، كانت نشرات أخبار السادسة صباحاً والثالثة ظهراً على إذاعة أمدرمان مصدراً مهماً للإعلام بالوفيات، وكان الأهل والآباء والأمهات ينصتون باهتمام لنشرة الوفيات في خاتمة المادة الإخبارية. لم يكن الهاتف الجوال قد اخترع بعد في ذاك العصر، عصر الراديو، وحتى الهواتف الأرضية كانت محدودة جداً.
يقدم المذيع أو المذيعة نشرة الوفيات بشكل روتيني، ولا يتعدى عدد المُعلن عن وفاتهم سبعة أو تسعة، وحين يزيد العدد عن ذلك ففي الغالب حادثة غرق جماعي أو اصطدام مركبة.. توفى فلان الفلان والد فلان وفلان وشقيق فلان بالسعودية ويقام المأتم في المكان الكذا ويختم المذيع نشرته بالقول: لهم الرحمة وإنا لله وإنا إليه راجعون..
ربما يرد اسم لأحد قريب أو حبيب بعد فينة وأخرى وقد تطول هذه الفينة أو تقصر، أيام، شهر وشهور، وربما يرد اسمع المستمع شخصياً، فهذه كانت الوسيلة الأسرع والأسهل لإخبار الأقارب والأهل في سائر البقاع بفقدهم لعزيز.. حينها تلفح الأم ثوبها وتلملم أغراضها الحيوية التي تستخدمها في يومها العادي وتخاف عليها من “البشتنة” حال غيابها، وترتب الأحوال شديدة الأهمية وهي تحوقل، وتترك ما دون ذلك بين الوصايا والتحذيرات، فملازمتها لبيت العزاء قد تطول حيث يتناسب ذلك طردياً مع زيادة قرب الفقيد واشتداد ألم فقده لديها.. ويلف الأب العمامة على عجل وعينه تجول بحثاً عن المركوب في ذات اللحظة، ثم يحمل بعض المال لزوم الكشف، ليلحق الدافنة، فهذين أهم طقسين في تعزية أهل المرحوم..
هذه الحرب جعلت منا كلنا ضمن نطاق نشرة أخبار، عدد مهول من الموتى، أخبار الوفيات أكثر بما لا يُقاس مقارنة بأخبار المواليد؛ مختلف الأعمار، مختلف المناطق مع تباين أنواع القرابة لأهل المرحوم أو المراحيم؛ يموت الأب اليوم ليلحق به الابن والابنة، وفي حالات تقتل أسرة بكاملها، فهذا زمن الدانات التي لا ترحم والقصف الذي لا يفرز والموت بأسباب لم تكن معتادة من قبل! مات بسبب البرد أو قتلته دانة بعد أن أصابت المسجد الذي يصلي فيه، أو بسبب الشعور بالانهزام..
زمان أهلنا قالوا الموت ما بتوالف لكن كيف يكون الحال عندما يوالفنا هو عنوة وبأقسى أشكاله، القتل؟! المقولة تصلح في حالات الموت المتوقع كمثل الموت الذي يصيد صاحب المرض العضال أو أصحاب الأمراض المزمنة المتوطنة في الجسد، أو لكبار السن.. الخ، والمقولة كذلك تصلح في حالة الموت الفجائي الذي هو أيضاً في نطاق المتوقع، فحادث السيارة فجائي وفي الغالب غير متعمد ولكن من المتوقع أن يؤدي للقتل، الغرق في النيل فجائي وفي الغالب غير متعمد ولكنه متوقع لسكان محيط الأنهار وسبيِّحة زمن الجهل..
كانت مقولة الموت ما بتوالف مخصوصة للأحياء، حيث تشير لحالة الحزن والكرب والشعور بالفقد التي تصيب أقارب وأحباب الميت، ولكن اليوم والفنا الموت لأن من يحملونه وأدواته فاقوا سوء الظن، ولأن نشرة الوفيات في زمن الحرب أصبحت مبذولة على صفحات السوشيال ميديا كأخبار اعتيادية، صور صور صور وأخبار أخبار أخبار وصفحات من السواد! موت بسكتة قلبية، وموت بالرصاص وموت على الشيوع! لم يعد أحدنا يستغرب أن يكون أي شخص عرضة للموت، الكبير والصغير، الفتاة والشاب والأطفال، لأن ضربات الحزن المتكررة على المشاعر بدأت تفقدها الرهافة، حيث يفقد الناس مع ذلك أهم عامل للتعامل مع الموت كحالة مقدسة، عامل التآلف معه!
نشرة الةفيات كانت الساعة الثامنة مساء
نعم استاذ الوراق، لقد أهدروا الحياة ورفعوا راية الموت للشعب السوداني. تجاهلوا الوضع الإنساني الكارثي وركزوا مع أهدافهم السلطوية. والآن أننا أحياء بصمودنا وتكاتفنا وصبرنا مع بعض.
هذه الحرب لعنة الجهل والطمع وغياب منابر الوعي التعليمية بكافة أشكالها منذ عصور. ظل الشعب السوداني مسقوف بمناهج ومنابر وقوالب ليست مصممة للنهوض بالوعي والإرتقاء بالعقل والطموح الدنيوي، انها مصممة لخدمة السلطة. لذلك تهدر حياتنا ومواردنا ورفاهيتنا وحتى موتنا تهدر قساوته ويصبح مبرر لخدمة السلطة.
ظل الموت عبارات عادية للإستهلاك السياسي والبيع والشراء في سوق الإرتزاق والتملق والخطب الدنيئة. والهدر سمة السلطة كل يوم.
ولعلمهم نحن نموت بالجسد ولكن الوعي بالقضايا الإجتماعية والوطنية لا تموت. وكما بدأت تتضاءل شعبيتهم وتضعف قدرتهم على حشد الناس لممارسة الموت تحت راية في سبيل الله والديمقراطية وغيرها من مؤلفات النفاق في سبيل نيل السلطة على أجساد الأبرياء الذين ما نسوا ولن ينسوا أن مكان الظالم للأماكن المعزولة في التاريخ.
كم هو محزن أن نفقد الأعزاء والاصدقاء والأقارب لمجرد أنهم تواجدوا ضمن دائرة توسيع النفوذ للقتلة. وكم هو مخزي أن يتوسع نفوذ من لا يملك ويتوهم أنه يسعى لتخليصنا من الطرف الآخر وهو ينتهك قوانين السماء والأرض ويفعل ما لم يفعله جبابرة التاريخ ومع ذلك يردد الله أكبر.
نحن أحياء وسنظل أحياء لأننا الشعب والشعوب لا تموت. ويل لهم من حساب الشعب السوداني. وويل لهم من حساب رب العالمين.